ليس عبثا ان يفتتح العالم الغربي ، ما بعد الصناعي في نهاية القرن
السابع عشر وبداية الثامن عشر الميلادي وحتى اليوم عالمه الجديد آنذاك بالدعوة
لانشاء علم اطلق عليه مؤسسه الفرنسي (( اوجست
كونت )) مسمى ((علم الاجتماع)) ونظّر له (( اميل دور كايم )) قبل ان تدور عجلته
وتنمو اغصانه ليصبح من اهم العلوم الانسانية التي تدّرس في جامعات الدول الغربية
قاطبة ، وليحوز من ثمة هذا العلم على كل هذه الاهمية في بناء تاسيس الحياة الغربية
الحديثة !!.
كما انه ليس عبثا (ايضا) ان تطلق مسميات كثيرة على هذا العلم من قبل
علماء هذا الفن ابّان نشأته على يد مؤسسيه
، فكان هو (( علم الفيزياء الاجتماعية)) وهو ((علم الدولة / كما كان يقترحه له
كونت قبل تسميته بعلم الاجتماع )) ، وحتى
اليوم كذالك عندما اطلق عليه علماء الاجتماع المعاصرون ((انتوني غدنز وغيره )) اسم
: (( علم الحداثة ، وعلم المجتمع الصناعي و
....الخ )) !!.
فكل هذه المسميات بالاضافة الى ظاهرة بروز وولادة هذا العلم عقب ثلاث
ثورات عظيمة في ذالك العالم : (( الثورة الفرنسية السياسية / 1789م /والثورة الصناعية الانجليزية القرن
الثامن عشر/ والثورة الفكرية العلمية )) تدفعنا للبحث وتسليط الاضواء على هذا
العلم من جديد لندرك جواب سؤال لماذا هذا العلم بالذات هوالذي فرض نفسه بالقوة على
العالم الحديث مابعد الصناعي ، والذي اسس لفاصلة بين عالمين مختلفين تماما هما :
عالم الزراعة الانساني التقليدي وعالم
الصناعة الحديث ؟.
ابسبب انه علم ضروري انتجته الحضارة الصناعية التي دخلت على العالم
الانساني ولتغير فيه من ثم كل شيئ ، ولهذا فعلم الاجتماع هو نواة هذا العالم ،
الذي عندما اطلّ على الانسان ، فرض معه مفرداته ومناحيه وبكل ما لجسد العالم الصناعي من علل ، وامراض وصحة واسقام ....الخ ؟.
ام بسبب ان علم الاجتماع (( وتاريخيا عربيا اسلاميا حصريا )) هذه
المرة وكما نبه له عالم الاجتماع والمؤرخ العربي((عبد الرحمن ابن خلدون 700/ 800
هجرية/ 1400م و 1500 ميلادية في مشروعه
لصناعة علم للاجتماع لم يحالفه الحظ بالاستمرار والنجاح)) يفرض نفسه تلقائيا عندما يكون هناك ((متغيرا اجتماعيا وتاريخيا )) يؤثر
في حركة ((العمران البشري)) بشكل جذري مما يستدعي ان يفرض علم العمران نفسه ، وان يبرز بشكل علم مستقل ، وضروري وملح
لدراسة ، وبحث طبيعة هذا العمران والمتغير الذي يطرأ عليه لاغير !!؟.
بمعنى اخر: ما الاهمية الضرورية القصوى التي فرضت نفسها على عالمنا
الصناعي المعاصر (وخاصة الغربي الصناعي) الحديث بحيث دفعته للبحث عن رؤية فكرية
اوعلم يكون المجتمع المحلي والعالمي ومتغيره مادة لموضوعه وبحثه ؟.
