كان يُدرس في مدارس علم الاجتماع الغربية في عصر النهضة ، وما بعده موضوعَ : (( كيفية هيمنة التراث والتاريخ بكل مافيه من عقائد ومقدسات وافكار واخلاقيات واموات ....على الانسان الذي يعيش الان وفي اللحظة القائمة )) لينتهي الدرس بالمقولة الشهيرة لعالم الاجتماع الفرنسي المعروف (( اوغست كونت)) التي تتحدث عن : (( إن الاموات يحكمون على الاحياء أكثر من ذي قبل )) !!.
وهكذا عندما نذهب صُعدا ، للبحث والتدقيق عن اول من تحدث عن نظرية : ( حكم الاموات للاحياء ) نجد إن القرآن الكريم قول الله العظيم سبحانه وتعالى هو اول مدرسة رصدت نظرية ((هيمنة التاريخ على الحاظر او هيمنة حكم الاموات الاباء على الابناء الاحياء)) ليتحدث لنا القرآن الكريم اجتماعيا وتاريخيا حول هذه الظاهرة !!.
وكيف انها ظاهرة واقعية ولها وجود داخل المجتمعات ؟.
وماهي منابعها ومصادرها الانتاجية الفكرية والمادية داخل اي مجتمع ؟.
وكيف ينبغي النظر اليها وتقييمها ؟.
وماهي سلبياتها على المجتمع وحركته وتطوره ونهضته ؟.
ولماذا ينبغي النظر لهذه الظاهرة على اساس انها ظاهرة لاتملك الجذور الاصيلة في تركيبة اي مجتمع سليم ؟.
ومن ثم كيفية السُبل التي تعالج وتناهض هذه الظاهرة باعتبارها ظاهرة سرطانية خطيرة على فكر المجتمع وحركته ونهضته ؟.
وكل هذا طبعا طرحته المدرسة القرآنية من خلال مفهوم تقديس التراث بامواته ، والتاريخ والماضي ..بقولها ((قالوا بل نتبع ما الفينا عليه اباءنا )) و ((إنا وجدنا اباءنا على امة وإنا على اثارهم مهتدون )) و (( وقالوا اجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه اباءنا ... ) و ....الخ ، لنخلص الى نتيجة مفادها :(( انه فعلا الاموات هم من يحكم الاحياء وليس العكس )) باعتبار ان القرآن ينظر الى كيفية تقديس الحاضرين الاحياء لتراثهم التاريخي والاموات فيه وانعكاس ذالك على ان الاموات في هذه الصورةوما اسسوه في التاريخ والماضي بالذات هم في الواقع من يحدد تصورات المجتمعات الحاضرة ويبني عقائدها وموازينها الفكرية والاخلاقية وكذا كيفية حكمها وشرعية نظمها السياسية والاجتماعية وربما كل وجودها الذي يتحرك في هذه الحياة !!.
ولعل اوضح مصداق اليوم لماطرحه القرآن الكريم في رؤيته الاجتماعية وكذا المدارس الغربية الفلسفيةوالاجتماعية الحديثة في موضوعة((حكم الاموات للاحياء))هو الاجتماع العربي اوامة العرب باعتبارها مكون منسجم في الكثيرمن مزاياه الانسانية التي تخلق منه نوعَ امة حية ولها شخصية ووجود مستقل ،وربما مايميز امة العرب في هذا الاطار والبحث عن باقي الامم والشعوب البشرية انها الامة الاكثر انطباقا على نظرية ( حكم الاموات للاحياء ) والاكثر استعدادا فطريا لوقوعها تحت هذه النظرية لوجود مقومات وعناصر تتمتع بها هذه الامة غير موجودة ، او متجذرة في باقي الامم بصورة عميقة ، كوجود البعد العشائري والقبلي (مثلا) الذي يدعم ويعمّق فكرة تقديس الاباء والاجداد والسلف والتاريخ والماضي بشكل يجعل من نظرية ((حكم الاموات للاحياء )) نظرية قابلة للانطباق بصورة حادة على هذه الامة اكثر من غيرها بكثير !!.
