الاثنين، سبتمبر 02، 2013

(( الحداثوية في فكر فيصل الاول ))


((ورقة الملك فيصل الاول  لانشاء الدولة العراقية الحديثة))المقالة العاشرة . حميد الشاكر


(( الحداثوية في فكر فيصل الاول ))

لم يكن لاي منجز سياسي او اقتصادي اوعمراني ، او سوسيولوجي عراقي ان يطفوا على سطح التجربة العراقية الحديثة  ( باعتباره نجاحا ) في زمن التاسيس العراقي للملك فيصل الاول وما بعده لو لم يكن  هناك وعي مسبق من قبل الملك فيصل الاول نفسه سياسيا  وسوسيولوجيا  واقتصاديا ... الخ لعصره ، او للعصر ومتطلباته وادواته وافكاره ، التي فرضت نفسها انذاك في حقبة حكم الملك فيصل الاول للعراق الحديث(كفاعل اساس)في اي بناء مجتمعي وسياسي يُراد له ان يكون منجزا ناجحا بالفعل !!.
اي انه لولا ان الملك فيصل الاول كان رجلا واعيا ، ومدركا وهاضما لكل معطيات عصره الفكرية والعلمية ، وتحولاته الصناعية ، والتقنية والثقافية والمجتمعية العالمية انذاك التي اصبحت بعد عصرالعقلنة  والعلم والصناعة والبرجوازية الفردية الحديثة ، هي المتحكمة بالفعل بصناعة  حياة الانسان الحديث ، وكيفية بنائها لما تمكن ابدا الملك فيصل الاول رحمه الله ان ينجز شيئا مذكورا على الارض العراقية الحديثة ابدا !!.
وهذا يعني  ان من اهم مميزات فكر فيصل الاول السياسي والسوسيولوجي ، الذي هيئ  لتجربته السياسية التاريخية  النجاح في تاريخ العراق الحديث انه رجل كان يدرك ويعي معنى(الحداثة في زمنه) والتي اعتقد انا شخصيا ان العقل العراقي السياسي ، منذ وفاة فيصل الاول ،  وحتى اليوم لم يتمكن من ادراك ما تعنيه هذه الحداثة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفرديا... على الواقع الانساني المعاصر  بشكل عام ، وعلى الواقع المحلي العراقي بشكل خاص !!.
طبعا الى اليوم وبعد ثمانين سنة من رحيل الملك فيصل الاول لم يزل ليس فقط العقل السياسي العراقي ، بل وحتى العقل الفكري ، والعلمي ، والثقافي والسوسيولجي العراقي ، بعيدا تماما عن فهم معادلة (( الحداثة الانسانية )) وما قامت به ، واحدثته من تحولات شبه قسرية في بناء المجتمعات الحديثة بل والانكى من ذالك انه وحتى ((السوسيولوجيا العراقية)) او ما سُمي بعلم الاجتماعي العراقي الحديث ، بمؤسسيته المزعومة في العراق ، والتي كان من (( مفروظ وظائفها العلمية ))  دراسة ظاهرة الحداثة في العالم الحديث وانعكاساتها على المجتمع العراقي انذاك  حتى هذا الحقل العلمي لم يتطرق بالبحث ، والدرس يوما لمفهوم ( الحداثة / مع انه مفهوم طرح منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم )  وما احدثته في تركيبة الاجتماع العراقي منذ تاسيسه الحديث ، وحتى تغيراته الكبرى الفكرية  والسياسية والمجتمعية في الخمسينات والى الان !.

نعم اكتفت كل الفعاليات العراقية السياسية والفكرية والمجتمعية ، بعد رحيل فيصل الاول سياسيا ،  وانزواء عصر النهضة في العراق الحديث تدريجيا  بادراك هذا المفهوم من خلال (مسخه)لاغيرومن ثم ليطرح سياسيا وفكريا ومجتمعيا في الخمسينات  والى اليوم على اساس قشرة سطحية من التمدين المفتعل للمجتمع وبدون فهم لبّ الحداثة وجوهرها ، ولهذا اصبح كل حديث عن الحداثة في الفكر السياسي العراقي  او العلمي هو حديث الانسلاخ عن جذور التقاليد الشرقية فحسب والارتماء في احضان السلوكيات  والتجارب الاخلاقية الاوربية كما يفهم الحداثة معظم العراقيين اليوم  !!.
اما الملك فيصل الاول ، ومن خلال ما قرأناه من فكره في ورقته السياسية وبرنامجه العملي ،  لانشاء الدولة العراقية الحديثة ، فانه كان يرى الحداثة على جوهرها الواقعي النقي بالتمام وانها تعني : (( دخول عصر الصناعة والتقنية والعقلنة واقتصاد السوق الحرة على العالم الانساني الجديد بما في ذالك عالم العراق الحديث ، وانعكاس هذه التقنية الصناعية وبكل مفاهيمها الحديثةعلى واقع الشعوب وقدرةهذه الحداثة الجديدة على تشكيل المجتمعات بطابعها التقني ، اكثر مما كانت المجتمعات تشكل نفسها من خلال تقليديتها الزراعية المنتمية لعصر ما قبل الصناعة والتقنية الحديثة  )) !!.

