بنية الاجتماع وثقافته :- اقرأ
تبحث المدارس الفكرية العلمية والاجتماعية ، موضوعة العلاقة القائمة بين الوجود الاجتماعي المادي ووعي وثقافة هذا المجتمع بنوع من التأمل ، والذي يدفع الفكر الانساني الى عملية البحث عن نوع تلك العلاقة ، ومدى ملازمة احداهما للاخرى ، والكيفية التي تؤثر الاحدى بالاخرى ، ومدى هذا التأثر ، وهل هو تأثّر من نوع عكسي او احادي الجانب ؟.
وهذه البحوث برزت عندما التفت الفكر الانساني الى عملية المعرفة الانسانية من قديم الزمان ، والكيفية التي تتشكل فيها تلك المعرفة الانسانية ، وماهي المصادر الحقيقية للمعرفة الانسانية ؟.، وهل هي مصادر مادية حسية بحتة أم ان هناك مواردا اخرى غير المادية والحسية هي المساهمة ايضا في بناء المعرفة الانسانية ؟ وهل هناك افكارا فطرية غير مادية او حسية تساهم بتشكيل المعرفة الانسانية ؟........ الخ .
والحقيقة كانت هذه السجاليات الفكرية هي الموضوع الفلسفي الاول ، والذي تناولته المدارس الفكرية الفلسفية والعلمية الاجتماعية في باب ( نظرية المعرفة ) والذي تناولت فيه كل المواضيع المتصلة بهذه النظرية التي تبحث عن الحقيقة في موضوعة ( مصادر المعرفة الانسانية ) وهل هي منعكس مادي للوجود الاجتماعي فحسب ، ومن ثم منعكس حسي وتجريبي ايضا ؟، ام ان هناك منعكسات اخر تساهم في تموين المعرفة الانسانية وتساهم ايضا بالتركيب لهذه المنظومة المعرفية ؟ ومن بعد ذاك توصلنا الى القيمة الحقيقية لهذه المعرفة ، وهذا هو الاهم في البحث او السجالات الفكرية التي قامت حول هذه الموضوعة / انظر : الصدر محمد باقر / فلسفتنا / نظرية المعرفة .
وعلى العموم وباعتبار ان ذالك موضوعا يدرّس في ابواب التفلسف والمعرفة ، فما يتصل ببحثنا هو جزئية العلاقة القائمة بين بنية الاجتماع الانساني المادية وثقافته باعتبارها منعكس عن تلك البنية المادية ، لنتساءل حول هذا المنعطف الفكري ، ولنقول : ماهي تلك العلاقة ؟. وهل هي علاقة ترتقي الى مستوى المنعكس الحتمي لتكون البنية المادية هي هي مصدر لكل المعرفة والثقافة الانسانية ؟. واذا ما صادفنا هنا او هناك نوعا من الاشكالية بين ثقافة راقية جدا ، وبنية اجتماعية بدائية وساذجة جدا او العكس ، فبماذا يمكننا ان نفسر هذه الاشكالية بين البنية والفكر او المعرفة او المنتج الثقافي ؟ . ، بمعنى اكثر اسلامية : اذا صادفنا ( اقرأ ) - مثلا - فوق بنية اجتماعية لم تفكر او تشغل بنائها المادي باي عنوان ينتج ( اقرأ ) فبماذا نستطيع ان نفهم الانتاج المعرفي : - ( اقرأ ) هنا ؟. وهل هو منعكس مادي لبنية الاجتماع ايضا أم هي منتج ولكنها فوق المادي ؟.
يرى البعض : ( ان العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي ( الفكر ) ، علاقة موضوعية شمولية فهي لاتختلف في بعض الشعوب او المجتمعات عنها في البعض الاخر . نعني بها العلاقة التي تحتم انعكاس الوجود المادي ، بمختلف اشكاله ومظاهره ، على وعي الانسان : كل انسان ، في كل زمان ومكان . ان الحتميات العامة في تاريخ الوجود الاجتماعي هي واحدة في كل مجتمع ، كما هو شأن الحتميات العامة في تاريخ الوجود الطبيعي ................................/ انظر : حسين مروّة / النزعات المادية في الفلسفة العربية والاسلامية / ج 1 / ص 241/ دار الفارابي ط السادسة ) ؟ .
والحقيقة ان هذا الرأي ، وان لم نكن ننتمي اليه فكريا ، ولكن لنجادله عقليا ، ولنتسامح في قبوله علميا ، ولنأخذ به كمنطلق يحمل من الحقيقة الشيئ الكثير ، ولنعتمد على الرؤى التي تتمخض عنه في تحليل الظواهر الاجتماعية ( لاسيما ان هناك في الفكر الاسلامي نفسه مقولات : الفكر مرآة صافية - كمنعكس - و - والله اخرجكم من بطون امهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون / 78 / النحل - باعتبار انعكاس المعرفة عن الحواس المادية ) ، ومن ثم وباعتبار انه يؤمن ان هذه النظرة التي يطرحها علمية وحتمية ولا تختص بمكان او زمان معين ، سنطرح عليه الحقبة والتاريخ والزمن الذي تحركت فيه ( اقرأ ) القرانية اجتماعيا ، ولنسأله حول الظاهرة الاجتماعية العربية التي انتجت ( اقرأ ) القرانية في بداية التحرك الاسلامي ، فهل كانت ( اقرأ ) الاسلامية هي منتج اجتماعي مادي طبيعي لحقبة النهضة الاسلامية الاولى ؟. او هل كانت البنية الاجتماعية العربية ابان النهوض الاسلامي مهيئة لولادة ( اقرأ ) القرانية ، ومن ثم لتكون البنية الاجتماعية تلك هي المنتج الحتمي لبذرة وعلقة ( اقرأ ) القرانية ؟.
من وحي المدرسة الحتمية العلمية نفسها نؤكد انه :( لعلنا نشير الى ان نمط الثقافة - بالمعنى الانتروبولوجي المعني هنا - الذي كان سائدا ومهيمنا في المجتمع الحجازي المعاصر لمحمد ، لم يكن نمطا كتابيا ومؤسسيا ، بقدر ما كان نمطا كلاميا سلوكيا . فالكتابة والقراءة لم تشغلا حيزا عميقا وواسعا في المجتمع المذكور ، بل مثلتا حالة نخبية ومن ثم نخبوية ./ انظر : مقدمات اولية في الاسلام المحمدي / ج 4 / ص 387 / الدكتور طيب تزيني ) .
وباعتبار ان هذه الرؤية ترى ان مادة ( اقرأ ) ومنتجاتها الفكرية لم تكن منطلقة من بنية الاجتماع العربي انذاك ، فياترى كيف لنا ان نحلل ونفسر بروز وولادة ( اقرأ ) القرانية في المجتمع العربي المعاصر للرسول الاعظم محمد ص حتميا ؟. او ومن زاوية اخرى نتساءل حول : هل كانت البنية الاجتماعية قادرة علميا آنذاك على ولادة ( اقرأ ) القرانية ، وبكل ابعادها الثقافية المتمثلة بالكلمة القرانية بصورة عامة ؟.
من واقع الرؤية العلمية المذكورة سالفا :( لابد ان نلحظ هنا واقعا تاريخيا في موضوعنا قد ينفي هذا الشكل من التطابق - بين الثقافة القرانية وبنية الاجتماع العربي آنذاك - وهو ماسبق القول فيه من ان مستوى تطور الاشكال الثقافية التي عرفناها عن مرحلة الجاهلية المتصلة بعصر الاسلام ، كان اعلى من مستوى شكل العلاقات الاجتماعية لهذه المرحلة ./ انظر : النزعات المادية / مروّة / ج 1 /ص 242 ).
والحق اننا كما لحظنا هذا المنعطف الاشكالي بين البنية المادية للمجتمع العربي تاريخيا ، والوعي او الثقافة الاجتماعية والتي طرحت اسلاميا في حقبة الفصل بين الجاهلي والاسلامي القراني ، كذالك انصار مدرسة الحتمية الاجتماعية لحظوا ذالك ايضا وتساءلوا بذكاء :( فهل يعني ذالك خرقا لقانون الانعكاس - انعكاس الثقافة عن بنية الاجتماع - ؟. )
فأجابوا بالنفي ، باعتبار ان قانون الانعكاس لايمكن ان يخرق ، وعليه كان البحث ملاحقا لهذه الاشكالية من زاويتين :
الاولى : قالت بان هناك مرحلة قطع تاريخية تخللت بين تاريخ الجاهلية الاولى والجاهلية العربية الثانية ، وباعتبار ان مرحلة القطع تلك اضعفت من بنية الاجتماع العربي القائم انذاك ، الا انها لم تستطع ان تلغي التكامل الثقافي الصاعد للمرحلة التاريخية السابقة ، ولذالك كانت هناك فجوة بين ثقافة عالية وراقية وبين بنية كانت متطورة ، ولكنها بعد احداث خارجية (حروب ) وداخلية عربية (انهيار سد مأرب في الجنوب ) تراجعت وتهشمت في زمن ولادة الاطروحة الاسلامية ، فجاءت الثقافة اكثر نموا من البنية الاجتماعية العربية انسجاما وتكاملا لمرحلة التاريخ السابقة ( حسين مروّة / النزعات / مصدر سابق ) ؟.
الثانية : فانها ذهبت للقول ب ( الاستثنائية ) في شخصية محمد العجيبة ومقدرتها الثقافية العالية في التقاط مفصل او لحظة التطور والدفع لتصنع من هذه اللحظة ثقافة هي ارقى من البنية الاجتماعية العربية للعصر الجاهلي ( د : طيب تزيني / هذا احد مئة فيلسوف في العالم العربي يكرمّهم الغرب بامتياز لجهودهم الفكرية المبذولة لنقد الفكر الاسلامي ؟. ) ؟.
والحقيقة ان كلا التبريرين ، وبغض النظر عن كل ماذكر في حتمية الانعكاس وغيرها غير ناهض ، فاننا لانطمئن لمثل هذا التلاعب اللاعلمي في المصطلحات الاجتماعية ، ونعم نقول ان اطروحتنا الاسلامية لم تكن منتجا اجتماعيا مباشرا، لتكون من ثم منعكسا عن هذه او تلك من البنى الاجتماعية فحسب ، وانما كانت هي اطروحة الاهية ، وتفاعلا حيا بين اللاهوتي والانساني ، ولذالك هي جاءت على قاعدة التحدي المستمرة ، فلوكانت العملية الثقافية القرانية بالامكان تحليلها علميا واجتماعيا فحسب و بمبررات القطع التاريخي لنسد ثغرة او فجوة السذاجة او بساطة البنية الاجتماعية العربية انذاك وعدم مقدرتها على انتاج ثقافة راقية كالثقافة القرانية ، فليقل لنا ( المفكر الماركسي المرحوم حسين مروّة رحمه الله ) الذي يتبنى اطروحة القطع تلك ، فهل استطاع الوصل التاريخي الاتيان بثقافة كالثقافة القرانية بصورة عامة ليكون القطع التاريخي سابقا هو الحلّ لرقي الكلمة الثقافية القرانية ؟.
او فليبرر لنا التحليل الاجتماعي العلمي ، لماذية عدم استطاعة التطور العلمي الحديث وحتى يومنا هذا ، على الاتيان او الانتاج لثقافة ترتقي الى مستوى الثقافة القرانية ؟. فالعلم والانسان والحياة والاجتماع ....، وصل الى مرحلة من النضج الفكري والعلمي والجمالي الى مستوى متقدم كثيرا على مستويات المجتمعات العربية القديمة ابّان تحرك الكلمة والثقافة القرانية ، فهل بأمكان العصر الحديث بكل تقدمه وتطوره - بغض النظر عن التاريخ وبنية اجتماعياته الساذجة - وبكل تكامل بناه الاجتماعية ان ينتج ثقافة وكلمة تصل الى مستوى الرقي الفكري والروحي والعلمي والقانوني والاجتماعي للكلمة القرانية ؟.
هذا - حقيقة - ما فات استاذنا ( مروّة ) وهو يحلل ظاهرة الثقافة القرانية الاسلامية ، وارادة ربطها ماديا ببنية الاجتماع العربي تاريخيا ، مع انه لو كان اكثر انفتاحا من انغلاق المادية الحتمية لتسائل مع نفسه كمفكر ، ولماذا والحال ان الكلمة القرانية تتحدى الانسان زمانيا ومكانيا على الاتيان بمثلها ، لم يستطع الانسان او البنية الاجتماعية ان تستجيب لهذه الدعوة والتي تبدو انها طبيعية واجتماعية حسب وجهة النظر الحتمية والمادية ؟. ولو كانت الظاهرة القرانية كثقافة ومعرفة وفكر ، لوكانت منتجا بشريا لاي مرحلة تاريخية فهل كانت لتجرؤ على طرح صيغتها باسم التحدي لكل عصر وزمان ومكان وانسان ؟. ومن ثم قد طرح البعض الحتمية التاريخية كمطلق زماني ومكاني وتاريخي لظاهرة المنعكس تلك فهل ياترى صمدت تلك الرؤية بحتميتها المزيفة امام متغيرات الزمان وتطورات الاجتماع الانساني ، فلماذا والحال ان البشري مكتوب له التغير والتقدم والتكامل والموت ، لم تكن الظاهرة القرانية بهذا المعنى ؟.
كل هذه المحاور هي التي تجعل من دراستنا للظاهرة القرانية ، بنوع من التأمل ، وحسب المدارك والمنافذ العلمية تصل الى حقيقة ان هذه الظاهرة لم تكن ولن تكون من منتجات العقل الانساني بصورة عامة او منتجات المنعكس الاجتماعي العربي الجاهلي بغض النظر عن ما لو كانت هناك بنية اجتماعية بامكانها ولادة ثقافة كالثقافة الاسلامية القرانية او لم تكن هناك تلك البنية المتطورة ولكن المهم ادراك ان الثقافة القرانية لها وجه اجتماعي انساني مع بنية لاهوتية اسلامية ؟.
اما الزاوية الثانية ، والتي طرحت مبرر ( الاستثنائية ) لشخصية الرسول المعظم محمد ص ، للتملص من استحقاقات الاعتراف باعجازية الكلمة القرانية ، فان هذا المبرر هو الاخر لم يكن تحليلا علميا او اجتماعيا يفسر او يشرح لنا هذه الاشكالية التي كسرت من قانون ( الانعكاس ) الاجتماعي الذي ظهر وتباين بين ثقافة قرانية راقية وواقعية الى حد الاعجاز انتجت ( اقرأ ) ، وبين بنية عربية اجتماعية تاريخية بدائية وساذجة لم تستطع انتاج سوى التعايش مع حرارة الجغرافية وموسيقى الكلمة الاسطورية ؟.