نعم من الجانب الاخر للموضوع مايميزاليوم الاجتماع العربي عن غيره من الاجتماعات البشرية قُبالة هذه النظريةإن أمة العرب واقعة تحت هذه النظرية من زاويتين مزدوجتين على الحقيقة وهما :
اولا : زاوية خضوع هذه الامة او اخضاعها تماما لحكم الاموات بتراثهم وتاريخهم من خلال تقديس هذا التراث بشكل هستيري وخلقه اسطوريا بحيث تكون له الهيمنة والاولوية على اي محاولة اعادة التفكير والتأمل او النقد في داخله لاعادة انتاجه !.
ثانيا : وجود عناصر داخل مؤسسة الحكم والدولة في راس الاجتماع العربي اليوم ، هي بالاساس منتج للتراث الحضاري الميّت بل وهي من الطحالب (( الميتة اساسا )) التي تقتات على تلك البرك التاريخية الآسنةالتي تخلقها نظرية (حكم الاموات للاحياء) ما يجعل الابداع والحركة والتغيير والتطلع للمستقبل ...الخ من المستحيلات الكثيرة التي لايمكن لهذه القيادات السياسية التفكير بها فضلا عن قيادة هذه الشعوب العربية نحوها ، للخلاص من جحيم التخلف والتبعية والضعف التي ترزح تحت نيره هذه الامة المغلوبة على امرها في فكرها وفي روحها وفي واقعها السياسي والعقدي وفي كل كيانها !!.
والحقيقة ان ما يرشّح نظرية (( حكم الاموات للاحياء )) لتكون عامل قتل وابادة لحركة اي امة ، بل والانتقال بهذه النظرية من كونها نظرية سلبية على تطوّر المجتمع فحسب الى كونها مرض سرطاني فتّاك يهلك ويميت اي امة يسيطر عليها هو ليس في ضرورةان يكون لكل امة ومجتمع من المجتمعات الانسانية تاريخ وتراث وماضي تستند عليه في تجربتها الحاضرة والمستقبلية فهذا من ايجابيات التاريخ ووظائفه والتراث ومقدساته ، ولكن اذا ما تحولت وظيفة التاريخ والتراث والماضي هذا من وظائفه الايجابية الى وظيفته السلبية ليقوم بلعب دور السجّان والجلاّد لهذه الامة بدلا من دور الرافد والنافذة والتجربة التي تدعم حركة الامة الى الامام ولاتغلها وتقيدها الى الخلف والماضي عندئذ يكون التراث والتاريخ مهيمنا ومتسلطا ويتحول المجتمع والانسان الى ضحية من ضحاياه التي لاتستطيع التحرر منه ويكون الانسان بداخله عبد من عبيده لاغير !!.
أي وبمعنى آخر اكثر وضوحا : إن القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس نفسه نظر للتاريخ والتراث والماضي وبكل مافيه من اموات ومقدسات وافكار وعقائد على اساسيين مختلفين في التوجهات والوظائف :
الاول : وهو اساس ان يكون التاريخ والتراث والماضي رافدا معرفيا للتجربة الانسانية القائمة لدفعها نحو الامام والتطور إي ان يكون التاريخ نافذة من خلالها يمكننا فهم سير عملية الانسان وحركة سننه الاجتماعية في هذا العالم ، ليتحول من ثم الانسان الى (( مهيمن ومسيطر )) على حركة الحاضر وموجه بنفس اللحظة لحركة المستقبل ومن هنا طرح القرآن قوله :(( قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق )) وقوله سبحانه : (( قد خلت من قبلكم سنن فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين)) باعتبار إن التاريخ والتراث والماضي وبمافيه من انبياء ومقدسين ومجرمين وافكار.... الخ كل هذا ماهو الا عظة وعبرة وتجربة وسنة من سنن الماضين يتمكن الانسان الانتفاع بها ،ومن خلالها فهم حاضره والبناء نحو المستقبل بشكل مختلف عما بناه الماضون من افكار وتصورات وتطلعات تنسجم مع الحاضر وتستقبل الاتي ،وتهيئ المجتمع للانتقال من مرحلة حضارية بنائية الى اخرى اكثر تعقيدا وتقدما ونموا وتكاملا وتطوّرا في المستقبل !!.