ولماذا اصبح علم الاجتماع بالذات
من بين العلوم الانسانية الاخرى هو مدار ارتكاز ثقيل تدور رحى المجتمع الصناعي
الحديث والمعقد عليه ، بحيث يمكننا الجزم
هنا : بانه لولا علم الاجتماع الحديث لما
تمكن العالم الغربي الصناعي المتطور ان يدرك (( فهم نفسه)) وفهم : كيفية التعامل
مع هذا العالم المتغير والمتطور ، الذي دخلت عليه الثورات الكبرى : ((
السياسية بتغيير نظم الحكم من اقطاعية كنسية الى ديمقراطية مدنية والاقتصادية : في
احلال الصناعة مكان الرعي والزراعة /، والعلم والفلسفة العقلية مكان ثقافة الخرافة
والاسطورة والغياب)) لتغير كل شيئ فيه من القاع وبنية المجتمع الى قمة الهرم في
الفكر والثقافة والسلوك الانساني البسيط ؟ .
الحقيقة ان كل هذه الاسئله ، وغيرها
وبمختلف مناحي اجوبتها وما تتناوله من زوايا تخص علم الاجتماع وموضوعه ان دلت على
شيئ فانما تدل: (( على ما لعلم الاجتماع اليوم من اهمية لاغنى عنها لكل مجتمع
وعالم ووطن وشعب ..... يعيش تحت وطأة عالمنا الصناعي والتكنلوجي ، وما بعد الحداثي
المتغير بوتيرة متلاحقة ومتتابعة )) ويحاول ان ينهض ويتطور
وينموا باضطراد مع جريان هذه الماكنة التكنلوجية السريعة !!.
وهذه الحقيقة لاتحتاج لعناء ( في الواقع )لايصالها الى العقل الغربي
التكنلوجي الاقتصادي الحداثوي اليوم ،
لانه عقل ادرك ما لهذا العلم من اهمية وهو
العقل ، الذي ساهم في الدعوة ، وصناعة هذا
العلم الحديث ، وهو عقل استوعب ( على اي حال ) خطورة علم الاجتماع وما يتناوله من
موضوعات اجتماعية تشكل بدورها (( مصير حركة المجتمع في نجاحه واخفاقه )) في اي مشروع سياسي او ثقافي او
قتصادي او تربوي او .... يُراد تطبيقه على هذا المجتمع ، !!.
وعلى هذا الاساس بدى اليوم امرا طبيعيا وربما بدهيا في هذا العالم الغربي الصناعي الحديث ان
تجد : (( مديرا لشركة راسمالية ضخمة /مثلا/ ، او تجد سياسيا في هذا العالم الغربي
يحاول خوض انتخابات للفوز برئاسة جمهورية او رئاسة حكومة ، او تجد صاحب مشروع تربوي صغر او كبر او ... الخ
، الا واكتشفت ان من اولى اهتماماته اذا لم تكن من اولى خطواته ان يهيئ ((مستشارا )) له يمتهن مهنة علم الاجتماع ليضع ويرسم له
خريطةطريق النجاح لمشروعه داخل المجتمع ويحذره
من منزلقات اخفاقه داخل هذا الاجتماع !!.
وهذا ايضا يدل على ان العقل الغربي التكنلوجي والعلمي اليوم يدرك وبوضوح
ما لعلم الاجتماع من موقع ومركز رئيسي في بناء
الحياة الاجتماعية ، وخاصة الغربية من جهة وما لهذا العلم الاجتماعي من حيوية مصيرية
و((مصداقية فعلية)) مع باقي علوم الحياة الانسانية التي لاغنى عنها اليوم من جانب
اخر !!.
بل ان هذا العقل الصناعي ، والاقتصادي التكنلوجي الحداثوي اصبح
لايناقش حتى في موضوعةالتظيرات التاسيسيةالاولية لعلم الاجتماع التي تناقش وتبحث :
هل ان المجتمع يصلح فعلا ، ليكون مادة لبحث علمي ام انه مادة ليس لها وجود
واقعي ( وانما وجودها اعتباريا ) اصلا
فضلا عن كونها مادة لعلم ما ؟؟.
فمثل هذه البحوث التاسيسية
والتنظيرية لانكاد نجد لها بابا حتى في كتب المقدمات ، والمداخل الغربية التي تتناول علم الاجتماع
بالبحث والدراسة والتاليف للمبتدئين ((
معظم كتب علم الاجتماع تخلوا من هذا الباب )) ، وهذا ان دل على شيئ فانما يدل على
ان العقل الغربي العلمي الحديث ، طوى موضوعة هذه المناقشة ، لا لعدم اهميتها بل ليسلم تسليما مطلقا بان هذا
العلم المسمى بعلم الاجتماع هو علم من ضمن العلوم ، التي لا شك فيها ويرتقي مستوى مصداقيتها العلمية الى مصاف
العلوم الفيزيائية والميكانيكية والرياضية .... الخ !!.