ان الاتكاء على ( الاستثنائية ) في دراسة الظاهرة القرانية ( اقرأ ) لاتقل اسطورية خرافية - حقيقة - عن العقل البدائي الانساني والذي كان مرغما لتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية ، باسم ( الاستثنائي ) سواء كان هذا الاستثنائي مخلوقا اسطوريا او قوى غيبية سحرية ، وعليه من حقنا هنا ان نتساءل ، او نسأل الاستاذ الفيلسوف ( الدكتور طيب تزيني / انظر مقدمات اولية / مصدر سابق / ج 4 / الباب الثالث : فصل اول : جدلية الاستثنائي والعادي في شخصية محمد / ص 385 ط اولى ) صاحب نظرية (الاستثنائية ) حول المبررات التي دفعته الى تبني الاستثنائية في دراسة الظاهرة القرانية ؟. وهل يكون او تكون الاستثنائية ايضا من ضمن المفردات العلمية والتطورية التي يتمشدق بها الاشتاذ العلمي التطوري الدكتور طيب تزيني لتحليل الظواهر الاجتماعية الثقافية الانسانية البشرية ؟.
طبعا لو كان مصطلح ( الاستثنائي ) مطروحا من خلال العقل الاسلامي ، لكانت الحملة قد استعرت على هذا التخلف الذي يفسرّ ويّحلل الظواهر الاجتماعية باسم الاستثنائي ، ولكن بما ان العقل العلمي المادي - مدعي العلمية - التطوري هو الذي يطرح ( مصطلح الاستثنائي ) فعلينا ان ننظر لهذا ( الاستثنائي ) باحترام وعلمية - لااعرف حقيقة لماذا - ولكن ومع ذالك من حقنا معرفة هذا الاستثنائي لمّ كان هنا علميا وسادّا وراتقا لفتق الانعكاس الحتمي لعملية انفصال الثقافة القرانية عن بنى الاجتماع الانساني العربي انذاك ؟.
الحقيقة ان العقل العلمي وبأطلالة بسيطة على ظروف الواقع الاجتماعي العربي ابّان ولادة الكلمة القرانية ( اقرأ ) سيلاحظ وبدون اي شك ، ان هذه الكلمة لم تولد من رحم البنية الاجتماعية العربية القائمة آنذاك ، كما انها لاتمثل باي حال من الاحوال عملية انعكاس لبنية اجتماعية مادية ( كمصطلح علمي يهدف الى التأكيد على ان كل ماهو فكري فهو بالضرورة مادي ) سواء كانت لمرحلة ولادة الكلمة القرانية او لما قبلها من بنى تاريخية اجتماعية ، وعليه كيف للعقل العلمي وهو مادي الاتجاه والمعرفة والافق ان يّوفق بين اطروحته القائلة بالحتمية الانعكاسية بين ثقافة المجتمع وبناه الاقتصادية المادية ، وبين هذا الفرق والخرق الواضح لهذه المعادلة في اطروحة الاسلام القرانية ؟.
هنا لابد من البحث وداخل اطار المادية ايضا من مبرريسدّ من هذا الفتق الايدلوجي ، فكان ( الانقطاع التاريخي ) من جهة مبررا لحلحلة هذا المازق الفكري الايدلوجي ، و ( الاستثنائية ) السحرية من جهة اخرى - مع الاسف - كافيتان كرؤية لارضاء الضمير العلمي التطوري المادي ، في عملية تناول الظاهرة القرانية كمنتج ثقافي ومعرفي لحقبة زمنية اجتماعية لاتعرف من ( اقرأ ) الا انها عار حقيقي لاينبغي لابناء الليل الاقتراب منه او لم يكن بمقدور هذه البنية الانفتاح عليها ؟.
الحقيقة ان معادلة ( الاستثنائي ) هي ماتثير القلم الاسلامي على المناقشة والمجادلة في هذا الموضوع ، باعتبار ان مصطلح ( الاستثنائي ) ايضا مطروح اسلاميا على او حول الكلمة القرانية ، ولكنه استثنائي من نوع اخر يختلف عادة عن مصطلح (الاستثنائي ) المادي ، فياترى ماهو الفرق بين الاستثنائي المادي في موضوعة الكلمة القرانية ، وبين الاستثنائي الاسلامي في نفس تلك الموضوعة ؟.
ان الاستثنائي في الفكر الاسلامي هو اللابشري المنخرط في البشري في واقع الحياة الانسانية ، وعندما يقول الفكر الاسلامي ان الطرح القراني طرحا استثنائيا ، فانه يقصد ان هذا الطرح لابشريا في ابعاده ومقاصده وتراكيبه الفكرية مع انه من الجانب الاخر بشري الاهداف والحوار والرؤى ، ولذالك هو معجز لايستطيع البشر الاتيان بمثله ( لاستثنائيته ) الغريبة ، وكذا عندما يطرح الفكر الاسلامي مصطلح الاستثنائي في او على شخصية الرسول الاعظم محمد ص ، فانه ينطلق من كون الاستثنائية في هذه الشخصية تتبلور في كونها ظرفا رساليا استطاع الانفتاح على الافاق الكونية اللاهوتية الاسلامية لتنفتح من ثم عليه تلك الافاق الكونية ، ولتجعل منه نموذجا استثنائيا غير مهيئا لباقي البشر كحالة طبيعية ، فهو :( قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ ...) استثنائي من جهة وبشري من اخرى ؟.
واستثنائيته تلك ليست بشرية تتبلور في عبقريته الفكرية او قدرته النفسية الشخصية او تألقاته الروحية المنقطعة النظير ، كلا بل استثنائيته في كونه متصلا لاهوتيا منفتحا كونيا مستقبلا لمرسلات العالم المطلق خالق العالم المحدود والمادي ؟.
اما الاستثنائي المادي فهو استثنائي بشري مادي فحسب من جميع ابعاده الفكرية والنفسية والروحية ، يقول ممثل الاستثنائية الجديدة :( كان محمد يمثل شخصية استثنائية ، بقدر ما مثل شخصية عادية . أما ( استثنائيته ) فقد كمنت في قدرته الذاتية الهائلة على الاستجابة ، بفاعلية ذكية مركزة لوضعيته الاجتماعية المشخصة ، بمثابتها لحظة تقاطع وتوتر تاريخي انعطافي ............. / د : طيب تزيني / مقدمات اولية / مصدر سابق / ص 385 ) .
ومع اننا لانستطيع القبول بهذه المصادرة الفجة لظاهرة الاعجاز اللاهوتية الاسلامية باسم الاستثنائية ، ولكن مع ذالك الا يحق لنا ان نستفهم عن تلك الاستثنائية المادية الاعجوبة التي هيئت من محمد ص ان يكون محركا وملتقطا لمفصل تاريخي غير من وجه الكرة الانسانية بالتمام ، فهل هذه الاستثنائية العلمية والحتمية هي استثنائية بشرية بالامكان تكرر نموذجها الانساني باعتبار انها فعل انساني محتمل الوجود علميا ؟. ام ان هذه الاستثنائية من نوع الاستثنائيات الخارجة عن المقدرة البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل ؟.
اذا كانت هي من نوع الاستثنائات اللامتكررة بشريا ، فلا اشكال يذكر بيننا وبين الاستاذ تزيني ، اما ان كان المقصود الاستثناء البشري المحتمل وجوده ، فليدلنا الاستاذ الفيلسوف عن ذالك المحتمل البشري الذي بامكانه ان يتمثل ما قام به وما قدمه رسول الله محمد ص ، فليرشدنا العقل الحتمي العلمي الى الشخصية الانسانية التي تكررت بعد محمد ص ، لنطالبها بان تأتي بما اتى به محمد رسول الله من فكر وثقافة وعلم قراني ، لنسقط كل هذا الكيان المسمى اعجازيا ب ( القران الكريم ) ولنتنور من ثم الى كون هذا المنتج الفكري والعلمي والثقافي القراني الذي جاء به محمد بالامكان طرح مثله واعمق منه فكريا وعلميا ونفسيا واجتماعيا وكونيا وفلسفيا واقتصاديا ........الخ من انسان استثنائي اخر ؟.
هل يتمكن دعاة الاستثنائية في شخصية الرسول المعظم محمد بن عبدالله ( روحي له الفدى ) من الاتيان بأنسان أمي لايقرأ او يكتب ، ليطرح ثقافة وعلما وفكرا خلق أمة وبنى حضارة ، وغير مجرى تاريخ وصنع رؤى وشيد اطروحة ....الخ ؟.
ولكن ومن جانب اخر نتساءل حول الدوافع الفكرية والممونات التأملية التي دفعت العقل العلمي الحتمي للجوء الى ( الاستثنائية ) في قراءة الكلمة القرانية ، ولماذا والحال ان المدرسة العلمية الحتمية تؤمن بالعلم والواقعية والمادية فحسب التجأت في هذا المنعطف للاسطورية والخرافية واللامادية واللاعلمية في موضوعة ( الاستثنائية ) في دراسة الكلمة والشخصية الرسالية الاسلامية المحمدية ؟.
كان من حق الرؤية العلمية ان لاتتنازل عن الحتمية الانعكاسية بين بنية المجتمع ووعيه الثقافي ، كما انه كان بالامكان الاكتفاء برؤية ( القطع التاريخي ) والتي يطرحها البعض من المفكرين والفلاسفة المنتمين الى المدرسة العلمية المادية ، فلماذا والحال هذه كانت النقلة او القفزة نحو الاستثنائية العلمية ؟.
نعم الاستثنائية توفر الاغراض المادية هنا اكثر مما توفره رؤية ( القطع التاريخي ) هناك ، فرؤية القطع ليس بامكانها الجواب على : لماذا لم تتمكن اي بنية متطورة اجتماعية اخرى عربية من ولادة اطروحة اسلامية قريبة او مشابهة من الطرح القراني ؟. كما انها لم تتمكن من تفسير كيفية ولادة الظاهرة القرانية نفسها من انسان أمي لايقرأ ولايكتب ، فلو فرضنا - مثلا - ان بنية الاجتماع العربي انذاك كانت مهيئة لولادة ثقافة كالثقافة القرانية ، فهل من العلمي والممكن ان تكون بنية محمد الامية فكريا قادرة على مثل هذا الانتاج المعرفي الثقافي ؟...... الخ
اما مايتعلق في ( الاستثنائية ) فالواقع مختلف ، فالاستثنائية المادية هنا كالاسطورة البدائية التي توحي بكل ما لم يستطع العقل والعلم الانساني تفسيره في السابق ، ومن ثم رميه على قوى اللامرئي والغيبي ، الا ان هنا الاستثنائي بدلا من الغيبي لتكون المعادلة قائمة على ان : محمد الاستثنائي القادر على الاتيان بالقران الاستثنائي العامل والمحرك للحظة الاستثنائية والمنتج لكل ماهو استثنائي ......الخ ؟.
ان هذه الاستثنائية هي التي فتحت ابواب التأمل حول الانسان الامي الذي تمكن من الاتيان بالمقروء المعجز ، فلو كانت الاستثنائية قادرة على خلق ظاهرة انسانية ثورية ، فهل هي قادرة ايضا على ايجاد كل هذا العلم المقروء من انسان أمي لايقرأ ولايكتب ؟.
بالامكان سحب الاستثنائية على تطوير الفعل الانساني والامكانية الانسانية ، ومن ثم تبلورها الى حالة اعمق واكثر نضوجا ، ولكن هل بامكان سحب هذه الاستثنائية على اللاشيئ لتحل منه شيئ فعليا ؟. فهل بامكان الاستثنائية من جعل محمدا رسول الله ص الامي قارئا مثلا ؟.
كلا بالطبع ليس في امكانية الاستثنائية الانسانية مهما بلغت من قوة ان تخلق من لاشيئ شيئا موجودا ، وعليه كانت الاستثنائية مدخلا لقراءة الشخصية الرسالية المحمدية الاسلامية فحسب، فهي وعلى هذا المنحى استثنائية حتى في حياتها الطبيعية الانسانية ، والتي لم يدرك الكثير من الذين تناولوها بالبحث والدرس انها شخصية بما انها استثنائية فيجب ان تكون مثقفة وقارئة وعالمة ؟.
ان اصحاب الاستثنائية ادركوا هذه المرة ايضا اعجازية مقولة ( الامي ) من جهة ، و ( القراني ) المقروء من جهة اخرى ، فاذا كان بالامكان القفز على حقيقة ان ليس بامكان البنية العربية انذاك من انتاج ثقافة وفكر بوزن الثقافة والفكر القراني الراقي ، فليس بالامكان القفز على حقيقة ان ( اقرأ ) لايمكن صدورها من الانسان الامي الغير كاتب او قارئ بالفطرة ؟.
وعليه لابد من مناقشة اطروحة ( الرسول الامي ) باعتبار ان العقل العلمي الحتمي لايمكنه تفسير وتحليل هذه الظاهرة ماديا ، فمن اين لرؤية علمية مادية لاتؤمن باي نوع من انواع الاستثناء الاسلامي ، ان تحلل ظاهرة انسان أمي فكريا وروحيا وماديا كتابيا وأقرائيا ، ان ينتج هذا الكم الهائل من المعرفة والقراءة والعلم ؟.
اذا وباعتبار انه لايمكن الشك في الحتمية العلمية وكذا حتمية الانعكاس المادي فعليه من اين اتت مقولة الرسول الامي حسب رؤية العقل المادي الحتمي ؟.
الحق ان الكثير من المفسرين والفقهاء والاسلامويين في التاريخ وحتى اليوم - حسب وجهة النظر الحتمية المادية - ، وتدعيما لمقولة ( اعجازية أمية الرسول ) الاسطورية ، حاولوا تفسير كل النصوص التي تشير الى امية محمد على اساس انها اشارة لعدم ملكة محمد للقراءة والكتابة ، والحقيقة غير ذالك تماما ، ولكن وباعتبار ان المفسرين والفقهاء التقديسيين ارادوا ان يسبغوا على قرءان محمد الاعجازية المنقطعة النظير الاتية من انسان امي ، حاولوا جهد المستطاع ا لتغييب من حقيقة امكانية قراءة محمد وكتابته ، فهناك الشواهد التاريخية والقرانية والسيرية التي تشير الى تمكن محمد من القراءة والكتابة والثقافة العالمة غيبها العقل الاسلامي الاسطوري لضمان مقولة الاعجاز من مثل :
اولا : ان مصطلح ( الامي والاميين ) القراني لم يكن مطلقا يشير الى الجهل في الكتابة والقراءة : ( الذين يتبعون الرسول النبي الامي ../ 157 : الاعراف / - ذالك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ../ 75 : آل عمران .....الخ ) وانما كان يشير الى ( أم القرى ) وهي مكة كمكان جغرافي يتوسط جزيرة العرب ، ومن ثم كان اطلاق كلمة ( أم ) في لغة العرب على كل مرجع ومتوسط ترجع اليه الفروع الجغرافية او غيرها ، وهنا مثلت مكة جغرافيا أمّا لجميع الانتشار الجغرافي العربي ومرجعا لهم ، فقوله ( الامي والاميين ) ماهو الا تعبيرا عن مصطلح جغرافي فحسب وليس تعبيرا معرفيا او فكريا؟.