الثاني : وهو اساس ان يكون التاريخ والتراث والماضي عائق وجودي لنهضة الامة والمجتمع ،ومقيد معنوي لقوتها ووحدتها في هذا العالم ، وعندئذ يقرر القرآن برؤيته الاجتماعية والتاريخية وجوب الثورة والتمرد عليه والكفر بقيوده واغلاله التي يريد صناعتها لنفسه ولامواته وللمصالح الحاضرة المرتبطة والمتعلقة به ، من خلال التقديس لشأنه ، وما جاد به من افكار واموات وعقائد لايمكن التفكير بتجاوز مقرراتها الماضوية والتي هي في اساسها (حسب الرؤية القرآنية ) منتج مرتبط بحقبة معينة من الزمان والمكان التاريخي والاجتماعي صالحة لان تكون عبرة وتجربة ورافدا لحياة الاحياء ، لكنها ابدا لاتصلح ان تكون حاكما ومهيمنا وموجها بصورة مطلقة ومقيدة للاحياء وحياتهم الحاضرة وبنائهم المستفبلي !!.
يقول سبحانه بهذا الصدد الاجتماعي والتاريخي شارحا اسباب تقديس الماضي والتاريخ والاموات حتى الوصول به الى الهيمنة والحكم على الاحياء بالنسبة لافراد المجتمع المخدرين سياسا والغائبين عاطفيا بالقول : (( وأذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما آلفينا عليه اباءنا اولوا كان اباؤهم لايعقلون شيئا ولايهتدون )) من منطلق ان الالفة المعنوية النفسية وادمان عبادة السلف الصالح وما انتجه من افكار ومقدسات ورؤى هي العوامل الاساسية للانتقال بالتراث، والتاريخ من وظيفته الايجابية الى هيمنته السلبية التقديسية على عقل الجمهور والمجتمع ، ما يقتضي اعلان الثورة ، وتسفيه عقل الاباء التاريخيين والتمرد على ذكائهم ووصفهم بعدم العقلنة او الهداية في شيئ من الماضي ، وحتى ما يعيشه الاحياء اليوم ليتمكن المجتمع من التخلص من عبودية هذا التاريخ ، والتحرر من قيوده واغلاله التقديسية المزيفة !!.
وهكذا فيما يتعلق بالرؤية القرآنية التي ترجع اسباب تقديس التراث وصناعة هيمنته على المجتمع وعقل وذهن الامة ، ومن ثم الانتقال بالتاريخ من وظائفه الفكرية الايجابيةالى جعله الاها يعبدمن دون الله سبحانه فإن القرآن يقرران هناك مصالحا سياسية ومنافع تجارية ، وخلفيات نفعية ...، هي التي تقف خلف صناعة القداسة للتاريخ وللتراث وللسلف من قبل المترفين والمنتفعين من الوضع القائم والذين يرون ان اي حركة وتطلع للامة نحوالمستقبل والانعتاق من عبودية الوضع القائم خطرا وجوديا يجب القضاء عليه من خلال ضخ كميات هائلة من القداسة للماضي وماجاء به السلف وتجريم من يتعرض له بالنقداو التأمل ووجوب عدم تجاوزمقرراته وضرورة البقاء عليه وعبادته الى مالانهاية ، ورؤية كونه هو الارقى في الفكر الانساني ......الخ وكل ذالك في الواقع لتحقيقي هدفين لاصحاب النفوذ والسلطة والترف :
الاول: ضمان بقاء المجتمع منجراً الى الخلف التاريخي ومفكرا فيه ومعتقدا (( بوجود الخلاص )) من الوضع القائم بافكاره وبما اسسه الاباء المقدسين من السلف الصالح لاغير !!.
ثانيا : هدف سلامة وشرعية الوضع السياسي والايدلوجي القائم المنبني اساسا على الماضي والتراث ومقدساته لاسيما ان كان هذا التراث والماضي والاموات والمقدس ....يرفد بشدة الوضع السياسي القائم ويهبه الشرعية المطلقة ،ويجرّم التفكير بالثورة عليه وان كان فاسدا ، او تغييره او التطلع للنموذج الارقى منه سياسيا للمستقبل !!.
وبهذا يكون اصحاب السلطة والترف قد ضربوا عدة عصافيرسمينة بحجر واحد من اخطرها تغييب ذاكرةوفكرالمجتمع في دوامة البحث في الماضي والتراث على مفاتيح الخلاص من الاوضاع السياسية والاجتماعية المزريةالتي يعيشهاالمجتمع بينما الحقيقة انه لامفتاح لحلّ اجتماعي قائم الا في التطلع للمستقبل ، وابتكار وصناعة التغيير من الحاضر مستعينين بالتاريخ والتراث على هذا التغيير وليس راجعين نحوه ومقدسين لمنجز امواته من السلف الصالح ومقتبسين من اغلاله قيدا للتحرر من الواقع !.
