عرّف ((اوجست كونت)) المجتمع على انه ((وحدة حيّة ومركب معقد اهم مظاهره التعاون والتضامن / انظر الموجز في النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة / ج1/ د . أكرم حجازي )) !.
والحقيقة فان ((كونت)) عندما طرح لنا تعريفا للمجتمع باعتباره ((المادة)) او ((الساحة)) او (( المجال )) ، الذي يعمل عليه ملاحظةً وتجريباً وتحليلا واكتشافا للقوانين من الداخل ... علم الاجتماع الحديث ، فانه من جانب اخر وضع لنا اول لبنة (( لموضوع )) هذا العلم الا وهو (المجتمع) وعرّف لنا هذا الموضوع باعتبار انه (لاعلم بلاموضوع ولا موضوع بلا تعريف ) !!.
ومن هنا لابد من دراسة وبحث البداية ، والتوقف مع هذا التعريف الكونتي للمجتمع لندرك توجهات مدرسة ((كونت)) العلمية الاجتماعية التي التزم بها تلامذته والمنتمين لمدرسته (( دوركايم سبنسر تالكوت ...)) من بعده وكذا رؤيته النظرية والفكرية لماهية المجتمع او شخصيته اذا جاز التعبير الاجتماعي او وجوده حسب التعبيرات والمصطلحات الفلسفية للمجتمع وكينونته ، ولنسأل :
ما الذي قصده (( كونت )) مؤسس علم الاجتماع الغربي الحديث عندما عرّف المجتمع على اساس انه (( وحدة حية )) ؟.
وهل يختلف هذا التعريف الكونتي في منطلقاته وقواعده ورؤاه .... للمجتمع وما يترتب على هذا التعريف من بناءات فكرية وعلمية وقانونية .... عن ملاحظة تعريفات اخرى لنفس هذا المجتمع ولكن من خارج سياقات المدرسة الاجتماعية الكونتية تعتبره (( وحدة اعتبارية مركبة )) او (( وحدة صناعية )) او (( وحدة اقتصادية )) او (( انه مجموعة من البشر الذين يعيشون في وقت وتاريخ معين )) ؟.
ام ان تعريفات المجتمع لاقيمة علمية وفكرية ومنهجية .. لها في مجمل العلم الاجتماعي سواء كانت تعريفات كونتية ام كانت تعريفات هيجلية (( منسوبة لهيجل الفيلسوف الالماني المعروف )) او نفعية جيمسية (( نسبة الى وليم جيمس عالم النفس الامريكي البراغماتي النفعي الشهير )) او غير ذالك ؟؟.
بمعنى اخر : عندما طرح (اوجست كونت) من ضمن تعريفه للمجتمع على اساس ان ((اهم مظاهر هذا المجتمع الحي والمعقد هو التعاون والتضامن)) فهل لهذا المنطلق في تعريف المجتمع ومركباته ومظاهره ، دلالات علمية وانعكاسات منهجية تختلف حتما ، وبطبيعة التأسيس عن منطلق وتعريف ((هيجل / مثلا)) ومن بعده لمركب المجتمع عندما يعرّف المجتمع على اساس انه مركب قائم على قانون الديالكتيك واهم مظهر من مظاهره الاجتماعية هو الصراع الطبقي حسب الفهم الماركسي للمجتمع وقوانينه الداخلية ، او حسب مدرسة الصراع الاجتماعية الامريكية ؟.
أم انه لا قيمة علمية ولا منهجية ولا استنتاجية ومن ثم لا دلالات فكرية ونتائج عملية لهذا الاختلاف في التاسيس وفي التعريف وفي المنطلقات ؟.
اولا : المجتمع وحدة حيّة .
في منطلقاته الفكرية الفلسفية الوضعية وكذا الاجتماعية العلمية يرى (كونت): ان للمجتمع كينونة مستقلة حية عن الفرد وان الفرد داخل المجتمع لا كما يعتقده البعض من المفكرين : ان له الاصالة قبالة اعتبارية المجتمع لاغير ، بل لاوجود لشيئ في الخارج او الداخل الاجتماعي اسمه ( فرد) مقابل المجتمع ، بل فقط ماهو موجود هو المجتمع فحسب ، ولهذا المجتمع حياة ومشاعر وتوجهات وميول وتطلعات وموت وولادة وتاريخ وسنن وقوانين ......الخ كلها تنعكس على الفرد لتهبه وجوده وشخصيته وفكره وميوله .... وغير ذالك !!.