ثانيا : ان القران نفسه يقول بامكانية محمد على القراءة ، وذالك منطلقا من كون ( اقرأ ) القرانية دلالة على ان المخاطب قارئا للمقروء لاسيما ان مقولة ( ما اقرأ ؟.) الرسالية تدل على الاشكال في ماهية المقروء المطلوب قراءته ، وليس نفي ملكة القراءة ، وهكذا في قوله :( لقد منّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا منهم يتلوعليهم اياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) فهنا القران يصرح ان اول واجبات النبي هو تعليم القران لاتباعه ، وان اقل ما يتطلب مثل هذا التعليم هو قراءة المكتوب واستعمال ادواة القراءة كالقلم ؟.
ثالثا : السنة النبوية كذالك تشير الى ان محمدا قد طلب من اصحابه دواة وكتفا في قوله :( ايتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلو بعده أبدا ) في اثناء وفاته ، وكذالك هناك رواية عن أئمة اهل البيت عن ابي عبدالله قال : كان مما من ّالله عزوجل على رسول الله ص أنه كان يقرأ ولايكتب ؟. وبهذا دلالة على امكانية محمد على القراءة والكتابة .
رابعا : المصادر السيرية والتاريخية هي الاخرى تؤكد مقدرة محمد على القراءة والكتابة ، كحادثة صلح الحديبية ، عندما اعترض المفاوض القرشي سهيل بن عمرو على كتابة ( محمد رسول الله ) وطالب بالغائها فاعتذر الكاتب علي بن ابي طالب في رفع جملة ( محمد رسول الله ) من الصحيفة لشدة توقيره لمحمد ، فمحاها محمد بيده ، ليدلل على معرفته بالقراءة ؟.
خامسا : العقل السليم كذالك لايقبل مقولة أمية محمد ، باعتبار ان كافله الثاني عمه ابو طالب ، كان من احرص الناس على الرقي بمحمد في كل شأن ، ولايمكن لمثل هذا الرجل الذي دفع ولده الاصغر علي بن ابي طالب لتعلم القراءة والكتابة وهو صغير ان يغفل عن تعليم محمد هذه الملكة ، وهو المدلل عند ابي طالب بل وصاحب الحظوة الاعلى من ابنائه الصلبيين كعلي وغيره ، فهل يعقل تقصير ابو طالب في تعليم محمد القراءة والكتابة بينما يحرص على تعليم ابنه الاصغر عليا اياها ؟....الخ
الحقيقة ان العقل العلمي المادي ، وحتى بعد طرح كل هذه الاشكاليات في موضوعة ( امية الرسول الاعظم محمد ص ) للتخلص من مأزقية المادي والثقافي كمنعكس حتمي ، لم يوّفق - مع الاسف- للوصول الى اهدافه الغير معلنه علميا ، فهو يحاول الرتق لجلبابه الايدلوجي المهترئ من جانب ، ولكن يتسع الفتق على الراتق من جهة اخرى ، هذا وبغض النظر عن ان العقلية المادية ، وكما اشرنا مرارا انها عقلية منغلقة غير مستوعبة لفكر الاخر ، فكيف لها مجادلته ونقده ، وهي لم تتحمل اعباء الاستيعاب والفهم للفكر الاخر ؟.
ان ما ذكره العقل الحتمي بشأن ( أمية ) الرسول الاعظم محمد ص ، ماهو الا محاولة تملص غير موفقة تماما ، فلو فرضنا جدلا ، ان كل ما قيل انفا هو حق ، وان العقل الحتمي المادي قد اكتشف الدرة الثمينة واتى بالحكاية الحقيقة من اولها حتى الاخر من ذيولها فهل كانت الاعجازية الرسالية القرانية تتأثر بكل ماذكر من اكتشافات يعتقد العقل المادي انه المكتشف لاسرارها التاريخية ؟.
بالطبع كلاّ ؟.
ان الاشكالية الحقيقية للعقل المادي انه لايريد ادراك حقيقة الكلمة القرانية واعجازيتها اللاهوتية ، فهو لذالك اعتقد - كعادته - ان سّر قوة الكلمة القرانية تكمن في مفصل او مقولة: ( الانسان الامي الذي اتى بالمقروء ؟) وعليه كان جلّ اهتمامه منصبا على الكيفية التي يدحر فيها مقولة ( عدم الامية ) للرسول الاعظم محمد ص ، فهو لذالك مجتهد في التقاط كل شاردة وواردة للتأكيد على حقيقة ( ثقافة ) محمد الكتابية والقرائية ، واستثنائيته الفكرية والعلمية ، ولهذا ايضا نجد العقل المادي شديد السعادة وهو يطرح الاشكاليات على هذه النقطة او تلك من النقاط الفكر اسلامية والتي طرحها العقل الاسلامي نفسه قبل المادي وناقشها بموضوعية وعلمية لم يتوصل لها العقل المادي مع الاسف ؟.
وعلى هذا نقول لو فرض جدلا ان محمدا المعظم ص كان كاتبا وقارئا فهل يتغير من المعادلة شيئ يذكر ؟.
كلاّ بالطبع فالاعجازية القرانية متحدية المثقف والعالم والكاتب والقارئ قبل الامي والجاهل والساذج والفطري ...، وعليه فسواء كان النبي الاعظم محمد ص قارئا او لم يكن كذالك وكان اميا ، فلا فرق بالنسبة لاعجازية الكلمة القرانية على الاطلاق ، وحتى ان كان الرسول الاعظم ص قارئا وكاتبا ومثقفا وعبقريا ....الخ ، فليس الاشكال في انه هل كان او لم يكن ، ولكن الاشكالية القرانية الاعجازية انه لامحمدا ص كأنسان ولا غيره من البشر هو قادر على الانتاج الثقافي لمثل هذا القران العظيم ، ومن هنا نحن نؤمن كمسلمين ان الثقافة القرانية او الكلمة القرانية منفصلة تماما عن محمد كرسول ومبشر ومنذر : ( وما محمد الارسول ...) ، كما هي تنأى بسموها العالي ان تكون نتاجا لبنية اجتماعية هنا اوهناك ، ومن هذا نفهم ان موضوعة الامية الرسالية او غيرها لاتقدم ولاتؤخر بموضوعة المقدس القراني الاسلامي ، والمقدس القراني هو من اضفى القداسة على الرسول البشري ، وليس الرسول البشري هو الذي اضفى القداسة على الثقافي القراني ، بمعنى : ان ليس التقديسية كما يدعي العقل المادي هي التي دفعت الفقهاء والاسلاميين للتأكيد على أمية الرسول محمد المعظم ص ليحرزوا القداسية والاعجازية على رسالة الرسول الامي الذي اتى بالمقروء المعجز ، وانما المقروء المعجز هو مصدر القداسة للرسول الانسان سواء كان هو قارئا او لم يكن قارئا ولامثقفا ولا كاتبا .....الخ ؟.
ولكن ومع ذالك للنناقش الاشكالات التي ذكرها العقل المادي حول ( أمية ) الرسول الاعظم محمد ص ، لنرى هل حقا كان العقل المادي موفقا هذه المرة بكل الاستدلالات والدلالات التي ذكرها فكريا وقرانيا وتاريخيا وسيريا وعقليا ؟.
اولا: - يرى العقل المادي : ان مصطلح ( الامي والامية ) في القران الكريم ماهو الاتعبيرا عن مفهوم جغرافي ، وليس له بمفهوم الامية الكتابية والجهل بالقراءة اي اتصال ، والدليل على ذالك ان اللغة العربية تستخدم مصطلح ( الام ) لكل مركز اجتماع جغرافي ، ولذالك سميت مكة ( أم القرى ) والنسبة اليها ( أمي وأميين ) - ( لتنذر أم القرى ومن حولها ../ قران كريم ) ؟.
ان الغريب حقا في هذه اللفتة الفكرية المادية ، انها تتجاهل ان ( أمية ) الرسول محمد ص لم تستنبط فقط من مصطلح (الامي ) فحسب ، ولكنها ايضا مستنبطة من مفاهيم عديدة اخرى في القران الكريم ، مثل قوله سبحانه :( ماكنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون / قران كريم ) وطبيعي ان القران عندما ينفي التلاوة والخط فانه يؤكد على الامية الكتابية والأقرائية ، كما ان مناهضي الاطروحة الاسلامية من العرب قد ادركوا صدق مقولة الامية الرسالية كتابة وقراءة ، ولم يستخدموا في حربهم ضد الاسلام الا مقولات التعليم من الاخرين للرسول الاعظم باعتبار انهم على اطلاع تام على حياة محمد ومن انه لم يتعلم صنعة القراءة والكتابة ، وهذا شيئ لايخفى في مجتمع كان عدد القرّاء والكتاب فيه سبعة عشر انسانا فحسب ، وعليه كانت ممونات مناهضتهم تقول كما حدّث القران الكريم :( ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون اليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين / 103 : النحل ) باعتبار انهم مدركون ان محمدا ص لم يقرأ كتابا مقدسا وغير مقدس ليتمكن من طرح كل هذه الدقة التاريخية ، فلجأوا لمقولة التعلم من الاخرين شفهيا ؟.
ولكن حتى بغض النظر عن هذه النقطة التي تؤكد على الامية من جانب آخر ، فان مقولة العقل المادي وتحليلها مصطلح ( الامي والامية ) على اساس انه مصطلح جغرافي ، ايضا هو تحليل غير موفق ، باعتبار ان اللغة العربية تقول غير ذالك تماما ، فلو قبلنا ان اللغة العربية تطلق على كل وسط استقطاب جغرافي او غيره كلمة ( أم ) كأم القرى لمكة ، وأم الكتاب للفاتحة ، وأم الانسان باعتبارها المرجع الطبيعي ...الخ ، فان نفس هذه اللغة الراقية لاتقبل النسبة التي ذهب اليها العقل المادي الامي لغويا ؟.
ان للمفسرين المسلمين ثلاث تفسيرات او مرجعيات للكلمة القرانية ( أمي ) .
1 - : غير المتعلم للخط والكتابة والقراءة وهي كلمة منسوبة الى ( الأم ) فالامي هو الذي بقي على فطرة الامومة من عدم التعرف على المعارف والكتابات والمعلومات الانسانية ، فلذالك هو ينسب الى الفطرة الاولى للامومة فهو امي ؟.
2 - : الانسان المنسوب الى ( أمة ) وهم المجموعة من البشر والذين يشكلون نمط موحد من الصفات ، ك ( العامي ) المنسوب الى صفات العامة من الناس ، وباعتبار ان العرب آنذاك كانت الصفة الطاغية والمشخصة لوجودهم الاجتماعي هي ( الامية ) اي صفة عدم ملكة القراءة والكتابة ، فقد سمو اميين لعدم وجود كتاب لديهم مقروء او مكتوب ، ولعدم تمكنهم من القراءة والكتابة بصورة عامة ، ولذالك كان يطلق اصحاب الكتب السماوية الاخرى صفة ( الاميين ) على الاجتماع العربي الجزيري :( ذالك بانهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل .../ وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أاسلمتم .../ )
3 - : تطلق كلمة ( أمي ) على المشركين العرب الذين لم يكن لديهم كتاب سماوي :( وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين .) باعتبار وضع الكتاب قبال الامية ؟.
وعلى هذا لاذكر للجغرافوية كمرجع لكلمة ( أمي ) كما ادعى العقل المادي ، ومن ثم وباعتبار ان العقل المادي ليس له اي تأهيل بفهم اللغة القرانية ، فان دعواه تلك ردت عليه من منطلق ، انه لو كانت الجغرافية ( ام القرى ) هي المرجعية الواقعية لكلمة ( أمي ) لكانت النسبة اليها لغويا هي ( قروي ) وليست ( أمي ) باعتبار ان ( أم القرى ) نسبة وصفية في اللغة العربية وليست علمية لتكون ( امي ) منسوب الى ( ام القرى ) الجغرافية ، بمعنى : ان القواعد الادبية كانت تقتضي ان يقال ( قروي ) لا ( أمي ) لمحمد المعظم ص حسب قاعدة النسبة في علم الصرف وهي تقرر انه عند النسبة للمضاف والمضاف اليه وخصوصا عندما يكون المضاف اليه هو الأب او الام او البنت هذه النسبة تكون للمضاف اليه لا للمضاف فنقول :( طالبي ) في النسبة الى ابي طالب وحنفي وتميمي ..، وكذا قروي في ( أم القرى ) ؟.
ومن هذا المنطلق ندرك تعملات وتمحلات الفكر المادي وخوضه بما لايدرك اساسا فكان الاساس في تخبطه في مصطلح ( الامي والاميين ) معا .
ثانيا :- عندما حاول العقل المادي القفز على البعد القراني لكلمة ( اقرأ ) الاسلامية وتجييرها لصالح منطلقاته الايدلوجية في حتمية الانعكاس المادي ، ارتأى ان يقرأ ( اقرأ ) القرانية ماديا فحسب لتكون ( اقرأ ) القرانية دلالة على نفي الامية الكتابية للرسول الاعظم محمد ص ، ولكن بما اننا ذكرنا الابعاد الفكرية والنفسية لاقرأ القرانية في بحوث سابقة فلامبرر لللتكرار هنا ثانيا ، كذالك لامبرر لذكرنا لمقولة ( ما انابقارئ .) النافية للملكة في مقابل ( ما اقرأ ) السائلة عن الماهية للمقروء وللمكتوب ، فالكفة متوازنة هنا في الرد كما هي في القبول بهذا الرأي ، وعليه وكما ذكرنا ان امية الرسول لم تستنبط من مورد واحد ، فكذا من يقول ( عقليا ) بانه يفترض على من يريد تعليم القران المقروء فعليه ان يكون متمكنا من ادوات القراءة والكتابة ، فهذا المنحى يصلح عندما نحتاج الى معلم صبية في مدرسة عصرية ، اما والحال اننا نتحدث عن رسالة سماوية ، فاللرسالة السماوية حيثياتها المختلفة في التلاوة والاعجاز والمعلم والرسول والقراءة ؟.
ثالثا :- بغض النظر عن ان اللغة العربية تساعد مجازيا على ارادة : ( ايتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ) ان يكون الكاتب هو غير النبي ( باعتبار ان هناك مايسمى بالاسناد المجازي في اللغة العربية ) فان هذه المقولة الرسالية لاتوحي من بعيد ولامن قريب ، ان محمدا رسول الله كان كاتبا وقارئا ، بل كل ما توحيه هي مقولة قائد رسالي بحاجة الى من يوثقها كتابيا ، وهذا كل مافي الامر ولذالك كان من المفترض وباعتبار ان هذا الطلب الرسالي من محمد رسول الله ص كان في اللحظات الاخيرة من انفاسه ، فان هذا الواقع لايساعد الا على فهم الطلب من كونه ارادة كتابة مقول مهم لايستطيع قائله بالقيام به بنفسه لعلة المرض الشديدة او لعلة عدم المقدرة على الكتابة ، وفي كلا الامرين لاتوحي بمقدرة او على ملكة قراءة او كتابة ؟.