قال :((وكذالك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على اثارهم مقتدون)) أي ان من يناهض اي عملية تغيير وتطوير للمجتمع هم المنتفعون من اصحاب الحكم والمال والسيادة والترف والذين ترتبط مصالحهم السياسية والاقتصادية بالوضع القائم فيعمد هؤلاء الى مبرر طريقة السلف الصالح من الاباء الماضين وانها هي الطريقة المثلى في ادارة الحياة والجماعة ولاينبغي التفكير بالاقتداء الا بالاثارالتاريخية التي صنعوها والتراث الماضوي التليد الذي بنوه ليكون لنا هاديا ومرشدا الى مالانهاية في هذه الحياة !!.
وفي حقيقة الامر ( كما يذكره القرآن الكريم) ان سبب حرقة قلوب المقدسين للتراث وللسلف وللتاريخ وجعله هو الحاكم للاحياء بدلا من الدافع لهم نحو المستقبل هو كون تقديس الاباء والتراث هي السبيل الوحيدة والفاعلةلتغييب الامة عن تطلعها للمستقبل او تفكيرهابتغيير الوضع القائم الذي تنتفع منه طبقة السلطة والنفوذ والترف فحسب لاسيما ان كانت من ضمن ثقافة هذا التراث ومقدساته التاريخية وما طرحه الطالحون من سلفه الاموات: هو وجوب عدم الخروج على السلطان ، ولزوم الانقياد لاصحاب السلطة والترف والحكم بالانقياد والطاعة لهم عندئذ من حق المترفين اي يقولوا :(( إنا وجدنا اباءنا على أمة وانا على اثارهم مقتدون )) !!.
إن من المآسي التي يعيشها مجتمعنا العربي اليوم وبشكل حقا بشع ومبرمج ومدمرّ هو كون هذا المجتمع يدور في حلقة مفرغة بالفعل للبحث عن خلاصه بل والاكثر مأساوية في وضع امة العرب القائمة اليوم انها واقعة بين حكم (مِيتين) :
الاول :التاريخ ومقدساته وما طرحه السلف الصالح الممنوع على اي فكر النيل منه اونقده او اعادة توجيهه تحت بند قمع الفتنة واثارة الطائفية على لسان السلطة القائمة الحامية ، لهذا التراث والمدافعة عنه والعالنة للحرب المقدسة في سبيله ان جرت اي محاولة لتسفية الاباء وافكارهم المقدسة ( كما هو المنهج القرآني )او نقدهم او توضيح موت افكارهم بموتهم او عدم صلاحيتها اصلا للحياة اليوم فضلا عن البحث في داخلها لتجديد الحياة وبناء المستقبل على اسسها !.
والثاني : حكم الموتى من ساسة وقادة وزعماء وملوك وامراء .....،هم بالاساس يستمدون شرعيتهم من التراث والتاريخ وكل ماهو ماضوي وميت اليوم على الحقيقة بسبب عدم امتلاكهم الى مشروع للمستقبل يدفع للتغيير او التفكير بتغيير ماهو قائم من محرقة تأكل هذه الامة وتستنزف كل وجودها وطاقتها المتبقية ،وهذا طبعا فضلا عن ان هؤلاء الزعماء والملوك والامراء العرب اصبح واضحا وجليا لديهم ، ان اي تفكير بالتغيير ، او بالتطلع للمستقبل من قبل المجتمع العربي ، يعني بالضروة الاطاحة بهم او ازالتهم من طريق التغيير باعتبار انهم حجر العثرة العظيمة والعقبة الواقعية ، التي تقف بطريق الوصول للمستقبل ، او انهم تحولوا بالفعل الى تراث وماضي وتاريخ لابد من تجاوزه للدخول في الحاضر على الاقل !!.
اخيرا : اذا لم يفكر الاجتماع العربي بجدية بالكفر اليوم بطاغوت حكم الاموات عليهم والثورةعليه وتغييره تغييراجذريا مدروسا وواعيا لحركة التاريخ ، والتاسيس الجديد للمستقبل فان مصير هذه الامة سيكون مرعبا وظلاميا ومفجعا بصورة لايتخيلها عقل انسان عربي سوي هذه الايام !!.