بمعنى اخر اوضح : طُرح قبل ((اوجست كونت )) وبعده في الابحاث الاجتماعية القديمة والحديثة التي تتناول وجود المجتمع وتراكيبه وهيئته وشخصيته .. قبالة الفرد اربع نظريات قيمة في مجال الاصالة والاعتبارية ((بين الفرد والمجتمع)) يذكرها تفصيلا الفيلسوف الاسلامي الكبير محمد حسين الطباطبائي في تفسيره القيم ويختصرها بعمق المفكر الاجتماعي تلميذه الشهيد السعيد مرتضى مطهري في كتابه (( التاريخ والمجتمع )) مفادها :
اولا : النظرية القائلة بالاصالة المطلقة للفرد وان المجتمع او ما يسمى بالمجتمع ماهو الا امر اعتباري حاله حال (( الملكية والدولة ...)) التي ينتزع مفاهيمها العقل الانساني من الوجود الفردي ليصوغ لها وجودا اصطلاحيا ويرتب على هذا الوجود الحقوق والواجبات والالتزامات .... ولكن تبقى حقيقة هذا الامر الاعتباري ليس لها وجود واقعي ولا قانون ولا سنة ولا حياة ولا شعور ولا موضوع ولا دراسة .... انما ماهو موجود فعلا وواقعا هو الفرد ، وهو منفصل ومستقل عن شؤون الاخرين !!.
ثانيا : النظرية التي تقول ايضا باصالة الفرد على المجتمع في الوجود والفعل ، لكنها تعتبر للمجتمع نوعَ مركبٍ ( فيزيائي ) او (غائي) يعتبر ان الغايات التي يتمكن المجموع من الوصول اليها بكافة اجزائه ( الافراد ) لايمكن للفرد الوصول اليها في هذه الحياة بمفرده ولهذا تبقى الاصالة للفرد ولكن للمجتمع مركب ثانوي او غائي او فيزيائي لاغير !!.
ثالثا : النظرية التي تذهب الى اصالة الفرد والمجتمع وتقول ان للمجتمع وجودا مستقلا وكذا سيرا وحياة وسنة وقوانين وشعورا وشخصية مستقلة عن الافراد لكن لا على اساس اعتبارية الفرد قبالة هذه الاصالة للمجتمع بل ايضا للافراد اصالتهم ووجودهم المستقل داخل دائرة المجتمع ، ولكلٍ من المجتمع ، والفرد اصالته ووجوده المختلف عن الاخر ، فبينما يكون جانب (( الافكار والنفسيات والعواطف والميول والارادات والثقافات ... والمصير المشترك )) حيز الاصالة فيه للمجتمع تبقى الجزئيات الفردية مستقلة ايضا ولاعبة دورا اصيلا قبالة تركيبة المجتمع فكل (( مواهب الافراد وميولهم ومناشئهم وابداعهم وثرواتهم..... )) تبقى هي الجزئيات المكونة للكل الاجتماعي وما بين المجتمع وافراده من تفاعلات الا كما بين اي الاجزاء الاصيلة وكلياتها من مركبات وكما ان لا كلية الا بمركباتها الجزئية ،كذا لاجزئيات بدون مركباتها الكلية ، فبينما مواهب وقدرات وفاعليات الافراد متنوعة وهي التي تخلق روح المجتمع وثقافته وشخصيته وحياته ، كذا هو المركب الاجتماعي الذي يصنع الافراد وميولهم وتوجهاتهم ...الخ ، والفرق هنا في هذه النظرية انه ربما يموت الفرد لكن روح المجتمع باقية ،وكذا ربما يموت المجتمع وشخصيته وفعله وتاثيره .... لكن يبقى الافراد بماديتهم وجنسياتهم وتمتعهم بقدراتهم الفردية على حالها !!.
