(( نظرية الصراع في علم الاجتماع )) ½ حميد الشاكر
_________________
1
(( تمهيد ))
منذ دعوة (( اوجست كونت / 1798/ 1857)) الحديثة لصناعة ، او صياغة ((
علمٍ يكون المجتمع مادة موضوعه الرئيسة ))
وحتى اليوم عُرف عن علم الاجتماع انه العلم الذي يدرس ويبحث في هيئة المجتمع
القائمة على اساسيها الثابت المنتظم في سياقات
محددة من هذا المجتمع ، والمتحرك
المتغير منه ايضا !!.
ولهذا كانت دعوة التاسيس الاجتماعية العلمية الكونتية الحديثة واضحة
تماما في الرؤية ووضع القواعد العلمية للمجتمع واعتبار ان مفهومي (( الاستاتيك او
الأِن ستاتيك)) اوالثابت والمتغيرهما المفهومان الاساس الذي ينطلق منهما (من
دراستهما وبحث اسبابهما)علم الاجتماع في مشروعه العلمي بالاضافة الى مفهوم ان يكون هذا العلم (
موضوعياً ) ولا يختلف في اسسه ومنطلقاته
ومناهجه عن اي علم موضوعي اخر كالفيزياء
او الكيمياء او علم الميكانيكا او البيلوجي او الجيلوجي او ....الخ !!.
بعد كونت استمر (( اميل دوركهايم 1858/ 1917 م)) في الارتقاء وتطوير
مشروع علم الاجتماع من زاوية وضع ( الاسس
المنهجية العقلية) لهذا العلم واخراج علم الاجتماع من حيزه (( النظري الفكري
الكونتي العام الى حيزه المنهجي الخاص ))
الذي يدرس موضوعا معينا ومحددا للمجتمع ،
الا وهو ( الظواهر الاجتماعية ) ، ثم نظرّ ( دوركهايم بصيغة عقلية علمية اشار هو بانها صيغة مختلفة
عن الصيغة الوضعية الكونتية / 1 / لهذه الظواهر وكيفية تشخيصها واقعيا وماهية
مميزاتها اجتماعيا واسباب تكوينها و... ) وكل ذالك سطره دوركهايم في كتابه ،
واطروحته الاجتماعية التاسيسية ( قواعد المنهج في علم الاجتماع ) !!.
على نفس السياق كان الفيلسوف البريطاني الوضعي (هربرت سبنسر 1820 /
1903 م) يحاول جاهدا ادخال (مفاهيم نظرية النشوء والارتقاء ) الى دائرة التكوين
العلمي لعلم الاجتماع ( من خلال كتابه : /المدخل الى علم الاجتماع/ الذي انتقده
دوركهايم في قواعده ) وليصوغ ثم نظريته
الخاصة ( الداروينية الاجتماعية ) ، لكن مع بقاء ( سبنسر) وفيا لمشروع العلم
الاجتماعي وتاكيده على نقطة جوهرية في نظريته وهي( ان المجتمع الانساني جزء
لايتجزأ من العالم والطبيعة المحيطة به ، وهو خاظع لقوانين التطور في حركته ووجوده
واستمراره و ... كما باقي الاشياء الطبيعية والوجودية في هذه الحياة ) !.
(ماكس فيبر 1864/ 1920 م) الالماني باعتباره ايضا من المؤسسين الرواد
لعلم الاجتماع الحديث ادلى بدلوه ايضا في
اطار طرح رؤيته العلمية في هذا العلم
وتاسيس مفاهيمه الرئيسية وكانت مساهمته ( كتابه : مفاهيم اساسية في علم
الاجتماع ) من المساهمات الثرية في طرح اولا : رؤية تاسيسية لمناهج علم الاجتماع
الحديث مختلفة عن قواعد المنهج الدوركهايمي من جهة وثانيا : اعتبار ان ( الفعل الاجتماعي وليس
الظاهرة الاجتماعية كما عند دوركهايم ) هوالموضوع الرئيس لهذا العلم والمحور الذي
ينبغي ان تدور حوله جميع الدراسات والبحوث العلمية الاجتماعية من جانب اخر !.