مزيد من الفكر والبحث : مدونة حميد الشاكر
_________________________________
alshakerr@yahoo.com
وهكذا عندما نذهب صُعدا ، للبحث والتدقيق عن اول من تحدث عن نظرية : ( حكم الاموات للاحياء ) نجد إن القرآن الكريم قول الله العظيم سبحانه وتعالى هو اول مدرسة رصدت نظرية ((هيمنة التاريخ على الحاظر او هيمنة حكم الاموات الاباء على الابناء الاحياء)) ليتحدث لنا القرآن الكريم اجتماعيا وتاريخيا حول هذه الظاهرة !!.
وكيف انها ظاهرة واقعية ولها وجود داخل المجتمعات ؟.
وماهي منابعها ومصادرها الانتاجية الفكرية والمادية داخل اي مجتمع ؟.
وكيف ينبغي النظر اليها وتقييمها ؟.
وماهي سلبياتها على المجتمع وحركته وتطوره ونهضته ؟.
ولماذا ينبغي النظر لهذه الظاهرة على اساس انها ظاهرة لاتملك الجذور الاصيلة في تركيبة اي مجتمع سليم ؟.
ومن ثم كيفية السُبل التي تعالج وتناهض هذه الظاهرة باعتبارها ظاهرة سرطانية خطيرة على فكر المجتمع وحركته ونهضته ؟.
وكل هذا طبعا طرحته المدرسة القرآنية من خلال مفهوم تقديس التراث بامواته ، والتاريخ والماضي ..بقولها ((قالوا بل نتبع ما الفينا عليه اباءنا )) و ((إنا وجدنا اباءنا على امة وإنا على اثارهم مهتدون )) و (( وقالوا اجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه اباءنا ... ) و ....الخ ، لنخلص الى نتيجة مفادها :(( انه فعلا الاموات هم من يحكم الاحياء وليس العكس )) باعتبار ان القرآن ينظر الى كيفية تقديس الحاضرين الاحياء لتراثهم التاريخي والاموات فيه وانعكاس ذالك على ان الاموات في هذه الصورةوما اسسوه في التاريخ والماضي بالذات هم في الواقع من يحدد تصورات المجتمعات الحاضرة ويبني عقائدها وموازينها الفكرية والاخلاقية وكذا كيفية حكمها وشرعية نظمها السياسية والاجتماعية وربما كل وجودها الذي يتحرك في هذه الحياة !!.
ولعل اوضح مصداق اليوم لماطرحه القرآن الكريم في رؤيته الاجتماعية وكذا المدارس الغربية الفلسفيةوالاجتماعية الحديثة في موضوعة((حكم الاموات للاحياء))هو الاجتماع العربي اوامة العرب باعتبارها مكون منسجم في الكثيرمن مزاياه الانسانية التي تخلق منه نوعَ امة حية ولها شخصية ووجود مستقل ،وربما مايميز امة العرب في هذا الاطار والبحث عن باقي الامم والشعوب البشرية انها الامة الاكثر انطباقا على نظرية ( حكم الاموات للاحياء ) والاكثر استعدادا فطريا لوقوعها تحت هذه النظرية لوجود مقومات وعناصر تتمتع بها هذه الامة غير موجودة ، او متجذرة في باقي الامم بصورة عميقة ، كوجود البعد العشائري والقبلي (مثلا) الذي يدعم ويعمّق فكرة تقديس الاباء والاجداد والسلف والتاريخ والماضي بشكل يجعل من نظرية ((حكم الاموات للاحياء )) نظرية قابلة للانطباق بصورة حادة على هذه الامة اكثر من غيرها بكثير !!.
نعم من الجانب الاخر للموضوع مايميزاليوم الاجتماع العربي عن غيره من الاجتماعات البشرية قُبالة هذه النظريةإن أمة العرب واقعة تحت هذه النظرية من زاويتين مزدوجتين على الحقيقة وهما :
اولا : زاوية خضوع هذه الامة او اخضاعها تماما لحكم الاموات بتراثهم وتاريخهم من خلال تقديس هذا التراث بشكل هستيري وخلقه اسطوريا بحيث تكون له الهيمنة والاولوية على اي محاولة اعادة التفكير والتأمل او النقد في داخله لاعادة انتاجه !.