رابعا : وهي النظرية التي تقول بالاصالة المطلقة والكلية للمجتمع ، وما الفرد الا جزء ليس له اي وجود او حيثية او كينونة او حياة او واقع او انسانية ... بدون المركب الاجتماعي ، فالفرد ينحل تماما كالانحلال الكيميائي او التغير الكيفي بعد التراكم الكمي في مركب المجتمع الجديد ليكون هناك المجتمع وحده بحياته بهيئته هو الوجود الواقعي والحقيقي لاغير ، وما الافراد الا جزئيات تختصر ادوارهم في انهم المواد الاولية او الجزئيات الضرورية لصناعة مركب المجتمع ، وحال الافراد في ذالك حال ( مثلا )) ذرات الاوكسجين والهيدروجين التي تكوّن مركب الماء بعد تفاعلهما بعضهما مع البعض الاخر لتنحل هذه الجزئيات وينتهي عملها ووجودها وواقعيتها ، ولتبقى الواقعية لمركب الماء فحسب !!.
فالفرد في هذه النظرية لاوجود حقيقي له اذا لم ينخرط في الكلي الاجتماعي ليهبه شخصيته وكينونته وشعوره بوجوده الانساني كما ان الفرد الانساني في هذه النظرية كله هو مجرد (روح حيوانية محضة) فقط لها (قوة القابلية) لتتلبس بالروح الجماعية المهيمنة على الافراد !!.
اي ان الانسان الفرد قبل الاندراج في سلك المجتمع ليست له هوية انسانية ، بل هو استعداد محض له قابلية التلبس بالروح الاجتماعية فهو (انسان بالقوة) وتبرز انسانيته وشعوره بهذه الانسانية عندما تندرج تحت اطار الروح الاجتماعية ،فالمجتمع هو من يجعل من شخصية الافراد شخصية انسانية ولها ميول ووجود انساني واقعي ، والفرد بغير المجتمع لايمكن قبول اعتباره شيئا وجوديا حقيقيا فضلا عن ان تكون له اصالة وواقعية ووجودا انسانيا معترفا بادميته !!.
والحقيقة ان هذه النظرية الرابعة هي ما اسس لها مؤسس العلم الاجتماعي الحديث (اوجست كونت ) في مدرسته الاجتماعية ومع اننا نميل مع رؤية المدرسة الاسلامية في رؤيتها الاجتماعية التي تتبنى توجهات النظرية الثالثة في ((اصالة الفرد والمجتمع )) ونختلف في كثير من التوجهات الاجتماعية العلمية لرؤية (كونت) هذه، لكن تبقى مدرسة كونت الاجتماعية هي التي استطاعت ان تصوغ النظرية الاجتماعية الحديثة ولها قدم السبق الذي تاتي بعده كل النظريات الاجتماعية اليوم ، وطبعا بعد النظريات القديمة لمؤسس هذا العلم الاجتماعي عالم العمران العربي الاسلامي ابن حلدون !!.
نعم الآن يمكننا فهم وادراك ابعاد تعريف (كونت) للمجتمع ولماذية طرحه على اساس انه (( وحدة حية )) وماهية هذا التعريف ومنطلقاته النظرية واختلافه الجذري عن باقي التعريفات الاخرى في باقي مدارس علم الاجتماع الباقية !!.
فالمجتمع (( وحدة حية )) بهذا المنظور الذي يؤسس لرؤية ليس فيها الا الوجود الاجتماعي لاغير وهو منظور مختلف تماما عن المنظورالفردي والذي يرى في الفرد انه اصيل في الوجود وما المجتمع الا كائن اعتباري انتزاعي ذهني لاغير والاختلاف (في الحقيقة) في هذه الرؤى حول الفرد والمجتمع لاتقف فقط عند الرؤى النظرية للمجتمع والفرد او للعلم الاجتماعي بصورة خاصة ، بل انها اختلافات (( تأسيسية )) في البناء الاجتماعي القائم ، يعتمد عليها فيما بعد البناءات القانونية التشريعية او الاقتصادية او التربوية او السياسية ... كذالك في ادارة وبناء اي مجتمع قائم !!.