وكذالك ايضا وبغض النظر عن ان الرواية التي ذكرت عن الامام جعفر بن محمد الصادق ( احد أئمة الشيعة الامامية والذي ينتهي نسبه الى علي ابن ابي طالب ع ) هي رواية ضعيفة السند ( انظر : النبي الامي / مرتضى المطهري / الدار الاسلامية / ص 15 ) ولكنّه مع ذالك لاتوحي هذه الرواية الا على ان :( الله قد منّ على محمد بالقراءة دون الكتابة ) وهذه المنة هي بالضرورة بعد الرسالة والنبوة والحديث يدور الان حول حياة الرسول المعظم محمد ص قبل النبوة وامتلاكه كسبيا لعملية القراءة والكتابة ، ولم يكن الحديث يدور حول المنّة اللاهوتية على محمد ص ؟.
رابعا :- كذالك هي الحال في صورة صلح الحديبية ، وما قام به الرسول الاعظم محمد ص من مسح كلمة ( محمد رسول الله ) بنفسه ، فهي الاخرى عملية لاتوحي بامكانية الرسول الاعظم على القراءة والكتابة ، وبغض النظر ان بعض من رووا الحادثة قالوا : بان الرسول الاعظم طلب من علي بن ابي طالب ان يرية الكلمة ليمسحها ، فان كل الروات لم يذكروا ان النبي كتب بعدها هذه الكلمة ، بل الكل تقريبا متفق على ان علي بن ابي طالب هو من كتب بعد المسح ، وعليه فلا مبرر لحمل هذه الحادثة الجزئية ، او الاستنباط منها ان محمدا رسول الله كاتب وقارئ ؟.
خامسا : - ان العقل السليم الذي تتحدث عنه المدرسة المادية ، والمنطق العقلي الذي فرض عليها مقولة : عدم واقعية ان يقوم ابو طالب كافل الرسول الاعظم محمد بتعليم ولده الصغير على ابن ابي طالب القراءة والكتابة واهمال محمد في هذا الجانب ؟. هذا العقل وذاك المنطق لاعلاقة له بالنقل التاريخي الموثق ، فللتاريخ عوائده الانسانية المختلفة من زمان الى اخر ، وربما كان في زمن علي بن ابي طالب نوع اهتمام للقراءة والكتابة هو مادفع ابا طالب لتعليم ابنه علي للقراءة والكتابة ، بعكس الجيل الذي عاش فيه محمد رسول الله ص وهو الجيل الاسبق لجيل علي ع ، ومن الطبيعي ان لكل جيل عوائده واخلاقياته المختلفة ، وعليه فلم تكن حقبة محمد ص التاريخية تميل الى اي نوع من الاهتمام بالمقروء والمكتوب انسانيا ، وعليه فليس ابو طالب هو من قصّر في جانب تعليم محمد ص القراءة والكتابة بينما رحب في الجانب الاخر ، بل كان التاريخ هو الحاكم في طبائع الاجيال وتقدم ادراكاتها هنا وهناك ؟.
وعليه فليس هناك ما يدعونا وعقليا ان نعتمد على الفرض العقلي القائل : بما ان ابا طالب دفع صبيه علي ع الى تعلم القراءة والكتابة ، فينبغي ان يكون غير بخيل بهذه الصفة على محمد ص ، ومن ثم نستدل هكذا على ان محمدا كان قارئا وكاتبا انطلاقا من هذا الفرض العقلي الذي لايمت بصلة للدراسات التاريخية بشيئ ؟.
ان دراسة التاريخ - وهذا ما لم يلتفت اليه الكثير - ينبغي ان تكون وحسب مايذكره ( ابن خلدون في المقدمة ) ناظرة بشيئ من التاكيد ، على المتغيرات التي يفرضها الزمان هنا وهناك على العوائد والسلوكيات الاجتماعية الانسانية ، فربما كان التعليم للقراءة والكتابة عار في حقبة من الزمان ( وهذه الظاهرة كانت موجودة حتى عصر قريب من واقع حياتنا الاجتماعية في العراق وغيره من المجتمعات بسبب ان التعليم يرخي من عزيمة الرجال المقاتلين وهذا صحيح علميا ؟.) ولذالك تكون هناك نوعا من النظرة اللامبالية لموضوع تعلم القراءة والكتابة في بعض المجتمعات الانسانية ، وهذا حقيقة هو الموقف العربي ابّان الفجر الاسلامي فلم تكن الكتابة والقراءة بالشيئ الضروري لحياة سكان الجزيرة العربية المحتاجة للمقاتل اكثر من حاجتها للمتعلم ، الا في بعض الزوايا التي تكون فيها القراءة والكتابة والتدوين والحفظ ، شيئا ضروريا لاعمال التجارة وكتابة العهود والمواثيق في العالم الاقتصادي والسياسي ، واذا اردنا هنا تحليل سلوك ابي طالب تاريخيا وحسب النظرة العلمية التاريخية ، فعلينا ان ننظر للامر من زاوية ان ابا طالب هو بحاجة حقيقية الى كاتب وقارئ ابّان نمو تجارته المتواضعة انذاك فلاريب والحال هذه من دفع ولده علي ابن ابي طالب لتعلم الكتابة والقراءة للاستفادة من هذه الملكة ، اما مايختص بمحمد رسول الله ص فربما كان الامر انذاك مختلف تماما ، وعلى هذا نقول ان عدم تعليم محمد ص القراءة والكتابة من قبل ابي طالب ، او الاصح من قبل جده عبد المطلب اولا كان هو بمثابة علو منزلة لمحمد رسول الله ص حسب عوائد واخلاقيات وسلوك المجتمع العربي آنذاك وليس العكس فافهم ؟.
ان أمية الرسول الاعظم ص لم تكن مثار جدل او تشكيك حتى من قبل اكبر الكتاب التاريخيين والمعاصرين الغربيين منهم والشرقيين لوضوح هذه الموضوعة لكل من اطلع او درس حياة محمد العظيم ص ، فهذا ( كارليل ) في ( الابطال ) يقول : يجب ان لاننسى شيئا وهو ان محمدا لم يتلق اي تعليم لدى اي معلم فقد كانت صناعة الخط قد وجدت حديثا بين الشعب العربي . أعتقد أن الحقيقة هي ان محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة ولم يكن يعرف الا حياة الصحراء .
اما ( ديورانت ) في ( قصة الحضارة ) فيقول : ولكن يبدو أن احدا لم يعن بتعليمه - الرسول الاعظم محمد ص - القراءة والكتابة . ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب ( لا اعلم لماذا الشهيد المطهري ذكر الاعراب بدلا من العرب في كتيبه الصغير حول الموضوع ؟.) في ذالك الوقت / ج 13 / ص 21.
وما يتعلق ب ( كونستان ورزيل كيوركيو ) في ( محمد النبي الذي تجب معرفته من جديد ) فيذكر القول : مع انه كان اميا فانا نجد الحديث عن القلم والعلم أي الكتابة والتكتيب ، والتعلم والتعليم في اوائل الآيات النازلة عليه ، ولم يكن في اي من الاديان الكبرى اهتمام شامل بالمعرفة ولايمكن ان نجد دينا يحتل العلم والمعرفة فيه محلا بارزا كما كان الامر في الاسلام .......الخ ؟.
وهكذا ما هؤلاء الا القليل ممن ذكر ( أمية الرسول ) كموضوعة مسلم فيها من منطلق الدراسات التاريخية والاجتماعية والعلمية ، والكل تقريبا قد تسائل حول النقلة والقفزة وبعد الشقة بين بنية الاجتماع العربي التي كانت قائمة وبين المعارف والعلوم والثقافة التي طرحها القران الكريم ك ( لامنعكس ) اجتماعي عن الوضع القائم ، فضلا عن حتمية هذا الانعكاس واسطوريته ؟.
ان حتمية الانعكاس بين البنى المادية والبنى الثقافية لاي مجتمع ، وكما تطرحه بعض المدارس الفكرية ، هي موضوعة لها نوع من العلمية والفكرية ، ولكن مايستشكل على هذه المدارات المادية انها تدعّي العلمية وهي - حقيقة - ابعد شيئ عن العلمية او الفكرية ، ولعل - هنا - ومن خلال هيمنة العقل السياسي على هذه المدارس ، قد حول المفاهيم الفكرية والعلمية في هذه المدرسة الى مجرد وسيلة يحركها العقل السياسي حسب التوجهات التي يفرضها هذا العقل السياسي ، ولذالك نجد ان المدرسة المادية والتي طرحت موضوعة ( الانعكاس الحتمي ) هي طرحته من منطلقات سياسية بحتة ، حتى من غير ان تدرك مفاهيم ذالك الانعكاس او حدوده او فضائاته التي تفرق بين كونه علميا اوفكريا او سياسيا ؟.
بمعنى : ان موضوعة ( الانعكاس الحتمي ) بين بنى الاجتماع ووعيه له طرح خاص في الرؤية الاسلامية ، يختلف تماما عن الطرح المادي لهذا الموضوع ، فالطرح المادي وباعتبار انه يطرح الافكار بلا علمية ولافكرية ولكن بسياسية ، فسرعان ما نجد ان رؤاه قد تهاوت امام اي منعطف يكسر من قانون الانعكاس الحتمي ، فأمام ظاهرة اجتماعية كالظاهرة الاسلامية الرسالية ، فنحن مضطرون لرؤية نظرية الحتمية التاريخية والاجتماعية الى التراجع والبحث والتخبط والقفز على الحقائق وحتى القفز على الظاهرة نفسها في سبيل الحفاظ على حتمية قانون الانعكاس ، اما في الطرح العلمي والواعي لموضوعة الانعكاس الطبيعي بين بنى الاجتماع وثقافته ، فان الامر لايعدو ان يكون انفتاح على هذا القانون ودراسته بنوع من العلمية النسبية العازفة عن التقديس لقانون ليس من شأنه ان يقدس ، فماهو ذالك الانعكاس ؟. وماهي حدوده العلمية او الفكرية ؟. وهل بامكانه العمل على كل الصعد الانسانية ام هو مختص بالجانب المادي من الحياة الاجتماعية .....الخ ؟. كل هذه الاسئلة وغيرها هو ماتطرحه المدارس الفكرية والعلمية الواعية لمواضيع الاجتماع الانساني ؟.
ان الفكر الاسلامي وباعتباره مدرسة الاجتماع الانساني ، قد طرحت موضوعة ( قانون الانعكاس الحتمي ) في بنى الاجتماع الانساني ولكن هذا الطرح كان طرحا علميا ، يؤمن بالنسبية العلمية لقوانين الحياة الاجتماعية - هذا موضوع بحاجة الى فصل مستقل لطرح الرؤية الاسلامية - وعليه فبالامكان تناول البنية الاجتماعية من وجهة النظر الاسلامية ، وتناول ما تمثله هذه البنى المادية للاجتماع الانساني على البنى الفكرية الثقافية ، وتناول قدرة تلك البنى المادية على تشكيل الفكر الانساني والحدود التي تقف عندها ، وتناول الكيفية التي تكون البنى المادية للمجتمع هي منعكس حتمي بالنسبة للعلوم الانسانية ، واخرى الكيفية التي تكون فيها تلك البنى المادية هي منعكس للفكر وليس الفكر هو منعكس للبنى المادية بصورة تفاعلية ......الى اخر هذه القائمة من المواضيع التي بالامكان تناولها اسلاميا وبصورة اكثر علمية من المدارس المادية سواء كانت ماركسية او غيرها ؟.
ان الفكر الاسلامي يرى ان البنى المادية للاجتماع الانساني ، لايمكنها الانتاج على المستوى الفكري والثقافي ، بقدر امكانياتها على المستوى العلمي فحسب ، اي ان الفكر الاسلامي ينظر للبنى الاجتماعية المادية على اساس انها تتمكن من كينونة ان تكون منعكسا في الجانب المادي للحياة الفكرية والثقافية للانسان في هذه الحياة ولكن ليس في امكانها ان تكون المشّكل الاوحد لعملية تشكيل الفكر الانساني ووعيه بصورة مطلقة ، ولذالك وفي العالم المادي تقول الاطروحة الاسلامية بواقعية البنى المادية للمجتمع على تشكيل الجزء المادي للمعلوماتية الفكرية ، فتطرح ( السمع والابصار وماينتج عنهما من عملية تركيب فكرية لتكون الافئدة مصادر للمعرفة الانسانية المادية المنعكسة عن الحياة الاجتماعية ببناها المادية :( وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون / قران كريم ) فما المسموعات والمبصرات ....، وكل مايتعلق بالماديات الانسانية الامرحلة اولى لتشكيل المعلوماتية الثقافية المنعكسة عن المادية الاجتماعية ولكن تلك المعلوماتية لاتكتمل بدون دائرة المحيط الفكرية والعقلية والتي تساهم وبمقدرة عجيبة على التنظيم لتلك العملية المعلوماتية المصدرة من قبل الوضع المادي للحياة الانسانية ، وكذا عندما - مثلا - يقول الرسول الاعظم محمد ص : ( مامن مولود الا ويولد على الفطرة ثم ابواه يهودانه او ....الخ ) فان مثل هذه الاطلالات الفكرية والعلمية تريد التأكيد على ان الفكر الثقافي العقائدي من هنا او هناك هو منتج بيئي وتربوي مادي ، يتشربه الانسان ثقافيا من خلال الطرح الاجتماعي المادي المحيط بالفرد الانساني ، اي ان بنى الاجتماع الخارجية المادية هي العامل الاقوى في تشكيل المنظومة الفكرية والثقافية والعقائدية لاي انسان ، وعليه فالبنى الاجتماعية المادية (من ضمنها الاقتصادية وليست هي الاساس ) لها الحتمية القوية لتشكيل ظاهرة الفكر والوعي الانسانية .......الخ ؟.
ولكن ومع ذالك فان الطرح الاسلامي لايذهب الى مادية الفكر الانساني مئة بالمئة ، باعتبار ان هناك قدرات عقلية ايضا مادية بامكانها التغلب على المنعكس المعرفي المادي ومن ثم تحليله بلا المادية ، اي ان للفكر الانساني وحسب الرؤية الاسلامية المقدرة على التفلت من قبضة المادية المعرفية المنعكسة عن الحتمية المعرفية لبنى الاجتماع الانساني ، سواء كانت تلك المعارف المادية بيئية اجتماعية او اقتصادية او حسية او ...الخ من هذه العناوين المعرفية المادية ، تؤهل الفكر الانساني على الانتاج اللامادي او المعرفة اللامنعكسة عن المادة او بنى الاجتماع المادية ، وهذا ما اشار له النص القراني الاسلامي :( واذ اخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا انما أشرك اباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون / 172 ، 173 / الاعراف ). بمعنى : انه غير مقبول قولكم عند يوم الحساب انا كنا غافلين عن ادراك الحقائق الفكرية العقائدية الثقافية ، او تقولوا انا وجدنا اباءنا على هذا النمط الفكري او السلوكي او ان البيئة التربوية التي كانت تحيط بنا هي التي كانت المصدر الوحيد لمعرفتنا الفكرية والثقافية ولذالك نحن معذورون او .....الخ ؟. كل ذالك لايبرر عدم وصولكم للحقائق الثقافية والفكرية الحقة ، بسبب ان الفكر الانساني او الفكر الانساني الفطري مهيئا او قد خلق على اساس المقدرة والانتصار على التصورات والافكار التي تصدرها بنية الاجتماع المادية فحسب ، وعليه و
تبحث المدارس الفكرية العلمية والاجتماعية ، موضوعة العلاقة القائمة بين الوجود الاجتماعي المادي ووعي وثقافة هذا المجتمع بنوع من التأمل ، والذي يدفع الفكر الانساني الى عملية البحث عن نوع تلك العلاقة ، ومدى ملازمة احداهما للاخرى ، والكيفية التي تؤثر الاحدى بالاخرى ، ومدى هذا التأثر ، وهل هو تأثّر من نوع عكسي او احادي الجانب ؟.