ثانيا : وجود عناصر داخل مؤسسة الحكم والدولة في راس الاجتماع العربي اليوم ، هي بالاساس منتج للتراث الحضاري الميّت بل وهي من الطحالب (( الميتة اساسا )) التي تقتات على تلك البرك التاريخية الآسنةالتي تخلقها نظرية (حكم الاموات للاحياء) ما يجعل الابداع والحركة والتغيير والتطلع للمستقبل ...الخ من المستحيلات الكثيرة التي لايمكن لهذه القيادات السياسية التفكير بها فضلا عن قيادة هذه الشعوب العربية نحوها ، للخلاص من جحيم التخلف والتبعية والضعف التي ترزح تحت نيره هذه الامة المغلوبة على امرها في فكرها وفي روحها وفي واقعها السياسي والعقدي وفي كل كيانها !!.
والحقيقة ان ما يرشّح نظرية (( حكم الاموات للاحياء )) لتكون عامل قتل وابادة لحركة اي امة ، بل والانتقال بهذه النظرية من كونها نظرية سلبية على تطوّر المجتمع فحسب الى كونها مرض سرطاني فتّاك يهلك ويميت اي امة يسيطر عليها هو ليس في ضرورةان يكون لكل امة ومجتمع من المجتمعات الانسانية تاريخ وتراث وماضي تستند عليه في تجربتها الحاضرة والمستقبلية فهذا من ايجابيات التاريخ ووظائفه والتراث ومقدساته ، ولكن اذا ما تحولت وظيفة التاريخ والتراث والماضي هذا من وظائفه الايجابية الى وظيفته السلبية ليقوم بلعب دور السجّان والجلاّد لهذه الامة بدلا من دور الرافد والنافذة والتجربة التي تدعم حركة الامة الى الامام ولاتغلها وتقيدها الى الخلف والماضي عندئذ يكون التراث والتاريخ مهيمنا ومتسلطا ويتحول المجتمع والانسان الى ضحية من ضحاياه التي لاتستطيع التحرر منه ويكون الانسان بداخله عبد من عبيده لاغير !!.
أي وبمعنى آخر اكثر وضوحا : إن القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس نفسه نظر للتاريخ والتراث والماضي وبكل مافيه من اموات ومقدسات وافكار وعقائد على اساسيين مختلفين في التوجهات والوظائف :
الاول : وهو اساس ان يكون التاريخ والتراث والماضي رافدا معرفيا للتجربة الانسانية القائمة لدفعها نحو الامام والتطور إي ان يكون التاريخ نافذة من خلالها يمكننا فهم سير عملية الانسان وحركة سننه الاجتماعية في هذا العالم ، ليتحول من ثم الانسان الى (( مهيمن ومسيطر )) على حركة الحاضر وموجه بنفس اللحظة لحركة المستقبل ومن هنا طرح القرآن قوله :(( قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق )) وقوله سبحانه : (( قد خلت من قبلكم سنن فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين)) باعتبار إن التاريخ والتراث والماضي وبمافيه من انبياء ومقدسين ومجرمين وافكار.... الخ كل هذا ماهو الا عظة وعبرة وتجربة وسنة من سنن الماضين يتمكن الانسان الانتفاع بها ،ومن خلالها فهم حاضره والبناء نحو المستقبل بشكل مختلف عما بناه الماضون من افكار وتصورات وتطلعات تنسجم مع الحاضر وتستقبل الاتي ،وتهيئ المجتمع للانتقال من مرحلة حضارية بنائية الى اخرى اكثر تعقيدا وتقدما ونموا وتكاملا وتطوّرا في المستقبل !!.
الثاني : وهو اساس ان يكون التاريخ والتراث والماضي عائق وجودي لنهضة الامة والمجتمع ،ومقيد معنوي لقوتها ووحدتها في هذا العالم ، وعندئذ يقرر القرآن برؤيته الاجتماعية والتاريخية وجوب الثورة والتمرد عليه والكفر بقيوده واغلاله التي يريد صناعتها لنفسه ولامواته وللمصالح الحاضرة المرتبطة والمتعلقة به ، من خلال التقديس لشأنه ، وما جاد به من افكار واموات وعقائد لايمكن التفكير بتجاوز مقرراتها الماضوية والتي هي في اساسها (حسب الرؤية القرآنية ) منتج مرتبط بحقبة معينة من الزمان والمكان التاريخي والاجتماعي صالحة لان تكون عبرة وتجربة ورافدا لحياة الاحياء ، لكنها ابدا لاتصلح ان تكون حاكما ومهيمنا وموجها بصورة مطلقة ومقيدة للاحياء وحياتهم الحاضرة وبنائهم المستفبلي !!.