اي ان القانون (مثلا) عندما يعتمد على رؤية تؤمن بان الاصالة والوجود الحقيقي هو للمجتمع وحده ، فانه لايمكن ان يشرّع اي مادة قانونية تحاول تنظيم ادارة المجتمع تخالف في توجهاتها وماهياتها مصالح المجتمع العامة ، وهذا بخلاف ما اذا اعتمد القانون ومنظريه والقائمين على تطبيقه على نظرية اجتماعية تؤمن بالاصالة والحياة للفرد على حساب اعتبارية المجتمع ،كما هو حاصل في الرؤى (( الليبرالية الراسمالية الحديثة )) التي تؤمن باصالة الفرد على حساب اعتبارية المجتمع ،فان القانون وهيئاته الشرعية والاقتصاد وبناءاته التخطيطية والتربية وتطبيقاتها التعليمية والسياسات واذرعها التنفيذية .... ستتجه بكل ثقلها لدعم الفرد واصالته على حساب المجتمع ومصالحه ووجوده !!.
ومن هنا ولادراك (( كونت )) تبعات التأسيس في الفكر والعلم الاجتماعي ، ولايمانه المطلق بالمجتمع ك((وحدة حية )) لها وجودها المستقل ، ولها مصيرها ولها كينونتها المستقلة حذر بشدة وقوة في اطروحته الاجتماعية وحتى الفلسفية على : (( ان اكبر جريمة لا اخلاقية يقترفها اي مفكر او مقنن او مشرع او منظر ... هو ان يعتقد بشئ اسمه فرد مقابل المجتمع )) !!.
اي بمعنى اكثرعلمية اجتماعية ينعكس على المنهجية الوظيفية لعلم الاجتماع كما كان يراها (تالكوت) هو: ان النظر للمجتمع ينبغي ان يكون بكلية حتى في مناهج البحث الوظيفية في علم الاجتماع ، فمن الخطأ تفسير ظواهر الكل الاجتماعي من خلال دراسة ظواهر جزئية ، او اسرية بداخله ، بل المفروض هو العكس في اخذ الكل الاجتماعي بظواهره العامة ، لتفسير وتحليل وقراءة الجزئيات بداخله !!.
ثانيا : مركب معقد اهم مظاهره التعاون والتضامن
كما ان (( اوجست كونت )) كان يعرّف المجتمع على اساس انه (( وحدة حية )) فانه كذالك كان يرى هو ومن بعده من الاباء الحقيقيين للعلم الاجتماعي الحديث (دوركايم سبنسر تالكوت ..) على ان هذه الوحدة الاجتماعية الحية تقوم على مبدأ وقانون وقاعدة (( التعاون والتضامن )) والتعاون والتضامن ايضا هما اهم ظاهرة من ظواهر المجتمع بصورة عامة والحديث بصورة خاصة !!.
والتعاون والتضامن للوحدة الاجتماعية في فكرمؤسس علم الاجتماع الحديث ليس هو مفهوماوعظيا ناتجا من ايدلوجيا اخلاقية او سياسية ((لما ينبغي ان يكون )) بل انه مبدأ ومبنى اصيل من مباني الاجتماع الانساني المعقد الحديث والقائم على فكرة :(( تقسيم العمل وتوزيع الوظائف الاجتماعية )) التي تفرضها متطلبات اي (( مجتمع معقد ومركب)) لاسيما المجتمع مابعد الصناعي او المجتمع الحداثي الذي دخلته الماكنة الصناعية والعلوم التكنلوجية الحديثة التي غيرت من نمط الحياة الاقتصادية والتجارية والسياسية والثقافية ... ومن ثم المفاهيمية والقانونية والتخطيطية للمجتمع فالمجتمع بعد الصناعة ليس هو المجتمع الزراعي ماقبل الحداثة والصناعة في فكر (( كونت ودوركايم وسبنسر ...)) كما ان المجتمع ان اريد له ان يأخذ دورته بحالة ديناميكية متطورة فلابد ان ينطلق ويرجع لقاعدة (تقسيم العمل وتوزيع الوظائف) باعتبار انها اهم مظهر من مظاهر المجتمع الحي عند (كونت) او باعتبار ان ((التعاون والتضامن = تقسيم العمل وتوزيع الوظائف )) حسب رؤية كونت او (( التجانس )) حسب مصطلح ((دوركايم)) الاجتماعي هو ((الرابطة المكونة للوجود الاجتماعي والدافعة لتطوره واستمراره في الوجود)) وبغير هذه الرابطة ينفرط عقد المجتمع ، وينزلق الى حالة صراع مدمرة للوجود الاجتماعي !!.