اما الاشكالية الكبرى اليوم فهي تكمن في العالم الثالث ، وهو عالمنا
الذي لم يزل خارج نطاق العالم التكنولوجي
الصناعي الحديث انتاجا الا انه يتلقى انعكاسات ومؤثرات وارتدادات و.... هذا العالم
العولمي الصناعي والتكنلوجي بعنف ويتأثر بكل المنتجات التكنلوجية الغربية المعاصرة
((على مستوى الاتصالات التكنلوجية بالخصوص)) بدون ان يكون لديه ، اي وجهة نظر ، او حتى توجه للانكباب على معرفة
ماهية وقوانين وعمليات هذه العواصف التكنلوجية التي تضرب بناه الاجتماعية ،
لتحولها الى هشيم هش تذروه رياح وعواصف الحداثة والصناعة والتكنلوجيا اليوم وهو واقف امامها عاجز حتى عن فهم الذي يحصل حوله
!!.
ان من اهم الحقائق العلمية الموضوعية ، التي برزت بوضوح للعقل الغربي
الصناعي والتكنلوجي في بداية مسيرته الحداثوية في العصر ((مابعد الصناعي واقتصاد
الراسمال والحياة المدنية )) ، هي حقيقة مؤثرات العالم الصناعي التكنلوجي ، وتاثير ذالك على بنية المجتمع الانساني الغربي
، ولهذا قام علم الاجتماع ليعالج موضوعة المجتمع وكيفية فهم متغيراته وتطوراته وتناقضاته الناتجة عن دخول عامل
الصناعة ،والحداثة الاقتصادية الجديدة على عالم الانسان المجتمعي فوضع هذا العلم
المناهج والاسس والرؤى ..، التي من خلالها ندرك نحن :
ما هو المجتمع ؟.
وكيف يتركب من كيمياء الافراد بداخله ؟ .
وماهي ظواهره ؟ .
وكيف نتمكن من اخضاع هذه الظواهر للدراسة والبحث ؟، .
وكيف نصل الى خلل تفكك المجتمع واسبابه ؟، .
وماهي الطرق التي من خلالها نتمكن من اعادة انتاج لحمة المجتمع
وتماسكه بعد ان اختلّ توازن هذه اللحمة بفعل دخول جسم الصناعة والتكنلوجيا
الحديثة على هذه البنية ، ليغير من نمط
حياتها الفوقي ويهز من بنيتها الداخلية
؟......الخ .
اما في عالمنا الثالث عربيا او اسلاميا او حتى انسانيا والذي لم يزل في معظمه يعيش نمط حياة الزراعة ،
وانتاجها ، والبداوة ، والرعي وتقاليدها من جهة ويتاثرمن جانب اخربعواصف
التكنلوجيا ودورات رؤوس الاموال الصناعية
، والمجالات الممغنطة ، لثورة الاتصالات الغربية الحديثة فانه عالم الى
هذه اللحظة ، ربما لم يسمع او سمع بعلم اسمه علم الاجتماع الا انه لايعلم على وجه اليقين هل هذا العلم
واقعيا او انه خيال من خيالات بني الانسان الحالمة !!.
نعم لدينا جامعات تدرّس ((مادة علم الاجتماع )) ولدينا كذالك اساتذة
وعلما ء دونوا الكثير والجيدمن المؤلفات النظرية لتاسيس منطلقات اجتماعية ، تساعد في
فهم هذا العلم ، ووظائف عمله الانسانية
لكن الاشكالية ليس في الوجود النظري لعلم الاجتماع ومادته التدريسية ((وان كانت
قاصرة )) في هذه المدارس والجامعات بل الاشكالية في انه : هل اقيمت مجتمعاتنا
اليوم مشاريعها السياسية ، او الفكرية او الاقتصادية او التربوية او النفسية او..