هذه هي الحداثة التي ادركها فكر فيصل الاول السياسي ، ولم يستطع بعده سياسي عراقي ان يفهمها بشكلها الواقعي حتى اليوم !!.

تحدث الفكر الغربي الصناعي  منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن اشكاليات الحداثة الصناعية وعصر العقلنة وانعكاساته الكبرى على بنى الاجتماع الانساني مابعدالصناعة ومفاهيمها !!.
ومن خلال هذا الجدل الحداثوي الصناعي برزت الحاجة اوفرضت الحاجة نفسها لانشاء((علم اجتماع حديث))يبحث ويدرس و... تاثيرات هذه الحداثة على المجتمعات الاوربية والانسانية مابعدالتقنية وطرح ((اوجست كونت)) ملامح هذا العلم واسس ((دوركايم)) لقواعده ومناهجه العلمية ، باعتبار انه لايمكن لخطة سياسية ولالبرنامج اقتصادي ولالبناء عمراني اولهيكل ثقافي ....... ان يقوم بدون الاستعانة بمنتجات هذا العلم الجديد الذي يرسم معالم الطريق لفهم المجتمعات الصناعية الحديثة  وادراك تقلباتها المتسارعة التي تحركها السوق الاقتصادية والصناعة اكثرمن محركاتها التقليدية السابقة!!.

وبهذا الفهم الحداثوي(الصناعوي والاقتصادوي والتقنوي والعقلانوي) دخل العالم الانساني بصورةعامة لعالم اجتماعي وانساني جديدلايمكن بناء حجر في اساسه بدون ادراك :  ان هذا البناء اصبح بعد الحداثة بيد الفكر الخلاق والصناعة ومفردات السوق الاقتصادية الحرة ، والتخطيط التقني  والتطور الاعلامي المهول والبرمجة المعلوماتية ....الخ ، وليس بيد شيئ اخر !!.

فهم الملك فيصل الاول رحمه الله : ان(عصر الاقتصاد الزراعي) قد انتهى بالفعل ثقافيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا ، ليبدأ عصر التقنية  والصناعة في هيمنته عليه ، ولهذا اشار في ورقته الى :
(( اقول بكل اسف ، ان الزراعة افلست في بلادنا  بالنظر لبعد مملكتنا عن الاسواق لقد وضعنا الملايين لانشاء الري لكن ماذا نريد ان نعمل ..... هل القصدتشكيل اهرامات من تلك المحاصيل والتفرج عليها؟ ماذا تكون فائدتنا منها اذا لم نتمكن من اخراجه االى الاسواق الاجنبيةاواستهلاكها في الداخل على الاقل ؟!...  اعتقد انه من الضروري اعادة النظر من جديد في موقفنا الاقتصادي ...علينا ان نقلع عن السياسة الخاطئة التي اتتنا على سبيل تقييد الامم المتشبثة علينا ، ان نعاون المنتسبين من ابناء الوطن ، بصورة عملية فعالة وان نعطي الانحصارات لابناء البلاد الى مدد معينة، الذين فيهم روح التشبث ، واذا لم يظهر طالب راغب لانشاء (عمل صناعي) ترى الحكومة انه مربح فعليها ان تقوم هي به ومن مالها الخاص اوبالاشتراك مع رؤوس اموال وطنية اذا امكن ، والا فاجنبية او كلاهما معا / الفقرة الحادية عشرة من الورقة )) .
ان هذا الفهم لروح العصرالجديد من قبل الملك فيصل (رحمه الله) وانه هو بالفعل عصر الصناعة ، اكثر منه عصر الزراعة المولي يدلل بلا لبس ان الملك فيصل كان يعيش ويدرك معنى (( روح الحداثة الحقيقية)) في عصر مابعدالزراعة والفلاحة وانه عصرتتحكم فيه مفاهيم وثقافة الصناعة وقوتها اكثر بكثير من مفاهيم الزراعة وثقافتها ، وبالفعل ادخل الملك فيصل الاول بعملية تحديثية صناعية (( بدائية)) للعراق الحديث مفهوم الصناعة وادواتها الابتدائية اولا .
لتصنع من ثم ،وتلقائيا هذه البذرة الاقتصادية الصناعية مجتمع المدينة الذي يستقطب بدورة الصناعيين الصغار والراسماليين الطموحين  والهاربين من عبودية عصر الزراعة والاقطاع من باقي المدن العراقية ، وحتى الوصول الى صناعة ( المدينة ) بمفهومها السوسيولوجي الحديث ، الذي يصهر هذه التنوعات البشرية الصناعية الحديثة ،  بقالب من الطبقة الوسطى الطموحة والمثقفة والواعية والمدركة لكل مزايا عصر الحداثة القائم ثانيا  !!.