نعم بعدما طرح ((كونت )) تاسيسه للعلم الاجتماعي الحديث وضمنه رؤيته الكاملة نحو المجتمع ككل جاءت من بعده فلسفات ورؤى ، وتوجهات اجتماعية نسجت على غير الرؤى والقواعد (( العلمية الاجتماعية )) التي اسس لها اباء علم الاجتماع الحديث ، فبرزت رؤى وتوجهات (( ايدلوجية سياسية اجتماعية )) تتبنى قاعدة (( الصراع الاجتماعي )) باعتباره اهم ظاهرة من ظواهر المجتمع المركب والحديث !!.
وفي هذا الصدد برزت الفلسفة ((الهيجلية )) في الديالكتيك كممون اصيل لرؤى وتصورات هذه المدارس الايدلوجيه (( لا اتمكن من تسميتها الاجتماعية بسبب فقدان الرؤية العلمية من داخلها )) التي من اهمها طبعا المدرسة المادية الماركسية التي رأت : ان القاعدة الاساسية للبناء الاجتماعي هي العامل الاقتصادي وان الظاهرة الاهم للمجتمع الحديث والقديم هي ظاهرة الصراع الطبقي القائم بين القوى العاملة من جهة والقوى الراسمالية من جانب اخر !!.
بل ورأت او قررت هذه المدرسة المادية الماركسية : ان هذه الظاهرة هي الاساس الفعلي لحركة وتطور وديناميكية المجتمع ، ولا تطور ولا ديناميكية للمجتمع الا من خلال عملية الصراع التي هي انعكاس لمجال تطور وسائل الانتاج الاقتصادية هذه !!.
بعد ذالك كان لعالم الاجتماع الالماني (رالف داهرندوف) وظيفة التنظير لرؤية اجتماعية قائمة على(نظرية الصراع الاجتماعي ) ، وسرعان ما انتقلت هذه الرؤية الاجتماعية لتسيطر نظريا وليس عمليا (( وهذا من غرائب الامور )) على المدرسة الاجتماعية الامريكية من الخمسينات حتى نهاية السبعينيات التي انغمست اكثرفاكثرلدعم هذه التوجهات الاجتماعية ومناهجها الايدلوجية السياسية ومناهضة مناهج علم الاجتماع الكونتية والدوركامية في المنهج الوظيفي للظاهرة الاجتماعية !!.
والحقيقة ان الاختلافات بين النظرية الاجتماعية الكونتية في جميع مدارس علم الاجتماع الحديثة ، وبين نظرية الصراع الايدلوجية الشيوعية الماركسية ليس هو اختلاف في توجهات النظرية الى مركبات الاجتماع وبناه الواقعية فحسب ، بل انه اختلاف (( علمي تاصيلي )) بالاساس ، وهو الفارق (( حسب الرؤية العلمية لعلم الاجتماع الحديث )) بين العلمي الذي يبحث داخل وحدة المجتمع عن ماهو كائن وموجود من قوانين يمكن بناء تحليل واقعي وعلمي لظواهر الاجتماع على اساسها ، وبين ماهو (( ايدلوجي سياسي )) يبتغي ويهدف الى صناعة (( ما ينبغي وجوده )) بغض النظر عن ماهو كائن فعلا وواقعيا داخل هذا الاجتماع !!.
