( من تاريخ مدينة سوق الشيوخ المعاصر .... ديكسون ) القسم الاول / حميد الشاكر
الحديث عن الكولونيل والسياسي ، والكاتب الانثربولوجي البريطاني ( هارولد ريتشارد
ديكسون / تولد:1881م ، توفي 1959م ) وعلاقته التاريخية بمدينة (سوق الشيوخ العراقية
) في حقبتها المعاصر لاسيما ما بعد الاندحار العثماني التركي واحتلال بريطانيا
للعراق ( 1914م / 1918 م ) هوحديث يندرج تحت ، وفي ثنايا اكثر من اطار تاريخي وسياسي
واجتماعي وفكري وعلمي وعسكري و .... الخ !!.
فهذا الرجل استطاع ان يتحرك في عصره من خلال دوائر تهيئت له ( قدريا
) ليلعب ، ويؤثر في اكثر من ساحة سياسية عالمية وعسكرية واجتماعية ، و... عايشها
في عصره ، الذي هو ( ايضا ) كان عصرا مليئا بالاحداث والتطورات ، والمتغيرات العالمية الكبيرة والمتنوعة في حروبها الكونية الاولى 1914م ، والثانية 1939 م وقادة ورجال هذه
الحروب الذي كان (( ديكسون )) احد صّناعها من جهة وسقوط الخلافة التركية وتقسيم تركتها
وانشاء الاوطان العربية والاسلامية فيما بعد ودخول العالم رسميا الى عالم الصناعة والاقتصاد
و ...الخ من جانب اخر !!.
والحقيقة ان كل ذالك يصلح ليكون مادةَ محاورٍبحثية
تاريخية وعلمية وسياسيةوحتى عائلية لحياة ديكسون
بامتيازلكن ما يصلح له ديكسون فعلا ، وبشكل مختلف هو ان نتناول تاريخ هذا الرجل ، ومدينه سوق الشيوخ العراقية بالذات
!!.
فلديكسون تاريخ مع مدينة سوق الشيوخ ومع
اهلها يختلف عن تاريخ ديكسون العائلي (
باعتبار انه ينحدر من عائلة ارستقراطية
بريطانية عريقة ) ، وكذا يختلف عن تاريخه العسكري ، او الوطني البريطاني وحتى تاريخه الجزيري
العربي ( مع مشائخ الخليج ) بصورة عامة
وتاريخه الكويتي الوظيفي بصورة خاصة الذي انتقل لها في/ 1929 م ، مع زوجته (فيوليت) ليشغل منصب ( الوكيل السياسي البريطاني في
الكويت) فقد كانت ايضاعلاقة مختلفةَ اللمسات عن علاقة ديكسون بمدينة سوق الشيوخ ،التي
يبدو انها سكنت ذهن وعقل وفكر وتاريخ ديكسون ، حتى بعد انسلاخه
من العراق ، وقصرالفترة التي خدم فيها ديكسون
(لم تدم اكثرمن ثلاث سنوات فقط ) وظيفيا عسكريا في مدينة سوق الشيوخ من جانب اخر !!.
وظفّ ديكسون جزءا مهما وعيمقا من كتابه ( الكويت وجاراتها )
او فصلا مستقلا في هذا الكتاب ، لتكون مدينة سوق الشيوخ حاضرة فيه وهذا الكتاب ، وكما
هو معروف يعتبر من ( اهم المصادر)
التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي خلفها ديكسون لهذه المنطقة
النفطية الخطيرة على المصالح البريطانية انذاك
، ومن ثم الامريكية الى وقتنا الراهن ؟.
والحقيقة ان السؤال البحثي ، والعلمي ، والتاريخي
بهذا الصدد لم يزل قائما ، وملحا في بحث محور: لماذية اهتمام ديكسون نفسه مع
تاريخه المليئ بالمغامرات ، والاحداث الاطول
عمرا في باقي مناطق خدمته العسكرية والسياسية بتاريخ مدينة سوق الشيوخ على التحديد
ليذكرها في اهم كتبه او تراثه الفكري
والسياسي الذي بقي لنا حتى اليوم ؟.
ولماذا عندما اراد ذكر(الكويت وجاراتها)
ارتاى ان تكون مدينة سوق الشيوخ وليس غيرها من العراق من ضمن ( جارات الكويت) مع
انها مدينة منفصلة جغرافيا واجتماعيا عنها انذاك وحتى اليوم ؟.
ماهو السرّ الذي بقي عند ديكسون نفسه ليرى في
سوق الشيوخ محطة من محطات تاريخه العسكري والسياسي الذي لايقل اهمية عن محطة
ادارته للكويت (منذ 1929 الى وفاته 1959م ) وعلاقته بشيوخ النفط الخليجي في
الجزيرة العربية انذاك ولهذا كانت سوق الشيوخ حاضرة في ذاكرة ومؤلفات
وتقاريرديكسون السياسية والعسكرية والاقتصادية المهمة ايضا ؟.
طبعا لاريب ان حضور(( مدينة سوق الشيوخ )) من
ضمن اهتمامات ديكسون التاريخية والفكرية والسياسية لم تكن قطعا بسبب النفط الذي شغف قلب العقل الراسمالي البريطاني انذاك ، وارادت
بريطانيا من خلال وكلائها وموظفيها الرسميين ان يكون تحت يدها تقارير سياسية
واجتماعية ، واقتصادية .. مفصلة عن هذه المناطق الجغرافية الحيوية لاقتصاد العالم
وسير حركته الصناعية التجارية انذاك والى الان !!.