نعم بهذا الفهم ندرك كيف استطاع الملك فيصل ان يدفع بتجربته السياسية العراقية الحديثة للنجاح ، وندرك ان نجاح فيصل الاول يرجع باساسه الى ادراك هذا الرجل لمفاهيم عصره وادوات ومفردات ذالك العصر الفاعلة واستخدام مفاهيم الحداثة من صناعة وتقنية وتطور بوسائل الاتصال ... الحديثة ليجعل منها المنطلق ببناء العراق الحديث انذاك والذي ما ان دارت عجلة التحديث (الفيصلية العراقية) تلك ، حتى اصبحت لدينا في الاربعينات وحتى الخمسينات طبقة سياسية واعية ومهنية  ومكون فكري وعلمي ناهظ وسوسيولوجيا عراقية متحررة ، ومتطلعة لبناء اكثر راديكالية  وثورية مما كان متوقعا !!.
ولعل ظاهرة الخمسينات الثورية الراديكاليةللمكونات العراقيةالمتعلمة والتي كانت مستغرقة الى حد العبادة لمنتجات العلم والصناعة الحديثة ، كانت هي ثمرة تلك البذرة الحداثية الصناعية ، التي اسس لها فيصل داخل المجتمعية العراقية الحديثة ، التي مع الاسف فلتت من عقالها لتدخل في دوامة الثوري الراديكالي السياسي القشري بدلامن ان تستمر بالثوري الراديكالي التحديثي الصناعي والعمراني للعراق كماكان مخططا له من قبل فيصل الاول رحمه الله !!.
ان فيصل الاول كان يدرك تماماان التقدم والتطورالاتي من البناء الصناعي والتخطيط السياسي السليم ، وليس القادم من اليوتوبيا والايدلوجيا الغيبية او المادية الخرافية هوحليف عصره السياسي العراقي الجديد ولهذا خطط لبناء عراق كان لايشك للحظة انه سيقوم بالمهمة المطلوبة منه ، وذالك لان فكر فيصل الاول البنائي والحداثوي لم يكن (فكرا رجعيا ) يدرس التاريخ بعقلية منغلقةليخطط لكيفية حكم هذا العراق فحسب بل كان فكرا يدرك ان صناعة الشعوب في العصرالحديث مختلفة بالكليةعن ماوعيناه تراثيامن حكم وقيادة تغيير للشعوب العربية والاسلامية تاريخيا ، بل انها صناعة ، وتغيير يقوده التحديث في الصناعة والعمران والتقنية والتخطيط ، اكثر من قيادة الابطال الاسطوريين والملهمين الجلادين التاريخيين والايدلوجيين الماديين .. وغير ذالك !!.
ومن هنا كان حكم فيصل الاول رحمه الله ديمقراطيا قائماعلى الانفتاح على الشعب العراقي ، لا لأن الديمقراطية هي منتجا فيصليا ، لكن لان الفيصلية هي منتجا حداثيا صناعيا اولا وقبل ان تكون ديمقراطية ثانيا !!.
آن الاوان لفكرنا العراقي اليوم ان يدرك ولو هذه المفردة البسيطة جدا من نجاح التجربة الفيصلية السياسية للعراق الحديث وهي ان الديمقراطية منتجا من متجات العصر الصناعي والعقلنة العلمية والتقنية الحديثة ، وليست هي ابتكارا ، لاخلاق هذا الحاكم ، او ذاك الملك العطوف ، مع ان وعي الحاكم وادراكه واخلاصه ، وسلامة تخطيطه .... جزءً مهما من معادلة المشروع السياسي الديمقراطي الناجح في اي مكان في هذا العالم ، لكن تبقى المعادلة اليوم ، هي كما كانت بالامس القريب ، للعراق الحديث (فهم الحداثة)  اولا بمفرداتها  ببنيتها الصناعية والتقنية والعلمية هي البوابة لكل صاحب سلطة او حاكم ومدير للشروع باقامة بناء مثمر وواعد ومتطلع وكبير !.
اما بغيرذالك فسيعيش المجتمع والدولة اوالسلطة في دوامة التيه الذي دخلنا فيه كعراقيين منذ الخمسينات وحتى اليوم لاندرك كيف دخلنا وكيف السبيل للخروج منه !.                                     
 ________________________

مدونتي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

HTML