يقول سبحانه بهذا الصدد الاجتماعي والتاريخي شارحا اسباب تقديس الماضي والتاريخ والاموات حتى الوصول به الى الهيمنة والحكم على الاحياء بالنسبة لافراد المجتمع المخدرين سياسا والغائبين عاطفيا بالقول : (( وأذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما آلفينا عليه اباءنا اولوا كان اباؤهم لايعقلون شيئا ولايهتدون )) من منطلق ان الالفة المعنوية النفسية وادمان عبادة السلف الصالح وما انتجه من افكار ومقدسات ورؤى هي العوامل الاساسية للانتقال بالتراث، والتاريخ من وظيفته الايجابية الى هيمنته السلبية التقديسية على عقل الجمهور والمجتمع ، ما يقتضي اعلان الثورة ، وتسفيه عقل الاباء التاريخيين والتمرد على ذكائهم ووصفهم بعدم العقلنة او الهداية في شيئ من الماضي ، وحتى ما يعيشه الاحياء اليوم ليتمكن المجتمع من التخلص من عبودية هذا التاريخ ، والتحرر من قيوده واغلاله التقديسية المزيفة !!.
وهكذا فيما يتعلق بالرؤية القرآنية التي ترجع اسباب تقديس التراث وصناعة هيمنته على المجتمع وعقل وذهن الامة ، ومن ثم الانتقال بالتاريخ من وظائفه الفكرية الايجابيةالى جعله الاها يعبدمن دون الله سبحانه فإن القرآن يقرران هناك مصالحا سياسية ومنافع تجارية ، وخلفيات نفعية ...، هي التي تقف خلف صناعة القداسة للتاريخ وللتراث وللسلف من قبل المترفين والمنتفعين من الوضع القائم والذين يرون ان اي حركة وتطلع للامة نحوالمستقبل والانعتاق من عبودية الوضع القائم خطرا وجوديا يجب القضاء عليه من خلال ضخ كميات هائلة من القداسة للماضي وماجاء به السلف وتجريم من يتعرض له بالنقداو التأمل ووجوب عدم تجاوزمقرراته وضرورة البقاء عليه وعبادته الى مالانهاية ، ورؤية كونه هو الارقى في الفكر الانساني ......الخ وكل ذالك في الواقع لتحقيقي هدفين لاصحاب النفوذ والسلطة والترف :
الاول: ضمان بقاء المجتمع منجراً الى الخلف التاريخي ومفكرا فيه ومعتقدا (( بوجود الخلاص )) من الوضع القائم بافكاره وبما اسسه الاباء المقدسين من السلف الصالح لاغير !!.
ثانيا : هدف سلامة وشرعية الوضع السياسي والايدلوجي القائم المنبني اساسا على الماضي والتراث ومقدساته لاسيما ان كان هذا التراث والماضي والاموات والمقدس ....يرفد بشدة الوضع السياسي القائم ويهبه الشرعية المطلقة ،ويجرّم التفكير بالثورة عليه وان كان فاسدا ، او تغييره او التطلع للنموذج الارقى منه سياسيا للمستقبل !!.
وبهذا يكون اصحاب السلطة والترف قد ضربوا عدة عصافيرسمينة بحجر واحد من اخطرها تغييب ذاكرةوفكرالمجتمع في دوامة البحث في الماضي والتراث على مفاتيح الخلاص من الاوضاع السياسية والاجتماعية المزريةالتي يعيشهاالمجتمع بينما الحقيقة انه لامفتاح لحلّ اجتماعي قائم الا في التطلع للمستقبل ، وابتكار وصناعة التغيير من الحاضر مستعينين بالتاريخ والتراث على هذا التغيير وليس راجعين نحوه ومقدسين لمنجز امواته من السلف الصالح ومقتبسين من اغلاله قيدا للتحرر من الواقع !.