طبعا مساهمة فيبرالكبرى في اطار دفع علم الاجتماع خطوة الى الامام (
من وجهة نظري) ليست تاسيسه لقواعد اوابتكاره لمنطلقات جديدة لعلم الاجتماع الحديث
بقدر مساهمته لاثراء ( مفاهيم علم الاجتماع ) بشكل وسع من دوائر البحث والدراسة
الاجتماعية فقد درس فيبر بشكل خاص مفهومي
( الصراع والقوة / مثلا ) باعتبارهما احد
المحركات الرئيسية في التغيرات الاجتماعية
وسلط الاضواء على تاثير هذه القوة
وفكرة الصراع في صناعة الحدث او الفعل
الاجتماعي خلقا وتغييرا و... من ثم تاسيسا للفعل الاجتماعي بشكل عام وهذا ما جعل (
فكرة الصراع ، والقوة ) مدروسة منذ البواكير التاسيسية لعلم الاجتماع الحديث !.
2
(( النظرية الصراعية ))
في خمسينات وستينات القرن العشرين المنصرم برزت (لاسيما في الولايات
المتحدة الامريكية قلعة الراسمالية
الحديثة ) على السطح العلمي
الاجتماعي نظريات كثيرة في
موضوعات علم الاجتماع ، وكانت معظم هذه المدارس النظرية اما هي :
اولا : امتدادا واستمرارا للمشروع العلمي الوضعي ، والعقلي لعلم الاجتماع الكونتي الدوركهايمي الذي عرف ب( المدرسة البنائية الوظيفية ) واتخذ
من (( نظرية التوازن )) منطلقا لكل
تحليلاته الاجتماعية واستمر هذا المشروع العلمي الاجتماعي في تطوره وتبلوره بشكل
انضج ،حتى التاسيسات الفكرية اعالم الاجتماع الامريكي (( تالكوت بارسونز/ 1902/
1979 م )) وما بعده !.
ثانيا: واما انها كانت مدارس اجتماعية الا انها متأثرة بالمد السياسي
اليساري الشيوعي الخمسيني ، الذي اجتاحت موجته انذاك العالم ، وفرضت معادلاتها
الايدلوجية وتصوراتها الاجتماعيةعلى اعتبار انها ( النظريات العلمية ) التي ينبغي
ان تكون منطلقات علم الاجتماع الحديث راجعة ، وشارعة من رؤيتها وتصوراتها
التاريخية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية و ... لاغير !!.
وعلى اي حال فقد اصطبغت او انقسمت المدارس الاجتماعية في الخمسينات
والستينات من ذالك القرن والى اليوم الى مدرستيين ذات توجهين ومنهجين لكل
منهما مميزاته من جهة ، الا انهما بنفس الوقت متداخلين بشكل معقد من جانب اخر وهما
:
الاولى : المدرسة البنائية الوظيفية التي تنتهج (نظرية التوازن ) في
دراستها للمجتمع وسياقاته وظواهره وافعال مجموعاته المحلية والخارجية .
الثانية:المدرسة الجدلية الصراعية التي تنتمي وتنتهج وتنطلق من
التصورات لاسيما الهيجلية ، والماركسية في تحليل المجتمع ، والتاريخ والفكر
الانساني وتتكئ على( نظرية الصراع ) كاهم
واقعة او فكرة محركة وصانعه للوجود الاجتماعي
!.
3
(( تداخل النظريتان التوازنية والصراعية ))
طبعا قلنا ان هذه النظريات الاجتماعية تتداخل بشكل معقد يصعب التصنيف
والفصل والتمييز بينها لاسباب من اهمها :
اولا : انه عندما يذكر اويقال (نظريات الصراع في علم الاجتماع) فان
معظم من كتب في مداخيل علم الاجتماع او مبادئه او اساسياته او ... لم يشيروا او يفصلوا، او يميزوا بين (( نظريات
صراع )) هي تنتمي بمنطلقاتها للمدرسة البنائية الوظيفية العلمية ، وبين (( نظريات
صراع )) تنطلق من اسس فكرية وايدلوجيةتنتمي بتحليلاتها للمنطق الجدلي الفكري
الهيجلي من جهة والتحليل الماركس للمجتمع من جانب اخر ، فان امثال هذه
النظريات بالحتم ستفضي الى شكل ونوع مختلف
من التناولات ، والدراسات والنتائج و ... الاجتماعية التي تتناولها الصراعية
البنائية الوظيفية السابقة !.