وهذه البحوث برزت عندما التفت الفكر الانساني الى عملية المعرفة الانسانية من قديم الزمان ، والكيفية التي تتشكل فيها تلك المعرفة الانسانية ، وماهي المصادر الحقيقية للمعرفة الانسانية ؟.، وهل هي مصادر مادية حسية بحتة أم ان هناك مواردا اخرى غير المادية والحسية هي المساهمة ايضا في بناء المعرفة الانسانية ؟ وهل هناك افكارا فطرية غير مادية او حسية تساهم بتشكيل المعرفة الانسانية ؟........ الخ .
والحقيقة كانت هذه السجاليات الفكرية هي الموضوع الفلسفي الاول ، والذي تناولته المدارس الفكرية الفلسفية والعلمية الاجتماعية في باب ( نظرية المعرفة ) والذي تناولت فيه كل المواضيع المتصلة بهذه النظرية التي تبحث عن الحقيقة في موضوعة ( مصادر المعرفة الانسانية ) وهل هي منعكس مادي للوجود الاجتماعي فحسب ، ومن ثم منعكس حسي وتجريبي ايضا ؟، ام ان هناك منعكسات اخر تساهم في تموين المعرفة الانسانية وتساهم ايضا بالتركيب لهذه المنظومة المعرفية ؟ ومن بعد ذاك توصلنا الى القيمة الحقيقية لهذه المعرفة ، وهذا هو الاهم في البحث او السجالات الفكرية التي قامت حول هذه الموضوعة / انظر : الصدر محمد باقر / فلسفتنا / نظرية المعرفة .
وعلى العموم وباعتبار ان ذالك موضوعا يدرّس في ابواب التفلسف والمعرفة ، فما يتصل ببحثنا هو جزئية العلاقة القائمة بين بنية الاجتماع الانساني المادية وثقافته باعتبارها منعكس عن تلك البنية المادية ، لنتساءل حول هذا المنعطف الفكري ، ولنقول : ماهي تلك العلاقة ؟. وهل هي علاقة ترتقي الى مستوى المنعكس الحتمي لتكون البنية المادية هي هي مصدر لكل المعرفة والثقافة الانسانية ؟. واذا ما صادفنا هنا او هناك نوعا من الاشكالية بين ثقافة راقية جدا ، وبنية اجتماعية بدائية وساذجة جدا او العكس ، فبماذا يمكننا ان نفسر هذه الاشكالية بين البنية والفكر او المعرفة او المنتج الثقافي ؟ . ، بمعنى اكثر اسلامية : اذا صادفنا ( اقرأ ) - مثلا - فوق بنية اجتماعية لم تفكر او تشغل بنائها المادي باي عنوان ينتج ( اقرأ ) فبماذا نستطيع ان نفهم الانتاج المعرفي : - ( اقرأ ) هنا ؟. وهل هو منعكس مادي لبنية الاجتماع ايضا أم هي منتج ولكنها فوق المادي ؟.
يرى البعض : ( ان العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي ( الفكر ) ، علاقة موضوعية شمولية فهي لاتختلف في بعض الشعوب او المجتمعات عنها في البعض الاخر . نعني بها العلاقة التي تحتم انعكاس الوجود المادي ، بمختلف اشكاله ومظاهره ، على وعي الانسان : كل انسان ، في كل زمان ومكان . ان الحتميات العامة في تاريخ الوجود الاجتماعي هي واحدة في كل مجتمع ، كما هو شأن الحتميات العامة في تاريخ الوجود الطبيعي ................................/ انظر : حسين مروّة / النزعات المادية في الفلسفة العربية والاسلامية / ج 1 / ص 241/ دار الفارابي ط السادسة ) ؟ .
والحقيقة ان هذا الرأي ، وان لم نكن ننتمي اليه فكريا ، ولكن لنجادله عقليا ، ولنتسامح في قبوله علميا ، ولنأخذ به كمنطلق يحمل من الحقيقة الشيئ الكثير ، ولنعتمد على الرؤى التي تتمخض عنه في تحليل الظواهر الاجتماعية ( لاسيما ان هناك في الفكر الاسلامي نفسه مقولات : الفكر مرآة صافية - كمنعكس - و - والله اخرجكم من بطون امهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون / 78 / النحل - باعتبار انعكاس المعرفة عن الحواس المادية ) ، ومن ثم وباعتبار انه يؤمن ان هذه النظرة التي يطرحها علمية وحتمية ولا تختص بمكان او زمان معين ، سنطرح عليه الحقبة والتاريخ والزمن الذي تحركت فيه ( اقرأ ) القرانية اجتماعيا ، ولنسأله حول الظاهرة الاجتماعية العربية التي انتجت ( اقرأ ) القرانية في بداية التحرك الاسلامي ، فهل كانت ( اقرأ ) الاسلامية هي منتج اجتماعي مادي طبيعي لحقبة النهضة الاسلامية الاولى ؟. او هل كانت البنية الاجتماعية العربية ابان النهوض الاسلامي مهيئة لولادة ( اقرأ ) القرانية ، ومن ثم لتكون البنية الاجتماعية تلك هي المنتج الحتمي لبذرة وعلقة ( اقرأ ) القرانية ؟.
من وحي المدرسة الحتمية العلمية نفسها نؤكد انه :( لعلنا نشير الى ان نمط الثقافة - بالمعنى الانتروبولوجي المعني هنا - الذي كان سائدا ومهيمنا في المجتمع الحجازي المعاصر لمحمد ، لم يكن نمطا كتابيا ومؤسسيا ، بقدر ما كان نمطا كلاميا سلوكيا . فالكتابة والقراءة لم تشغلا حيزا عميقا وواسعا في المجتمع المذكور ، بل مثلتا حالة نخبية ومن ثم نخبوية ./ انظر : مقدمات اولية في الاسلام المحمدي / ج 4 / ص 387 / الدكتور طيب تزيني ) .
وباعتبار ان هذه الرؤية ترى ان مادة ( اقرأ ) ومنتجاتها الفكرية لم تكن منطلقة من بنية الاجتماع العربي انذاك ، فياترى كيف لنا ان نحلل ونفسر بروز وولادة ( اقرأ ) القرانية في المجتمع العربي المعاصر للرسول الاعظم محمد ص حتميا ؟. او ومن زاوية اخرى نتساءل حول : هل كانت البنية الاجتماعية قادرة علميا آنذاك على ولادة ( اقرأ ) القرانية ، وبكل ابعادها الثقافية المتمثلة بالكلمة القرانية بصورة عامة ؟.
من واقع الرؤية العلمية المذكورة سالفا :( لابد ان نلحظ هنا واقعا تاريخيا في موضوعنا قد ينفي هذا الشكل من التطابق - بين الثقافة القرانية وبنية الاجتماع العربي آنذاك - وهو ماسبق القول فيه من ان مستوى تطور الاشكال الثقافية التي عرفناها عن مرحلة الجاهلية المتصلة بعصر الاسلام ، كان اعلى من مستوى شكل العلاقات الاجتماعية لهذه المرحلة ./ انظر : النزعات المادية / مروّة / ج 1 /ص 242 ).
والحق اننا كما لحظنا هذا المنعطف الاشكالي بين البنية المادية للمجتمع العربي تاريخيا ، والوعي او الثقافة الاجتماعية والتي طرحت اسلاميا في حقبة الفصل بين الجاهلي والاسلامي القراني ، كذالك انصار مدرسة الحتمية الاجتماعية لحظوا ذالك ايضا وتساءلوا بذكاء :( فهل يعني ذالك خرقا لقانون الانعكاس - انعكاس الثقافة عن بنية الاجتماع - ؟. )
فأجابوا بالنفي ، باعتبار ان قانون الانعكاس لايمكن ان يخرق ، وعليه كان البحث ملاحقا لهذه الاشكالية من زاويتين :
الاولى : قالت بان هناك مرحلة قطع تاريخية تخللت بين تاريخ الجاهلية الاولى والجاهلية العربية الثانية ، وباعتبار ان مرحلة القطع تلك اضعفت من بنية الاجتماع العربي القائم انذاك ، الا انها لم تستطع ان تلغي التكامل الثقافي الصاعد للمرحلة التاريخية السابقة ، ولذالك كانت هناك فجوة بين ثقافة عالية وراقية وبين بنية كانت متطورة ، ولكنها بعد احداث خارجية (حروب ) وداخلية عربية (انهيار سد مأرب في الجنوب ) تراجعت وتهشمت في زمن ولادة الاطروحة الاسلامية ، فجاءت الثقافة اكثر نموا من البنية الاجتماعية العربية انسجاما وتكاملا لمرحلة التاريخ السابقة ( حسين مروّة / النزعات / مصدر سابق ) ؟.
الثانية : فانها ذهبت للقول ب ( الاستثنائية ) في شخصية محمد العجيبة ومقدرتها الثقافية العالية في التقاط مفصل او لحظة التطور والدفع لتصنع من هذه اللحظة ثقافة هي ارقى من البنية الاجتماعية العربية للعصر الجاهلي ( د : طيب تزيني / هذا احد مئة فيلسوف في العالم العربي يكرمّهم الغرب بامتياز لجهودهم الفكرية المبذولة لنقد الفكر الاسلامي ؟. ) ؟.
والحقيقة ان كلا التبريرين ، وبغض النظر عن كل ماذكر في حتمية الانعكاس وغيرها غير ناهض ، فاننا لانطمئن لمثل هذا التلاعب اللاعلمي في المصطلحات الاجتماعية ، ونعم نقول ان اطروحتنا الاسلامية لم تكن منتجا اجتماعيا مباشرا، لتكون من ثم منعكسا عن هذه او تلك من البنى الاجتماعية فحسب ، وانما كانت هي اطروحة الاهية ، وتفاعلا حيا بين اللاهوتي والانساني ، ولذالك هي جاءت على قاعدة التحدي المستمرة ، فلوكانت العملية الثقافية القرانية بالامكان تحليلها علميا واجتماعيا فحسب و بمبررات القطع التاريخي لنسد ثغرة او فجوة السذاجة او بساطة البنية الاجتماعية العربية انذاك وعدم مقدرتها على انتاج ثقافة راقية كالثقافة القرانية ، فليقل لنا ( المفكر الماركسي المرحوم حسين مروّة رحمه الله ) الذي يتبنى اطروحة القطع تلك ، فهل استطاع الوصل التاريخي الاتيان بثقافة كالثقافة القرانية بصورة عامة ليكون القطع التاريخي سابقا هو الحلّ لرقي الكلمة الثقافية القرانية ؟.
او فليبرر لنا التحليل الاجتماعي العلمي ، لماذية عدم استطاعة التطور العلمي الحديث وحتى يومنا هذا ، على الاتيان او الانتاج لثقافة ترتقي الى مستوى الثقافة القرانية ؟. فالعلم والانسان والحياة والاجتماع ....، وصل الى مرحلة من النضج الفكري والعلمي والجمالي الى مستوى متقدم كثيرا على مستويات المجتمعات العربية القديمة ابّان تحرك الكلمة والثقافة القرانية ، فهل بأمكان العصر الحديث بكل تقدمه وتطوره - بغض النظر عن التاريخ وبنية اجتماعياته الساذجة - وبكل تكامل بناه الاجتماعية ان ينتج ثقافة وكلمة تصل الى مستوى الرقي الفكري والروحي والعلمي والقانوني والاجتماعي للكلمة القرانية ؟.
هذا - حقيقة - ما فات استاذنا ( مروّة ) وهو يحلل ظاهرة الثقافة القرانية الاسلامية ، وارادة ربطها ماديا ببنية الاجتماع العربي تاريخيا ، مع انه لو كان اكثر انفتاحا من انغلاق المادية الحتمية لتسائل مع نفسه كمفكر ، ولماذا والحال ان الكلمة القرانية تتحدى الانسان زمانيا ومكانيا على الاتيان بمثلها ، لم يستطع الانسان او البنية الاجتماعية ان تستجيب لهذه الدعوة والتي تبدو انها طبيعية واجتماعية حسب وجهة النظر الحتمية والمادية ؟. ولو كانت الظاهرة القرانية كثقافة ومعرفة وفكر ، لوكانت منتجا بشريا لاي مرحلة تاريخية فهل كانت لتجرؤ على طرح صيغتها باسم التحدي لكل عصر وزمان ومكان وانسان ؟. ومن ثم قد طرح البعض الحتمية التاريخية كمطلق زماني ومكاني وتاريخي لظاهرة المنعكس تلك فهل ياترى صمدت تلك الرؤية بحتميتها المزيفة امام متغيرات الزمان وتطورات الاجتماع الانساني ، فلماذا والحال ان البشري مكتوب له التغير والتقدم والتكامل والموت ، لم تكن الظاهرة القرانية بهذا المعنى ؟.
كل هذه المحاور هي التي تجعل من دراستنا للظاهرة القرانية ، بنوع من التأمل ، وحسب المدارك والمنافذ العلمية تصل الى حقيقة ان هذه الظاهرة لم تكن ولن تكون من منتجات العقل الانساني بصورة عامة او منتجات المنعكس الاجتماعي العربي الجاهلي بغض النظر عن ما لو كانت هناك بنية اجتماعية بامكانها ولادة ثقافة كالثقافة الاسلامية القرانية او لم تكن هناك تلك البنية المتطورة ولكن المهم ادراك ان الثقافة القرانية لها وجه اجتماعي انساني مع بنية لاهوتية اسلامية ؟.
اما الزاوية الثانية ، والتي طرحت مبرر ( الاستثنائية ) لشخصية الرسول المعظم محمد ص ، للتملص من استحقاقات الاعتراف باعجازية الكلمة القرانية ، فان هذا المبرر هو الاخر لم يكن تحليلا علميا او اجتماعيا يفسر او يشرح لنا هذه الاشكالية التي كسرت من قانون ( الانعكاس ) الاجتماعي الذي ظهر وتباين بين ثقافة قرانية راقية وواقعية الى حد الاعجاز انتجت ( اقرأ ) ، وبين بنية عربية اجتماعية تاريخية بدائية وساذجة لم تستطع انتاج سوى التعايش مع حرارة الجغرافية وموسيقى الكلمة الاسطورية ؟.