بمعنى : ان الفارق حسب الرؤية الاجتماعية لعلماء الاجتماع المحدثون بين ان يكون (( للمجتمع )) علم ومنهج يختص بدراسة هيئته ، وبين ان يظل المجتمع مادة للبحث (( الفلسفي او الادبي او النقدي او .... )) بدون اليات ومناهج علمية ، هو ان يكون علم الاجتماع ((علما موضوعيا )) يبحث في هيئة ووحدة المجتمع كما يبحث عالم الكيمياء او الفيزياء او البيلوجيا او الفيسلوجيا .... في مواضيعها الوضعية الواقعية ، فهذه العلوم :
اولا : تبحث عن القوانين التي تسيّر مجالاتها الخارجية ، وتضبط من ايقاعات حركاتها الطبيعية او الفيزيائية او الفسلجية او ... غير ذالك .
ثانيا : بعد ان تكتشف هذه العلوم ماهية القوانين الكونية او الطبيعية او الطبية ( مثلا ) داخل الفسلجة الانسانية ، عندئذ تدرك طبيعة حركة وعمل هذه النظم داخل هذه الظواهر العلمية ، مما يؤهلها لتشخيص اي حالة خلل تكسر من هذه القانونية الداخلية للظواهر الطبيعية ، او يؤهلها لادارة هذه القوانين والهيمنه على عملها واستثمار معطياتها القانونية لتطويع هذه القوانين ومن ثم الاتكاء عليها في صناعة المعجزات العلمية التي لولا ادراك وفهم عملها كما هي واقعيا لما امكن استثمارها والاتكاء على معطياتها علميا !!.
وبهذا تميز التفكير العلمي الحديث عن باقي مناهج التفكير اللاعلمية التي تعتمد ليس على الواقع كماهو قائم وبكل ما يحمل من قوانين وظواهر ولتستلهم من ثم من هذه القوانين ما يعينها على فهم الظواهر وكيفية تحليلها حتى الوصول الى النتائج والمعالجات الناجعة لها ، بل تعتمد على الفكر الايدلوجي المسيس او الاخلاقي الذي يهدف الى قراءة الواقع كما ينبغي ان يكون وليس كما هو كائن !!.
بمعنى اوضح : ان علماء الاجتماع ادركوا ان هذا العلم الذي يريد ان يكون موضوعه المجتمع ، لايمكن ان يكون له ((صفة العلم)) اذا لم يتجرد من الرؤى الايدلوجية النظرية المسبقة ، ويتحول الى دراسة وبحث المجتمع بموضوعية على اساس انه مجال كباقي المجالات العلمية الاخرى من فيزيائية وطبيعية وكيميائية ... حتى بيلوجية وذرية وغير ذالك من باقي المجالات العلمية ، التي تحاول بحث مواضيعها من خلال اكتشاف قوانينها الثابت منها والمتغير ، والا بغير هذه الرؤية لايصبح هناك اصلا ((علما للمجتمع)) لان المجتمع الانساني لم يتأهل ليكون ((مادة علمية)) الا بعدما ادرك علماء الاجتماع ان في داخله قوانين تتحكم في سيرورته الفردية والاجتماعية وهناك بنى ثابتة يمكن الاعتماد عليها كقوانين حالها في ذالك حال قوانين الفيزياء والكيمياء والبيلوجي ... في عالم الكون والطبيعة والانسان ، وينبغي تناولها ودراستها والتعامل معها كما هي موجودة لاكما ينبغي ان يتصورها وهما الفكر الانساني من الداخل !!.
في الفكر الايدلوجي الماركسي يدرس المجتمع على اساس ما ينبغي ان يكون عليه هذا المجتمع من صورة وليس يدرسه على ماهو عليه واقعيا موضوعيا ، ولهذا اطلقنا على الرؤية الماركسية انها رؤية لاعلمية في مجالها الاجتماعي ، ليس لانها بعيدة عن تاسيسات علم الاجتماع الحديث فحسب ، بل لانها كذالك تدخل على دراسة المجتمع او الاجتماع الانساني وهي محملة بنظرية مسبقة تحاول خلق صورة فكرية وذهنية لما ينبغي ان يكون عليه هذا الاجتماع وهذا ما دفع هذه الرؤية للايمان ب(( ضرورة ايجاد وخلق حالة الصراع هذه داخل المجتمع قبل ان يكون الصراع قانونا يحكم بنية الاجتماع الانساني تاريخيا واقعيا )) وطبعا ايجاد وخلق حالة الصراع الطبقي الاجتماعي هذه كانت من اجل الوصول الى عملية التغيير السياسية بداخله لرؤية المدرسة الماركسية الشيوعية : (( ان التغيير ثمرة حتمية لحالة الصراع الاجتماعية ، وكلما كان الصراع حادا ودمويا كان التغيير اسرع وتيرة وانضج صورة )) !!.