قال :((وكذالك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على اثارهم مقتدون)) أي ان من يناهض اي عملية تغيير وتطوير للمجتمع هم المنتفعون من اصحاب الحكم والمال والسيادة والترف والذين ترتبط مصالحهم السياسية والاقتصادية بالوضع القائم فيعمد هؤلاء الى مبرر طريقة السلف الصالح من الاباء الماضين وانها هي الطريقة المثلى في ادارة الحياة والجماعة ولاينبغي التفكير بالاقتداء الا بالاثارالتاريخية التي صنعوها والتراث الماضوي التليد الذي بنوه ليكون لنا هاديا ومرشدا الى مالانهاية في هذه الحياة !!.
وفي حقيقة الامر ( كما يذكره القرآن الكريم) ان سبب حرقة قلوب المقدسين للتراث وللسلف وللتاريخ وجعله هو الحاكم للاحياء بدلا من الدافع لهم نحو المستقبل هو كون تقديس الاباء والتراث هي السبيل الوحيدة والفاعلةلتغييب الامة عن تطلعها للمستقبل او تفكيرهابتغيير الوضع القائم الذي تنتفع منه طبقة السلطة والنفوذ والترف فحسب لاسيما ان كانت من ضمن ثقافة هذا التراث ومقدساته التاريخية وما طرحه الطالحون من سلفه الاموات: هو وجوب عدم الخروج على السلطان ، ولزوم الانقياد لاصحاب السلطة والترف والحكم بالانقياد والطاعة لهم عندئذ من حق المترفين اي يقولوا :(( إنا وجدنا اباءنا على أمة وانا على اثارهم مقتدون )) !!.
إن من المآسي التي يعيشها مجتمعنا العربي اليوم وبشكل حقا بشع ومبرمج ومدمرّ هو كون هذا المجتمع يدور في حلقة مفرغة بالفعل للبحث عن خلاصه بل والاكثر مأساوية في وضع امة العرب القائمة اليوم انها واقعة بين حكم (مِيتين) :
الاول :التاريخ ومقدساته وما طرحه السلف الصالح الممنوع على اي فكر النيل منه اونقده او اعادة توجيهه تحت بند قمع الفتنة واثارة الطائفية على لسان السلطة القائمة الحامية ، لهذا التراث والمدافعة عنه والعالنة للحرب المقدسة في سبيله ان جرت اي محاولة لتسفية الاباء وافكارهم المقدسة ( كما هو المنهج القرآني )او نقدهم او توضيح موت افكارهم بموتهم او عدم صلاحيتها اصلا للحياة اليوم فضلا عن البحث في داخلها لتجديد الحياة وبناء المستقبل على اسسها !.
والثاني : حكم الموتى من ساسة وقادة وزعماء وملوك وامراء .....،هم بالاساس يستمدون شرعيتهم من التراث والتاريخ وكل ماهو ماضوي وميت اليوم على الحقيقة بسبب عدم امتلاكهم الى مشروع للمستقبل يدفع للتغيير او التفكير بتغيير ماهو قائم من محرقة تأكل هذه الامة وتستنزف كل وجودها وطاقتها المتبقية ،وهذا طبعا فضلا عن ان هؤلاء الزعماء والملوك والامراء العرب اصبح واضحا وجليا لديهم ، ان اي تفكير بالتغيير ، او بالتطلع للمستقبل من قبل المجتمع العربي ، يعني بالضروة الاطاحة بهم او ازالتهم من طريق التغيير باعتبار انهم حجر العثرة العظيمة والعقبة الواقعية ، التي تقف بطريق الوصول للمستقبل ، او انهم تحولوا بالفعل الى تراث وماضي وتاريخ لابد من تجاوزه للدخول في الحاضر على الاقل !!.
اخيرا : اذا لم يفكر الاجتماع العربي بجدية بالكفر اليوم بطاغوت حكم الاموات عليهم والثورةعليه وتغييره تغييراجذريا مدروسا وواعيا لحركة التاريخ ، والتاسيس الجديد للمستقبل فان مصير هذه الامة سيكون مرعبا وظلاميا ومفجعا بصورة لايتخيلها عقل انسان عربي سوي هذه الايام !!.
مزيد من الفكر والبحث : مدونة حميد الشاكر
_________________________________
alshakerr@yahoo.com