ان الاتكاء على ( الاستثنائية ) في دراسة الظاهرة القرانية ( اقرأ ) لاتقل اسطورية خرافية - حقيقة - عن العقل البدائي الانساني والذي كان مرغما لتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية ، باسم ( الاستثنائي ) سواء كان هذا الاستثنائي مخلوقا اسطوريا او قوى غيبية سحرية ، وعليه من حقنا هنا ان نتساءل ، او نسأل الاستاذ الفيلسوف ( الدكتور طيب تزيني / انظر مقدمات اولية / مصدر سابق / ج 4 / الباب الثالث : فصل اول : جدلية الاستثنائي والعادي في شخصية محمد / ص 385 ط اولى ) صاحب نظرية (الاستثنائية ) حول المبررات التي دفعته الى تبني الاستثنائية في دراسة الظاهرة القرانية ؟. وهل يكون او تكون الاستثنائية ايضا من ضمن المفردات العلمية والتطورية التي يتمشدق بها الاشتاذ العلمي التطوري الدكتور طيب تزيني لتحليل الظواهر الاجتماعية الثقافية الانسانية البشرية ؟.
طبعا لو كان مصطلح ( الاستثنائي ) مطروحا من خلال العقل الاسلامي ، لكانت الحملة قد استعرت على هذا التخلف الذي يفسرّ ويّحلل الظواهر الاجتماعية باسم الاستثنائي ، ولكن بما ان العقل العلمي المادي - مدعي العلمية - التطوري هو الذي يطرح ( مصطلح الاستثنائي ) فعلينا ان ننظر لهذا ( الاستثنائي ) باحترام وعلمية - لااعرف حقيقة لماذا - ولكن ومع ذالك من حقنا معرفة هذا الاستثنائي لمّ كان هنا علميا وسادّا وراتقا لفتق الانعكاس الحتمي لعملية انفصال الثقافة القرانية عن بنى الاجتماع الانساني العربي انذاك ؟.
الحقيقة ان العقل العلمي وبأطلالة بسيطة على ظروف الواقع الاجتماعي العربي ابّان ولادة الكلمة القرانية ( اقرأ ) سيلاحظ وبدون اي شك ، ان هذه الكلمة لم تولد من رحم البنية الاجتماعية العربية القائمة آنذاك ، كما انها لاتمثل باي حال من الاحوال عملية انعكاس لبنية اجتماعية مادية ( كمصطلح علمي يهدف الى التأكيد على ان كل ماهو فكري فهو بالضرورة مادي ) سواء كانت لمرحلة ولادة الكلمة القرانية او لما قبلها من بنى تاريخية اجتماعية ، وعليه كيف للعقل العلمي وهو مادي الاتجاه والمعرفة والافق ان يّوفق بين اطروحته القائلة بالحتمية الانعكاسية بين ثقافة المجتمع وبناه الاقتصادية المادية ، وبين هذا الفرق والخرق الواضح لهذه المعادلة في اطروحة الاسلام القرانية ؟.
هنا لابد من البحث وداخل اطار المادية ايضا من مبرريسدّ من هذا الفتق الايدلوجي ، فكان ( الانقطاع التاريخي ) من جهة مبررا لحلحلة هذا المازق الفكري الايدلوجي ، و ( الاستثنائية ) السحرية من جهة اخرى - مع الاسف - كافيتان كرؤية لارضاء الضمير العلمي التطوري المادي ، في عملية تناول الظاهرة القرانية كمنتج ثقافي ومعرفي لحقبة زمنية اجتماعية لاتعرف من ( اقرأ ) الا انها عار حقيقي لاينبغي لابناء الليل الاقتراب منه او لم يكن بمقدور هذه البنية الانفتاح عليها ؟.
الحقيقة ان معادلة ( الاستثنائي ) هي ماتثير القلم الاسلامي على المناقشة والمجادلة في هذا الموضوع ، باعتبار ان مصطلح ( الاستثنائي ) ايضا مطروح اسلاميا على او حول الكلمة القرانية ، ولكنه استثنائي من نوع اخر يختلف عادة عن مصطلح (الاستثنائي ) المادي ، فياترى ماهو الفرق بين الاستثنائي المادي في موضوعة الكلمة القرانية ، وبين الاستثنائي الاسلامي في نفس تلك الموضوعة ؟.
ان الاستثنائي في الفكر الاسلامي هو اللابشري المنخرط في البشري في واقع الحياة الانسانية ، وعندما يقول الفكر الاسلامي ان الطرح القراني طرحا استثنائيا ، فانه يقصد ان هذا الطرح لابشريا في ابعاده ومقاصده وتراكيبه الفكرية مع انه من الجانب الاخر بشري الاهداف والحوار والرؤى ، ولذالك هو معجز لايستطيع البشر الاتيان بمثله ( لاستثنائيته ) الغريبة ، وكذا عندما يطرح الفكر الاسلامي مصطلح الاستثنائي في او على شخصية الرسول الاعظم محمد ص ، فانه ينطلق من كون الاستثنائية في هذه الشخصية تتبلور في كونها ظرفا رساليا استطاع الانفتاح على الافاق الكونية اللاهوتية الاسلامية لتنفتح من ثم عليه تلك الافاق الكونية ، ولتجعل منه نموذجا استثنائيا غير مهيئا لباقي البشر كحالة طبيعية ، فهو :( قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ ...) استثنائي من جهة وبشري من اخرى ؟.
واستثنائيته تلك ليست بشرية تتبلور في عبقريته الفكرية او قدرته النفسية الشخصية او تألقاته الروحية المنقطعة النظير ، كلا بل استثنائيته في كونه متصلا لاهوتيا منفتحا كونيا مستقبلا لمرسلات العالم المطلق خالق العالم المحدود والمادي ؟.
اما الاستثنائي المادي فهو استثنائي بشري مادي فحسب من جميع ابعاده الفكرية والنفسية والروحية ، يقول ممثل الاستثنائية الجديدة :( كان محمد يمثل شخصية استثنائية ، بقدر ما مثل شخصية عادية . أما ( استثنائيته ) فقد كمنت في قدرته الذاتية الهائلة على الاستجابة ، بفاعلية ذكية مركزة لوضعيته الاجتماعية المشخصة ، بمثابتها لحظة تقاطع وتوتر تاريخي انعطافي ............. / د : طيب تزيني / مقدمات اولية / مصدر سابق / ص 385 ) .
ومع اننا لانستطيع القبول بهذه المصادرة الفجة لظاهرة الاعجاز اللاهوتية الاسلامية باسم الاستثنائية ، ولكن مع ذالك الا يحق لنا ان نستفهم عن تلك الاستثنائية المادية الاعجوبة التي هيئت من محمد ص ان يكون محركا وملتقطا لمفصل تاريخي غير من وجه الكرة الانسانية بالتمام ، فهل هذه الاستثنائية العلمية والحتمية هي استثنائية بشرية بالامكان تكرر نموذجها الانساني باعتبار انها فعل انساني محتمل الوجود علميا ؟. ام ان هذه الاستثنائية من نوع الاستثنائيات الخارجة عن المقدرة البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل ؟.
اذا كانت هي من نوع الاستثنائات اللامتكررة بشريا ، فلا اشكال يذكر بيننا وبين الاستاذ تزيني ، اما ان كان المقصود الاستثناء البشري المحتمل وجوده ، فليدلنا الاستاذ الفيلسوف عن ذالك المحتمل البشري الذي بامكانه ان يتمثل ما قام به وما قدمه رسول الله محمد ص ، فليرشدنا العقل الحتمي العلمي الى الشخصية الانسانية التي تكررت بعد محمد ص ، لنطالبها بان تأتي بما اتى به محمد رسول الله من فكر وثقافة وعلم قراني ، لنسقط كل هذا الكيان المسمى اعجازيا ب ( القران الكريم ) ولنتنور من ثم الى كون هذا المنتج الفكري والعلمي والثقافي القراني الذي جاء به محمد بالامكان طرح مثله واعمق منه فكريا وعلميا ونفسيا واجتماعيا وكونيا وفلسفيا واقتصاديا ........الخ من انسان استثنائي اخر ؟.
هل يتمكن دعاة الاستثنائية في شخصية الرسول المعظم محمد بن عبدالله ( روحي له الفدى ) من الاتيان بأنسان أمي لايقرأ او يكتب ، ليطرح ثقافة وعلما وفكرا خلق أمة وبنى حضارة ، وغير مجرى تاريخ وصنع رؤى وشيد اطروحة ....الخ ؟.
ولكن ومن جانب اخر نتساءل حول الدوافع الفكرية والممونات التأملية التي دفعت العقل العلمي الحتمي للجوء الى ( الاستثنائية ) في قراءة الكلمة القرانية ، ولماذا والحال ان المدرسة العلمية الحتمية تؤمن بالعلم والواقعية والمادية فحسب التجأت في هذا المنعطف للاسطورية والخرافية واللامادية واللاعلمية في موضوعة ( الاستثنائية ) في دراسة الكلمة والشخصية الرسالية الاسلامية المحمدية ؟.
كان من حق الرؤية العلمية ان لاتتنازل عن الحتمية الانعكاسية بين بنية المجتمع ووعيه الثقافي ، كما انه كان بالامكان الاكتفاء برؤية ( القطع التاريخي ) والتي يطرحها البعض من المفكرين والفلاسفة المنتمين الى المدرسة العلمية المادية ، فلماذا والحال هذه كانت النقلة او القفزة نحو الاستثنائية العلمية ؟.
نعم الاستثنائية توفر الاغراض المادية هنا اكثر مما توفره رؤية ( القطع التاريخي ) هناك ، فرؤية القطع ليس بامكانها الجواب على : لماذا لم تتمكن اي بنية متطورة اجتماعية اخرى عربية من ولادة اطروحة اسلامية قريبة او مشابهة من الطرح القراني ؟. كما انها لم تتمكن من تفسير كيفية ولادة الظاهرة القرانية نفسها من انسان أمي لايقرأ ولايكتب ، فلو فرضنا - مثلا - ان بنية الاجتماع العربي انذاك كانت مهيئة لولادة ثقافة كالثقافة القرانية ، فهل من العلمي والممكن ان تكون بنية محمد الامية فكريا قادرة على مثل هذا الانتاج المعرفي الثقافي ؟...... الخ
اما مايتعلق في ( الاستثنائية ) فالواقع مختلف ، فالاستثنائية المادية هنا كالاسطورة البدائية التي توحي بكل ما لم يستطع العقل والعلم الانساني تفسيره في السابق ، ومن ثم رميه على قوى اللامرئي والغيبي ، الا ان هنا الاستثنائي بدلا من الغيبي لتكون المعادلة قائمة على ان : محمد الاستثنائي القادر على الاتيان بالقران الاستثنائي العامل والمحرك للحظة الاستثنائية والمنتج لكل ماهو استثنائي ......الخ ؟.
ان هذه الاستثنائية هي التي فتحت ابواب التأمل حول الانسان الامي الذي تمكن من الاتيان بالمقروء المعجز ، فلو كانت الاستثنائية قادرة على خلق ظاهرة انسانية ثورية ، فهل هي قادرة ايضا على ايجاد كل هذا العلم المقروء من انسان أمي لايقرأ ولايكتب ؟.
بالامكان سحب الاستثنائية على تطوير الفعل الانساني والامكانية الانسانية ، ومن ثم تبلورها الى حالة اعمق واكثر نضوجا ، ولكن هل بامكان سحب هذه الاستثنائية على اللاشيئ لتحل منه شيئ فعليا ؟. فهل بامكان الاستثنائية من جعل محمدا رسول الله ص الامي قارئا مثلا ؟.
كلا بالطبع ليس في امكانية الاستثنائية الانسانية مهما بلغت من قوة ان تخلق من لاشيئ شيئا موجودا ، وعليه كانت الاستثنائية مدخلا لقراءة الشخصية الرسالية المحمدية الاسلامية فحسب، فهي وعلى هذا المنحى استثنائية حتى في حياتها الطبيعية الانسانية ، والتي لم يدرك الكثير من الذين تناولوها بالبحث والدرس انها شخصية بما انها استثنائية فيجب ان تكون مثقفة وقارئة وعالمة ؟.
ان اصحاب الاستثنائية ادركوا هذه المرة ايضا اعجازية مقولة ( الامي ) من جهة ، و ( القراني ) المقروء من جهة اخرى ، فاذا كان بالامكان القفز على حقيقة ان ليس بامكان البنية العربية انذاك من انتاج ثقافة وفكر بوزن الثقافة والفكر القراني الراقي ، فليس بالامكان القفز على حقيقة ان ( اقرأ ) لايمكن صدورها من الانسان الامي الغير كاتب او قارئ بالفطرة ؟.
وعليه لابد من مناقشة اطروحة ( الرسول الامي ) باعتبار ان العقل العلمي الحتمي لايمكنه تفسير وتحليل هذه الظاهرة ماديا ، فمن اين لرؤية علمية مادية لاتؤمن باي نوع من انواع الاستثناء الاسلامي ، ان تحلل ظاهرة انسان أمي فكريا وروحيا وماديا كتابيا وأقرائيا ، ان ينتج هذا الكم الهائل من المعرفة والقراءة والعلم ؟.
اذا وباعتبار انه لايمكن الشك في الحتمية العلمية وكذا حتمية الانعكاس المادي فعليه من اين اتت مقولة الرسول الامي حسب رؤية العقل المادي الحتمي ؟.
الحق ان الكثير من المفسرين والفقهاء والاسلامويين في التاريخ وحتى اليوم - حسب وجهة النظر الحتمية المادية - ، وتدعيما لمقولة ( اعجازية أمية الرسول ) الاسطورية ، حاولوا تفسير كل النصوص التي تشير الى امية محمد على اساس انها اشارة لعدم ملكة محمد للقراءة والكتابة ، والحقيقة غير ذالك تماما ، ولكن وباعتبار ان المفسرين والفقهاء التقديسيين ارادوا ان يسبغوا على قرءان محمد الاعجازية المنقطعة النظير الاتية من انسان امي ، حاولوا جهد المستطاع ا لتغييب من حقيقة امكانية قراءة محمد وكتابته ، فهناك الشواهد التاريخية والقرانية والسيرية التي تشير الى تمكن محمد من القراءة والكتابة والثقافة العالمة غيبها العقل الاسلامي الاسطوري لضمان مقولة الاعجاز من مثل :
اولا : ان مصطلح ( الامي والاميين ) القراني لم يكن مطلقا يشير الى الجهل في الكتابة والقراءة : ( الذين يتبعون الرسول النبي الامي ../ 157 : الاعراف / - ذالك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ../ 75 : آل عمران .....الخ ) وانما كان يشير الى ( أم القرى ) وهي مكة كمكان جغرافي يتوسط جزيرة العرب ، ومن ثم كان اطلاق كلمة ( أم ) في لغة العرب على كل مرجع ومتوسط ترجع اليه الفروع الجغرافية او غيرها ، وهنا مثلت مكة جغرافيا أمّا لجميع الانتشار الجغرافي العربي ومرجعا لهم ، فقوله ( الامي والاميين ) ماهو الا تعبيرا عن مصطلح جغرافي فحسب وليس تعبيرا معرفيا او فكريا؟.