ثانيا : في تصنيفنا ، الذي نبني عليه بحثنا هذا في نظرية الصراع
الاجتماعية نفرق بين ان يكون عالم الاجتماع والباحث في قضاياه وظواهره الاجتماعية هو يتناول مفردات وظواهرالصراع
الاجتماعي بل ربما يستخدم مصطلحات الصراعات الاجتماعية من قبيل (( الصراع الطبقي
او الجنسي او العرقي )) داخل المجتمع لكنه يبقى في منطلقاته ، ومبادئه ومرجعيته
عالمُ اجتماعٍ بنائي وظيفي ويغلّب(نظرية التوازن)في تناولاته وتحليله الاجتماعي
على نظريات الصراع التهديمية اللاوظيفية لبنى المجتمع القائم !!.
فمثلا لايمكن من وجهة نظرنا تصنيف ( ماكس فيبر) باعتبار انه تاثر
بافكار ماركس من جهة وتناول ظاهرة ( الصراع والقوة) كمحركات للفعل والتغيير
الاجتماعي من جهة اخرى على اساس انه ( هيجلي في جدليته الاجتماعية او ماركسي
الانتماء والمنطلق العلمي ) !.
وهكذا تيار المنظرين الصراعيين الخمسينيين والستينيين من القرن المنصرم
من علماء الاجتماع ك (رالف داهرندورف ، ولويس كوزر و...الخ ) فمع ان رالف داهرندوف وضع جلّ نظريته في كتابه (
الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي) على اساس نظرية الصراع ، وكذا انتقد (
داهرندورف ) التوازنية (اوعدم اهتمامها
بظاهرة الصراع بشكل اساسي) كنظرية للمدرسة البنائية الوظيفية ل(تالكوت) لكن مع
ذالك لايمكن اعتبار داهرندورف بعيدا عن
المدرسة الوظيفية ، بسبب ان نظريته
الاجتماعية هي ( توليفية توافقية ) بين المدرسة الصراعية ، والمدرسة البنائية
ويغلب عليها مفهوم ( الصراعية الوظيفية ) اي ( توظيف الصراع من اجل التوازن
والبناء الاجتماعي) ومثل هذه المفاهيم (لداهرندوف) هي من اساسيات المدرسة البنائية
الوظيفية بعكس النظرية الصراعية الماركسية التي تؤمن ب (( ان ظاهرة الصراع اولا:
هي لاوظيفية ، وثانيا : هدفها الاسمى تهديم بنى المجتمع القائمة وتغييرها الى بنى
اخرى مختلفة )) !!.
كذالك (لويس كوزر) عالم الاجتماع الامريكي المعروف الذي ((فكك مفاهيم
الصراع فكريا )) واجهد نفسه في فهم تقسيمات ومكامن الصراع الاجتماعي ودوافعه
واسبابه الا انه مع ذالك لايمكن تصنيف
(كوزر) الا على اساس انه عالم اجتماع ينتمي للمدرسة الوظيفية البنائية و لنفس
السبب مع داهرندورف فان كوزر لم يدرس ظاهرة الصراع الا من خلال وظائف الصراع
الايجابية في البناء الاجتماعي والاستمرار والتقدم في بنى المجتمع وليس تهديمها
!!.
.... يتبع
__________
1 : راجع مقدمة دوركهايم الاولى لكتابه ( قواعد المنهج ) ترجمة محمود
قاسم و السيد البدوي / دار المعرفة الجامعية / اسكندريه / 1988 / وتاكيده على
مذهبه العقلي العلمي المحتلف عن مذهب (كونت وسبنسر ) الوضعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
HTML