على هدي وفهم من تنظيرات ومناهج ونتائج علم الاجتماع الحديث ؟.
او هل استعانت (هذه المجتمعات )من خلال قادة مشاريعها المتنوعة السياسية
او الفكرية او الاقتصادية او التربوية او ....الخ بمنتج علم الاجتماع ورؤاه
ونظرياته ونتائجه العلمية الحديثة ؟.
ام انه لايوجد بالفعل ، ولا
مشروع عربي او اسلامي حاول ان يقيم بنائه
المجتمعي السياسي او الفكري او الاقتصادي او ... الجديد وفق رؤى علم الاجتماع العلمية
الحديثة ، التي تهدي الى الكيفية السليمة في :
اولا:كيفية بناء هذه المجتمعات ونقلها نقلة نوعية من عالم الزراعة
والرعي الى عالم ، على الاقل التعايش
الايجابي مع عالم التكنلوجية والصناعة الحديث .
وثانيا: تخفيف وطأة العواصف التكنلوجية على هذه المجتمعات التي تفككت
بناها التحتية تمامابفعل ضربات العالم التكنلوجي الحديث وما يعكسه من هزات على بنى
الاجتماع الانساني القائم !!.
الواقع يقول انه لا يوجد بالفعل اليوم مجتمع من مجتمعاتنا المتخلفة
على جميع الصعد يفكر ، حتى ولو بمجرد التفكير: ان يستعين بالعلم بصورة عامة ، فضلا
عن علم الاجتماع بصورة خاصة لانقاذ ماتبقى من هذه المجتمعات من غرقها المحتوم في
عالم لايرى سلطة وادارة الا سلطة العلم وادارته !!.
بل الانكى من ذالك ان هذه المجتمعات المتخلفة ، وحتى اليوم لاتدرك لاهي
ولا قادتها انه لاطريق ولا سبيل لها للعبور لعالم متطور ونامي ومختلف عن ما هي
عليه ، الا من خلال ما يرسمه لها علم الاجتماع بصورة خاصة ، وباقي العلوم بصورة
عامة ، فاي ((عملية انتقال)) من عالم زراعي تقليدي او رعوي بدوي متخلف، الى عالم
حضاري حداثوي تكنلوجي سريع الوتيرة والحركة ستبوء بالفشل حتما اذا لم تقرن هذه
النقلة بدراسة وبحث اجتماعي يرسم خارطة
طريق عبور هذا المجتمع من واقع اجتماعي غارق بالتخلف ، الى عالم تكنلوجي يختلف بكل ابعاده الاجتماعية !!.
وحتى المشاريع التي قادت مجتمعاتنا سياسيا ، او اقتصاديا او دينيا او تربويا او .. الخ خلال
الثمانين سنة الماضية فشلت وسوف يفشل اي مشروع وقيادته الى الامام لهذه المجتمعات((اذا
لم تبدأ مسيرتها ومشاريعها الاصلاحية ، والبنائية
من حيث بدأها الغربيون انفسهم عندما جعلوا الريادة ((لعلم الاجتماع اولا)) ليقود
هذا العلم خلفه علم السياسة ، والاقتصاد والنفس والادارة والتربية...... ، لينجز
مجتمعا متماسكا من جهة وسريعا وقابلا للتطور، والنمو بشكل لايتخلف عن سرعة
التكنلوجيا والماكنة الصناعية ابدا !!.
علم الاجتماع في هذه اللحظة من التاريخ بالذات هو : ((العلم الوحيد
القادرعلى صياغة رؤية ، ومعادلة توازن بين التكنلوجيا ، وحركتها وتطورها الرهيب ، والساحق لانسانية الانسان ، وبناه الاجتماعية والاخلاقية
والفكرية ....من جهة ، وبين عالم انساني مجتمعي يعتمد على طاقته الطبيعية البطيئة
، التي لاتستطيع العيش بسلام ، الا مع
التوازن بعيدا عن حركة الالات والمصانع )) !.
يمكنكم المراسلة على
مدونتي
فيها المزيد
على