ثانيا : ان القران نفسه يقول بامكانية محمد على القراءة ، وذالك منطلقا من كون ( اقرأ ) القرانية دلالة على ان المخاطب قارئا للمقروء لاسيما ان مقولة ( ما اقرأ ؟.) الرسالية تدل على الاشكال في ماهية المقروء المطلوب قراءته ، وليس نفي ملكة القراءة ، وهكذا في قوله :( لقد منّ الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا منهم يتلوعليهم اياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) فهنا القران يصرح ان اول واجبات النبي هو تعليم القران لاتباعه ، وان اقل ما يتطلب مثل هذا التعليم هو قراءة المكتوب واستعمال ادواة القراءة كالقلم ؟.
ثالثا : السنة النبوية كذالك تشير الى ان محمدا قد طلب من اصحابه دواة وكتفا في قوله :( ايتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلو بعده أبدا ) في اثناء وفاته ، وكذالك هناك رواية عن أئمة اهل البيت عن ابي عبدالله قال : كان مما من ّالله عزوجل على رسول الله ص أنه كان يقرأ ولايكتب ؟. وبهذا دلالة على امكانية محمد على القراءة والكتابة .
رابعا : المصادر السيرية والتاريخية هي الاخرى تؤكد مقدرة محمد على القراءة والكتابة ، كحادثة صلح الحديبية ، عندما اعترض المفاوض القرشي سهيل بن عمرو على كتابة ( محمد رسول الله ) وطالب بالغائها فاعتذر الكاتب علي بن ابي طالب في رفع جملة ( محمد رسول الله ) من الصحيفة لشدة توقيره لمحمد ، فمحاها محمد بيده ، ليدلل على معرفته بالقراءة ؟.
خامسا : العقل السليم كذالك لايقبل مقولة أمية محمد ، باعتبار ان كافله الثاني عمه ابو طالب ، كان من احرص الناس على الرقي بمحمد في كل شأن ، ولايمكن لمثل هذا الرجل الذي دفع ولده الاصغر علي بن ابي طالب لتعلم القراءة والكتابة وهو صغير ان يغفل عن تعليم محمد هذه الملكة ، وهو المدلل عند ابي طالب بل وصاحب الحظوة الاعلى من ابنائه الصلبيين كعلي وغيره ، فهل يعقل تقصير ابو طالب في تعليم محمد القراءة والكتابة بينما يحرص على تعليم ابنه الاصغر عليا اياها ؟....الخ
الحقيقة ان العقل العلمي المادي ، وحتى بعد طرح كل هذه الاشكاليات في موضوعة ( امية الرسول الاعظم محمد ص ) للتخلص من مأزقية المادي والثقافي كمنعكس حتمي ، لم يوّفق - مع الاسف- للوصول الى اهدافه الغير معلنه علميا ، فهو يحاول الرتق لجلبابه الايدلوجي المهترئ من جانب ، ولكن يتسع الفتق على الراتق من جهة اخرى ، هذا وبغض النظر عن ان العقلية المادية ، وكما اشرنا مرارا انها عقلية منغلقة غير مستوعبة لفكر الاخر ، فكيف لها مجادلته ونقده ، وهي لم تتحمل اعباء الاستيعاب والفهم للفكر الاخر ؟.
ان ما ذكره العقل الحتمي بشأن ( أمية ) الرسول الاعظم محمد ص ، ماهو الا محاولة تملص غير موفقة تماما ، فلو فرضنا جدلا ، ان كل ما قيل انفا هو حق ، وان العقل الحتمي المادي قد اكتشف الدرة الثمينة واتى بالحكاية الحقيقة من اولها حتى الاخر من ذيولها فهل كانت الاعجازية الرسالية القرانية تتأثر بكل ماذكر من اكتشافات يعتقد العقل المادي انه المكتشف لاسرارها التاريخية ؟.
بالطبع كلاّ ؟.
ان الاشكالية الحقيقية للعقل المادي انه لايريد ادراك حقيقة الكلمة القرانية واعجازيتها اللاهوتية ، فهو لذالك اعتقد - كعادته - ان سّر قوة الكلمة القرانية تكمن في مفصل او مقولة: ( الانسان الامي الذي اتى بالمقروء ؟) وعليه كان جلّ اهتمامه منصبا على الكيفية التي يدحر فيها مقولة ( عدم الامية ) للرسول الاعظم محمد ص ، فهو لذالك مجتهد في التقاط كل شاردة وواردة للتأكيد على حقيقة ( ثقافة ) محمد الكتابية والقرائية ، واستثنائيته الفكرية والعلمية ، ولهذا ايضا نجد العقل المادي شديد السعادة وهو يطرح الاشكاليات على هذه النقطة او تلك من النقاط الفكر اسلامية والتي طرحها العقل الاسلامي نفسه قبل المادي وناقشها بموضوعية وعلمية لم يتوصل لها العقل المادي مع الاسف ؟.
وعلى هذا نقول لو فرض جدلا ان محمدا المعظم ص كان كاتبا وقارئا فهل يتغير من المعادلة شيئ يذكر ؟.
كلاّ بالطبع فالاعجازية القرانية متحدية المثقف والعالم والكاتب والقارئ قبل الامي والجاهل والساذج والفطري ...، وعليه فسواء كان النبي الاعظم محمد ص قارئا او لم يكن كذالك وكان اميا ، فلا فرق بالنسبة لاعجازية الكلمة القرانية على الاطلاق ، وحتى ان كان الرسول الاعظم ص قارئا وكاتبا ومثقفا وعبقريا ....الخ ، فليس الاشكال في انه هل كان او لم يكن ، ولكن الاشكالية القرانية الاعجازية انه لامحمدا ص كأنسان ولا غيره من البشر هو قادر على الانتاج الثقافي لمثل هذا القران العظيم ، ومن هنا نحن نؤمن كمسلمين ان الثقافة القرانية او الكلمة القرانية منفصلة تماما عن محمد كرسول ومبشر ومنذر : ( وما محمد الارسول ...) ، كما هي تنأى بسموها العالي ان تكون نتاجا لبنية اجتماعية هنا اوهناك ، ومن هذا نفهم ان موضوعة الامية الرسالية او غيرها لاتقدم ولاتؤخر بموضوعة المقدس القراني الاسلامي ، والمقدس القراني هو من اضفى القداسة على الرسول البشري ، وليس الرسول البشري هو الذي اضفى القداسة على الثقافي القراني ، بمعنى : ان ليس التقديسية كما يدعي العقل المادي هي التي دفعت الفقهاء والاسلاميين للتأكيد على أمية الرسول محمد المعظم ص ليحرزوا القداسية والاعجازية على رسالة الرسول الامي الذي اتى بالمقروء المعجز ، وانما المقروء المعجز هو مصدر القداسة للرسول الانسان سواء كان هو قارئا او لم يكن قارئا ولامثقفا ولا كاتبا .....الخ ؟.
ولكن ومع ذالك للنناقش الاشكالات التي ذكرها العقل المادي حول ( أمية ) الرسول الاعظم محمد ص ، لنرى هل حقا كان العقل المادي موفقا هذه المرة بكل الاستدلالات والدلالات التي ذكرها فكريا وقرانيا وتاريخيا وسيريا وعقليا ؟.
اولا: - يرى العقل المادي : ان مصطلح ( الامي والامية ) في القران الكريم ماهو الاتعبيرا عن مفهوم جغرافي ، وليس له بمفهوم الامية الكتابية والجهل بالقراءة اي اتصال ، والدليل على ذالك ان اللغة العربية تستخدم مصطلح ( الام ) لكل مركز اجتماع جغرافي ، ولذالك سميت مكة ( أم القرى ) والنسبة اليها ( أمي وأميين ) - ( لتنذر أم القرى ومن حولها ../ قران كريم ) ؟.
ان الغريب حقا في هذه اللفتة الفكرية المادية ، انها تتجاهل ان ( أمية ) الرسول محمد ص لم تستنبط فقط من مصطلح (الامي ) فحسب ، ولكنها ايضا مستنبطة من مفاهيم عديدة اخرى في القران الكريم ، مثل قوله سبحانه :( ماكنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون / قران كريم ) وطبيعي ان القران عندما ينفي التلاوة والخط فانه يؤكد على الامية الكتابية والأقرائية ، كما ان مناهضي الاطروحة الاسلامية من العرب قد ادركوا صدق مقولة الامية الرسالية كتابة وقراءة ، ولم يستخدموا في حربهم ضد الاسلام الا مقولات التعليم من الاخرين للرسول الاعظم باعتبار انهم على اطلاع تام على حياة محمد ومن انه لم يتعلم صنعة القراءة والكتابة ، وهذا شيئ لايخفى في مجتمع كان عدد القرّاء والكتاب فيه سبعة عشر انسانا فحسب ، وعليه كانت ممونات مناهضتهم تقول كما حدّث القران الكريم :( ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون اليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين / 103 : النحل ) باعتبار انهم مدركون ان محمدا ص لم يقرأ كتابا مقدسا وغير مقدس ليتمكن من طرح كل هذه الدقة التاريخية ، فلجأوا لمقولة التعلم من الاخرين شفهيا ؟.
ولكن حتى بغض النظر عن هذه النقطة التي تؤكد على الامية من جانب آخر ، فان مقولة العقل المادي وتحليلها مصطلح ( الامي والامية ) على اساس انه مصطلح جغرافي ، ايضا هو تحليل غير موفق ، باعتبار ان اللغة العربية تقول غير ذالك تماما ، فلو قبلنا ان اللغة العربية تطلق على كل وسط استقطاب جغرافي او غيره كلمة ( أم ) كأم القرى لمكة ، وأم الكتاب للفاتحة ، وأم الانسان باعتبارها المرجع الطبيعي ...الخ ، فان نفس هذه اللغة الراقية لاتقبل النسبة التي ذهب اليها العقل المادي الامي لغويا ؟.
ان للمفسرين المسلمين ثلاث تفسيرات او مرجعيات للكلمة القرانية ( أمي ) .
1 - : غير المتعلم للخط والكتابة والقراءة وهي كلمة منسوبة الى ( الأم ) فالامي هو الذي بقي على فطرة الامومة من عدم التعرف على المعارف والكتابات والمعلومات الانسانية ، فلذالك هو ينسب الى الفطرة الاولى للامومة فهو امي ؟.
2 - : الانسان المنسوب الى ( أمة ) وهم المجموعة من البشر والذين يشكلون نمط موحد من الصفات ، ك ( العامي ) المنسوب الى صفات العامة من الناس ، وباعتبار ان العرب آنذاك كانت الصفة الطاغية والمشخصة لوجودهم الاجتماعي هي ( الامية ) اي صفة عدم ملكة القراءة والكتابة ، فقد سمو اميين لعدم وجود كتاب لديهم مقروء او مكتوب ، ولعدم تمكنهم من القراءة والكتابة بصورة عامة ، ولذالك كان يطلق اصحاب الكتب السماوية الاخرى صفة ( الاميين ) على الاجتماع العربي الجزيري :( ذالك بانهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل .../ وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين أاسلمتم .../ )
3 - : تطلق كلمة ( أمي ) على المشركين العرب الذين لم يكن لديهم كتاب سماوي :( وقل للذين اوتوا الكتاب والاميين .) باعتبار وضع الكتاب قبال الامية ؟.
وعلى هذا لاذكر للجغرافوية كمرجع لكلمة ( أمي ) كما ادعى العقل المادي ، ومن ثم وباعتبار ان العقل المادي ليس له اي تأهيل بفهم اللغة القرانية ، فان دعواه تلك ردت عليه من منطلق ، انه لو كانت الجغرافية ( ام القرى ) هي المرجعية الواقعية لكلمة ( أمي ) لكانت النسبة اليها لغويا هي ( قروي ) وليست ( أمي ) باعتبار ان ( أم القرى ) نسبة وصفية في اللغة العربية وليست علمية لتكون ( امي ) منسوب الى ( ام القرى ) الجغرافية ، بمعنى : ان القواعد الادبية كانت تقتضي ان يقال ( قروي ) لا ( أمي ) لمحمد المعظم ص حسب قاعدة النسبة في علم الصرف وهي تقرر انه عند النسبة للمضاف والمضاف اليه وخصوصا عندما يكون المضاف اليه هو الأب او الام او البنت هذه النسبة تكون للمضاف اليه لا للمضاف فنقول :( طالبي ) في النسبة الى ابي طالب وحنفي وتميمي ..، وكذا قروي في ( أم القرى ) ؟.
ومن هذا المنطلق ندرك تعملات وتمحلات الفكر المادي وخوضه بما لايدرك اساسا فكان الاساس في تخبطه في مصطلح ( الامي والاميين ) معا .
ثانيا :- عندما حاول العقل المادي القفز على البعد القراني لكلمة ( اقرأ ) الاسلامية وتجييرها لصالح منطلقاته الايدلوجية في حتمية الانعكاس المادي ، ارتأى ان يقرأ ( اقرأ ) القرانية ماديا فحسب لتكون ( اقرأ ) القرانية دلالة على نفي الامية الكتابية للرسول الاعظم محمد ص ، ولكن بما اننا ذكرنا الابعاد الفكرية والنفسية لاقرأ القرانية في بحوث سابقة فلامبرر لللتكرار هنا ثانيا ، كذالك لامبرر لذكرنا لمقولة ( ما انابقارئ .) النافية للملكة في مقابل ( ما اقرأ ) السائلة عن الماهية للمقروء وللمكتوب ، فالكفة متوازنة هنا في الرد كما هي في القبول بهذا الرأي ، وعليه وكما ذكرنا ان امية الرسول لم تستنبط من مورد واحد ، فكذا من يقول ( عقليا ) بانه يفترض على من يريد تعليم القران المقروء فعليه ان يكون متمكنا من ادوات القراءة والكتابة ، فهذا المنحى يصلح عندما نحتاج الى معلم صبية في مدرسة عصرية ، اما والحال اننا نتحدث عن رسالة سماوية ، فاللرسالة السماوية حيثياتها المختلفة في التلاوة والاعجاز والمعلم والرسول والقراءة ؟.
ثالثا :- بغض النظر عن ان اللغة العربية تساعد مجازيا على ارادة : ( ايتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ) ان يكون الكاتب هو غير النبي ( باعتبار ان هناك مايسمى بالاسناد المجازي في اللغة العربية ) فان هذه المقولة الرسالية لاتوحي من بعيد ولامن قريب ، ان محمدا رسول الله كان كاتبا وقارئا ، بل كل ما توحيه هي مقولة قائد رسالي بحاجة الى من يوثقها كتابيا ، وهذا كل مافي الامر ولذالك كان من المفترض وباعتبار ان هذا الطلب الرسالي من محمد رسول الله ص كان في اللحظات الاخيرة من انفاسه ، فان هذا الواقع لايساعد الا على فهم الطلب من كونه ارادة كتابة مقول مهم لايستطيع قائله بالقيام به بنفسه لعلة المرض الشديدة او لعلة عدم المقدرة على الكتابة ، وفي كلا الامرين لاتوحي بمقدرة او على ملكة قراءة او كتابة ؟.