وهذه الرؤية الايدلوجية السياسية الماركسية بعكس تماما الرؤية العلمية بصورة عامة التي ترى في الظواهر الكونية والظواهر الطبيعية وهكذا الظواهر الاجتماعية انها محتكمة الى قوانين ثابتة وينبغي لاي علم يحاول ادراك واقعها ان يدرس هذا الواقع كما هو موجود بكل بناه وقوانينه وثوابته ومتغيراته لاكما ينبغي ان يكون ذهنيا وفكريا وتصوريا ، لان الظواهر الطبيعية او الكونية على اية حال لاتخضع قوانينها وظواهرها للامزجة النظرية او الاخلاقية او السياسية بل انها تعمل وفق قوانين ومحركات واقعية وضعية لاغير !!.
وهكذا الرؤية العلمية لعلم الاجتماع بصورة خاصة والذي عندما بحثت داخل بنية الاجتماع الانسانية تاريخيا وحتى اليوم ، وجدت انها بنية قائمة على مجال (( التعاون والتكامل والتضامن )) الاجتماعي الذي هيئ للمجتمع الاستمرار والتطور الاجتماعي بل ورات المدرسة الاجتماعية الحديثة : (( ان التعاون والتضامن وتقسيم العمل وتوزيع الوظائف )) داخل اي مجتمع هي الظواهر الطبيعية والقانونية لصناعة اي تطور ديناميكي وتكامل ونماء اجتماعي ، وليس (( الصراع الطبقي )) هو المنتج الطبيعي لخلق حالة من التغيير والتطور الحتمي ، بل ان (( الصراع الاجتماعي )) في عرف المفاهيم الاجتماعية العلمية ماهو الا عملية (( تدمير واستنزاف طاقة انسانية واعاقة )) واقعية لاي تطور اجتماعي طبيعي يعتمد بكليته على تراكم الخبرة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .... وغير ذالك !.
اذا نحن هنا امام رؤيتين (( للمتغير الاجتماعي )) :
الاولى : التي تنتمي للمدرسية العلمية الاجتماعية التي ترى عملية التغيير وقانونها الاشمل تاريخيا وانسانيا ماهي الا تراكم كمي اجتماعي ايجابي ياتي من خلال (( التعاوت والتكامل والتضامن والاستقرار .... الاجتماعي )) وتقسيم العمل وتوزيع الوظائف !!.
والثانية : وهي الرؤية المنتمية للمدرسة الصراعية الاجتماعية الايدلوجية الماركسية ، التي رات ان التغيير والتطور الاجتماعية عملية ايضا تراكمية لكن من خلال عملية تناشز وصراع طبقي داخل المجتمع !!.
وشتان بين رؤية تنظر لقوانين المجتمع الداخلية المحركة للتطور الاجتماعي على اساس انها هي التعاون والتكامل الاجتماعي ، وبين رؤية تنظر لقوانين المجتمع الداخلية المحركة للتطور والتغير الاجتماعي على اساس الصراع وتدمير الاخر كقانون اوحد لكل عمليات التغير والتطور التاريخية والاجتماعية الانسانية تاريخيا وحتى اليوم !!.
وهذا الشتات بين الرؤيتين الاجتماعية العلمية والايدلوجية الصراعية لايختلف في مفاهيم (( تطور المجتمع وحركته )) فكل من المدرسة الاجتماعية العلمية والاخرى الايدلوجية السياسية تؤمن بهذه الحركة كقانون داخل المجتمع ، لكن الاختلاف في فهم وادراك عوامل واسباب هذا المتغير او المتحرك داخل المجتمع وبناه الواقعية !!.
______________________
alshakerr@yahoo,com
مدونتي ( حراء ) تتشرف بزيارتكم للمزيد
http://7araa.blogspot.com/