وكذالك ايضا وبغض النظر عن ان الرواية التي ذكرت عن الامام جعفر بن محمد الصادق ( احد أئمة الشيعة الامامية والذي ينتهي نسبه الى علي ابن ابي طالب ع ) هي رواية ضعيفة السند ( انظر : النبي الامي / مرتضى المطهري / الدار الاسلامية / ص 15 ) ولكنّه مع ذالك لاتوحي هذه الرواية الا على ان :( الله قد منّ على محمد بالقراءة دون الكتابة ) وهذه المنة هي بالضرورة بعد الرسالة والنبوة والحديث يدور الان حول حياة الرسول المعظم محمد ص قبل النبوة وامتلاكه كسبيا لعملية القراءة والكتابة ، ولم يكن الحديث يدور حول المنّة اللاهوتية على محمد ص ؟.
رابعا :- كذالك هي الحال في صورة صلح الحديبية ، وما قام به الرسول الاعظم محمد ص من مسح كلمة ( محمد رسول الله ) بنفسه ، فهي الاخرى عملية لاتوحي بامكانية الرسول الاعظم على القراءة والكتابة ، وبغض النظر ان بعض من رووا الحادثة قالوا : بان الرسول الاعظم طلب من علي بن ابي طالب ان يرية الكلمة ليمسحها ، فان كل الروات لم يذكروا ان النبي كتب بعدها هذه الكلمة ، بل الكل تقريبا متفق على ان علي بن ابي طالب هو من كتب بعد المسح ، وعليه فلا مبرر لحمل هذه الحادثة الجزئية ، او الاستنباط منها ان محمدا رسول الله كاتب وقارئ ؟.
خامسا : - ان العقل السليم الذي تتحدث عنه المدرسة المادية ، والمنطق العقلي الذي فرض عليها مقولة : عدم واقعية ان يقوم ابو طالب كافل الرسول الاعظم محمد بتعليم ولده الصغير على ابن ابي طالب القراءة والكتابة واهمال محمد في هذا الجانب ؟. هذا العقل وذاك المنطق لاعلاقة له بالنقل التاريخي الموثق ، فللتاريخ عوائده الانسانية المختلفة من زمان الى اخر ، وربما كان في زمن علي بن ابي طالب نوع اهتمام للقراءة والكتابة هو مادفع ابا طالب لتعليم ابنه علي للقراءة والكتابة ، بعكس الجيل الذي عاش فيه محمد رسول الله ص وهو الجيل الاسبق لجيل علي ع ، ومن الطبيعي ان لكل جيل عوائده واخلاقياته المختلفة ، وعليه فلم تكن حقبة محمد ص التاريخية تميل الى اي نوع من الاهتمام بالمقروء والمكتوب انسانيا ، وعليه فليس ابو طالب هو من قصّر في جانب تعليم محمد ص القراءة والكتابة بينما رحب في الجانب الاخر ، بل كان التاريخ هو الحاكم في طبائع الاجيال وتقدم ادراكاتها هنا وهناك ؟.
وعليه فليس هناك ما يدعونا وعقليا ان نعتمد على الفرض العقلي القائل : بما ان ابا طالب دفع صبيه علي ع الى تعلم القراءة والكتابة ، فينبغي ان يكون غير بخيل بهذه الصفة على محمد ص ، ومن ثم نستدل هكذا على ان محمدا كان قارئا وكاتبا انطلاقا من هذا الفرض العقلي الذي لايمت بصلة للدراسات التاريخية بشيئ ؟.
ان دراسة التاريخ - وهذا ما لم يلتفت اليه الكثير - ينبغي ان تكون وحسب مايذكره ( ابن خلدون في المقدمة ) ناظرة بشيئ من التاكيد ، على المتغيرات التي يفرضها الزمان هنا وهناك على العوائد والسلوكيات الاجتماعية الانسانية ، فربما كان التعليم للقراءة والكتابة عار في حقبة من الزمان ( وهذه الظاهرة كانت موجودة حتى عصر قريب من واقع حياتنا الاجتماعية في العراق وغيره من المجتمعات بسبب ان التعليم يرخي من عزيمة الرجال المقاتلين وهذا صحيح علميا ؟.) ولذالك تكون هناك نوعا من النظرة اللامبالية لموضوع تعلم القراءة والكتابة في بعض المجتمعات الانسانية ، وهذا حقيقة هو الموقف العربي ابّان الفجر الاسلامي فلم تكن الكتابة والقراءة بالشيئ الضروري لحياة سكان الجزيرة العربية المحتاجة للمقاتل اكثر من حاجتها للمتعلم ، الا في بعض الزوايا التي تكون فيها القراءة والكتابة والتدوين والحفظ ، شيئا ضروريا لاعمال التجارة وكتابة العهود والمواثيق في العالم الاقتصادي والسياسي ، واذا اردنا هنا تحليل سلوك ابي طالب تاريخيا وحسب النظرة العلمية التاريخية ، فعلينا ان ننظر للامر من زاوية ان ابا طالب هو بحاجة حقيقية الى كاتب وقارئ ابّان نمو تجارته المتواضعة انذاك فلاريب والحال هذه من دفع ولده علي ابن ابي طالب لتعلم الكتابة والقراءة للاستفادة من هذه الملكة ، اما مايختص بمحمد رسول الله ص فربما كان الامر انذاك مختلف تماما ، وعلى هذا نقول ان عدم تعليم محمد ص القراءة والكتابة من قبل ابي طالب ، او الاصح من قبل جده عبد المطلب اولا كان هو بمثابة علو منزلة لمحمد رسول الله ص حسب عوائد واخلاقيات وسلوك المجتمع العربي آنذاك وليس العكس فافهم ؟.
ان أمية الرسول الاعظم ص لم تكن مثار جدل او تشكيك حتى من قبل اكبر الكتاب التاريخيين والمعاصرين الغربيين منهم والشرقيين لوضوح هذه الموضوعة لكل من اطلع او درس حياة محمد العظيم ص ، فهذا ( كارليل ) في ( الابطال ) يقول : يجب ان لاننسى شيئا وهو ان محمدا لم يتلق اي تعليم لدى اي معلم فقد كانت صناعة الخط قد وجدت حديثا بين الشعب العربي . أعتقد أن الحقيقة هي ان محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة ولم يكن يعرف الا حياة الصحراء .
اما ( ديورانت ) في ( قصة الحضارة ) فيقول : ولكن يبدو أن احدا لم يعن بتعليمه - الرسول الاعظم محمد ص - القراءة والكتابة . ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب ( لا اعلم لماذا الشهيد المطهري ذكر الاعراب بدلا من العرب في كتيبه الصغير حول الموضوع ؟.) في ذالك الوقت / ج 13 / ص 21.
وما يتعلق ب ( كونستان ورزيل كيوركيو ) في ( محمد النبي الذي تجب معرفته من جديد ) فيذكر القول : مع انه كان اميا فانا نجد الحديث عن القلم والعلم أي الكتابة والتكتيب ، والتعلم والتعليم في اوائل الآيات النازلة عليه ، ولم يكن في اي من الاديان الكبرى اهتمام شامل بالمعرفة ولايمكن ان نجد دينا يحتل العلم والمعرفة فيه محلا بارزا كما كان الامر في الاسلام .......الخ ؟.
وهكذا ما هؤلاء الا القليل ممن ذكر ( أمية الرسول ) كموضوعة مسلم فيها من منطلق الدراسات التاريخية والاجتماعية والعلمية ، والكل تقريبا قد تسائل حول النقلة والقفزة وبعد الشقة بين بنية الاجتماع العربي التي كانت قائمة وبين المعارف والعلوم والثقافة التي طرحها القران الكريم ك ( لامنعكس ) اجتماعي عن الوضع القائم ، فضلا عن حتمية هذا الانعكاس واسطوريته ؟.
ان حتمية الانعكاس بين البنى المادية والبنى الثقافية لاي مجتمع ، وكما تطرحه بعض المدارس الفكرية ، هي موضوعة لها نوع من العلمية والفكرية ، ولكن مايستشكل على هذه المدارات المادية انها تدعّي العلمية وهي - حقيقة - ابعد شيئ عن العلمية او الفكرية ، ولعل - هنا - ومن خلال هيمنة العقل السياسي على هذه المدارس ، قد حول المفاهيم الفكرية والعلمية في هذه المدرسة الى مجرد وسيلة يحركها العقل السياسي حسب التوجهات التي يفرضها هذا العقل السياسي ، ولذالك نجد ان المدرسة المادية والتي طرحت موضوعة ( الانعكاس الحتمي ) هي طرحته من منطلقات سياسية بحتة ، حتى من غير ان تدرك مفاهيم ذالك الانعكاس او حدوده او فضائاته التي تفرق بين كونه علميا اوفكريا او سياسيا ؟.
بمعنى : ان موضوعة ( الانعكاس الحتمي ) بين بنى الاجتماع ووعيه له طرح خاص في الرؤية الاسلامية ، يختلف تماما عن الطرح المادي لهذا الموضوع ، فالطرح المادي وباعتبار انه يطرح الافكار بلا علمية ولافكرية ولكن بسياسية ، فسرعان ما نجد ان رؤاه قد تهاوت امام اي منعطف يكسر من قانون الانعكاس الحتمي ، فأمام ظاهرة اجتماعية كالظاهرة الاسلامية الرسالية ، فنحن مضطرون لرؤية نظرية الحتمية التاريخية والاجتماعية الى التراجع والبحث والتخبط والقفز على الحقائق وحتى القفز على الظاهرة نفسها في سبيل الحفاظ على حتمية قانون الانعكاس ، اما في الطرح العلمي والواعي لموضوعة الانعكاس الطبيعي بين بنى الاجتماع وثقافته ، فان الامر لايعدو ان يكون انفتاح على هذا القانون ودراسته بنوع من العلمية النسبية العازفة عن التقديس لقانون ليس من شأنه ان يقدس ، فماهو ذالك الانعكاس ؟. وماهي حدوده العلمية او الفكرية ؟. وهل بامكانه العمل على كل الصعد الانسانية ام هو مختص بالجانب المادي من الحياة الاجتماعية .....الخ ؟. كل هذه الاسئلة وغيرها هو ماتطرحه المدارس الفكرية والعلمية الواعية لمواضيع الاجتماع الانساني ؟.
ان الفكر الاسلامي وباعتباره مدرسة الاجتماع الانساني ، قد طرحت موضوعة ( قانون الانعكاس الحتمي ) في بنى الاجتماع الانساني ولكن هذا الطرح كان طرحا علميا ، يؤمن بالنسبية العلمية لقوانين الحياة الاجتماعية - هذا موضوع بحاجة الى فصل مستقل لطرح الرؤية الاسلامية - وعليه فبالامكان تناول البنية الاجتماعية من وجهة النظر الاسلامية ، وتناول ما تمثله هذه البنى المادية للاجتماع الانساني على البنى الفكرية الثقافية ، وتناول قدرة تلك البنى المادية على تشكيل الفكر الانساني والحدود التي تقف عندها ، وتناول الكيفية التي تكون البنى المادية للمجتمع هي منعكس حتمي بالنسبة للعلوم الانسانية ، واخرى الكيفية التي تكون فيها تلك البنى المادية هي منعكس للفكر وليس الفكر هو منعكس للبنى المادية بصورة تفاعلية ......الى اخر هذه القائمة من المواضيع التي بالامكان تناولها اسلاميا وبصورة اكثر علمية من المدارس المادية سواء كانت ماركسية او غيرها ؟.
ان الفكر الاسلامي يرى ان البنى المادية للاجتماع الانساني ، لايمكنها الانتاج على المستوى الفكري والثقافي ، بقدر امكانياتها على المستوى العلمي فحسب ، اي ان الفكر الاسلامي ينظر للبنى الاجتماعية المادية على اساس انها تتمكن من كينونة ان تكون منعكسا في الجانب المادي للحياة الفكرية والثقافية للانسان في هذه الحياة ولكن ليس في امكانها ان تكون المشّكل الاوحد لعملية تشكيل الفكر الانساني ووعيه بصورة مطلقة ، ولذالك وفي العالم المادي تقول الاطروحة الاسلامية بواقعية البنى المادية للمجتمع على تشكيل الجزء المادي للمعلوماتية الفكرية ، فتطرح ( السمع والابصار وماينتج عنهما من عملية تركيب فكرية لتكون الافئدة مصادر للمعرفة الانسانية المادية المنعكسة عن الحياة الاجتماعية ببناها المادية :( وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون / قران كريم ) فما المسموعات والمبصرات ....، وكل مايتعلق بالماديات الانسانية الامرحلة اولى لتشكيل المعلوماتية الثقافية المنعكسة عن المادية الاجتماعية ولكن تلك المعلوماتية لاتكتمل بدون دائرة المحيط الفكرية والعقلية والتي تساهم وبمقدرة عجيبة على التنظيم لتلك العملية المعلوماتية المصدرة من قبل الوضع المادي للحياة الانسانية ، وكذا عندما - مثلا - يقول الرسول الاعظم محمد ص : ( مامن مولود الا ويولد على الفطرة ثم ابواه يهودانه او ....الخ ) فان مثل هذه الاطلالات الفكرية والعلمية تريد التأكيد على ان الفكر الثقافي العقائدي من هنا او هناك هو منتج بيئي وتربوي مادي ، يتشربه الانسان ثقافيا من خلال الطرح الاجتماعي المادي المحيط بالفرد الانساني ، اي ان بنى الاجتماع الخارجية المادية هي العامل الاقوى في تشكيل المنظومة الفكرية والثقافية والعقائدية لاي انسان ، وعليه فالبنى الاجتماعية المادية (من ضمنها الاقتصادية وليست هي الاساس ) لها الحتمية القوية لتشكيل ظاهرة الفكر والوعي الانسانية .......الخ ؟.
ولكن ومع ذالك فان الطرح الاسلامي لايذهب الى مادية الفكر الانساني مئة بالمئة ، باعتبار ان هناك قدرات عقلية ايضا مادية بامكانها التغلب على المنعكس المعرفي المادي ومن ثم تحليله بلا المادية ، اي ان للفكر الانساني وحسب الرؤية الاسلامية المقدرة على التفلت من قبضة المادية المعرفية المنعكسة عن الحتمية المعرفية لبنى الاجتماع الانساني ، سواء كانت تلك المعارف المادية بيئية اجتماعية او اقتصادية او حسية او ...الخ من هذه العناوين المعرفية المادية ، تؤهل الفكر الانساني على الانتاج اللامادي او المعرفة اللامنعكسة عن المادة او بنى الاجتماع المادية ، وهذا ما اشار له النص القراني الاسلامي :( واذ اخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا انما أشرك اباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون / 172 ، 173 / الاعراف ). بمعنى : انه غير مقبول قولكم عند يوم الحساب انا كنا غافلين عن ادراك الحقائق الفكرية العقائدية الثقافية ، او تقولوا انا وجدنا اباءنا على هذا النمط الفكري او السلوكي او ان البيئة التربوية التي كانت تحيط بنا هي التي كانت المصدر الوحيد لمعرفتنا الفكرية والثقافية ولذالك نحن معذورون او .....الخ ؟. كل ذالك لايبرر عدم وصولكم للحقائق الثقافية والفكرية الحقة ، بسبب ان الفكر الانساني او الفكر الانساني الفطري مهيئا او قد خلق على اساس المقدرة والانتصار على التصورات والافكار التي تصدرها بنية الاجتماع المادية فحسب ، وعليه و