بل لم تكن سوق الشيوخ وماحولها ابّان قيام العراق الوطني المعاصر لها علاقة
بالاقتصاد النفطي الذي كان ولم يزل يمثل شريان
الاقتصاد الراسمالي الغربي الحديث لا لسبب معقدبل لسبب بسيط هو ان المدينة بحدودها
الجغرافية لم تكن من ضمن دوائرالذهب الاسودانذاك ولاتقع هذه المدينة ( ايضا ) على
مفاصل ممرات استراتيجية برية او بحرية سياسية ، واقتصادية عصرية لتكون سببا لدفع ديكسون لرفع التقارير او
الكتابة بشان هذه المدينة ، لمساسها بالمصالح الاقتصادية لبريطانيا الاستراتيجية العظمى
مباشرة !!.
اذاً اذا لم يكن الدافع الوظيفي السياسي
لديكسون هو الذي فرض عليه التورخة لمدينة سوق الشيوخ ، ولم تكن المدينة نفسها ضمن جغرافيا النفط التي جننت الاقتصاد الصناعي البريطاني في بداية
امره ، وكذا لم تكن المدينة تشكل منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم مفصل من
مفاصل الطرق الاستراتيجية الحديثة للعالم التي يتحتم السيطرة عليها استراتيجيا في
مخططات الدول العظمى الحديثة !!.
اذا لم يكن كل ذالك دافع يضطر ( ديكسون )
لذكر مدينة سوق الشيوخ كاحد اهم المدن العربية الاصيلة ، التي ارخ لها
في رحلته العسكرية والسياسية في القرن العشرين، فماهي الدوافع الحقيقية
التي وان فارق ديكسون مدينة سوق الشيوخ وظيفيا (
شغل /ديكسون / وظيفة ضابط الاستخبارات لمدينة سوق الشيوخ في ، تموز 1915 م ، وانتقل عنها للبحرين قبل
الكويت في نهاية الحرب العالمية الاولى 1918م) الا انه حملها معه فكريا ونفسيا الى
مفارقته لهذه الحياة في 1959 م ؟.
يبدو لي ان الدافع لديكسون ، الذي فرض عليه
عدم نسيان مدينة سوق الشيوخ في تورخته ل(( سيرة حياته المهنية )) كان شيئا اعمق
مماهو وظيفيً !!.
ومن الطبيعي ان يذكر ( ديكسون ) محطة من
محطات حياته المهنية السياسية ، والعسكرية في كتابه ( الكويت وجاراتها ) ويذكر
عمله في مدينة سوق الشيوخ كاحد المحطات المهمة في سيرة حياته تلك لكن ما يجعلنا
نميل الى اعمق من هذا السبب هو تلك التفصيلات
التي تحدث فيها عن مدينة سوق الشيوخ ،وذالك العمق الاجتماعي والروحي الذي يتسرب من
بين حروف ما كتبه ديكسون عن هذه المدينة !!.
نعم ( من وجهة نظري ) ان علاقة (ديكسون) مع
مدينة سوق الشيوخ لاسيما بعد انفصاله عنها وكتابته عن هذه المدينة لم تكن علاقة
مهنية فحسب او كانت علاقة عسكرية جافة بين ضابط استخبارات عسكري ومدينة محتلة
بريطانيا في 1915 م ، ومطلوب منه ان
يحكمها بالقوة والضبط الامني لاغير !!.
بل كانت علاقة ديكسون مع هذه المدينة فيها
عدة ابعاد فكرية وروحية وسياسية وتاريخية واجتماعية و... حتى نفسية شخصية !!.
من الجانب النفسي الشخصي لديكسون ، وبعد دراسة
وبحث هذا البعد بتامل ، والذي اعتبره شخصيا من اهم العوامل التي فرضت عليه ان ينسج علاقة فوق المهنية مع
مدينة سوق الشيوخ ، واهلها : ان تركيبة ديكسون الشخصية والنفسية هي تركيبة قيادية
متطلعة لانجازاكبر من وظيفته العسكرية !!.
اي بمعنى اخر: اذا حاولنا قراءة التركيبة
الشخصية والنفسية والفكرية لديكسون ابّان اسناد
وظيفة ادارة مدينة سوق الشيوخ له في / تموز /
1915م من قبل الجنرال (غورنج) وبحضور السير (برسي كوكس ) الذي رفع الراية
البريطانية في المدينة سنكتشف امامنا معادلتين :
الاولى:ذالك الشاب العسكري البريطاني
الرائد(هارولد ديكسون) الذي يمارس اول مهامه (القيادية السياسية والادارية وليست
العسكرية فقط ) لمدينة تطأها اقدامه لاول
مرة في حياته من جهة !.
ونحن امام ضابط عسكري عُرف من خلال (سجله
العسكري) بالحزم والصرامة والشجاعة والذكاء الحاد والاخلاص والامانه بالاظافة الى انه من المغامرين ، الذين لا يشعرون بمتعة الحياة بدون الارتماء في احضان الخطر !!.
الثانية : وهي معادلة مدينة عُرفت في تاريخها
: انها من اعرق المدن العراقية الحديثة
اقتصاديا ، وسياسيا ، ومجتمعيا من جهة
وانها مدينة صعبة المراس الجغرافي والتنوع المهني السكاني والتطورالاجتماعي
بالمقارنة بما كان موجودا في العراق انذاك وانها مدينة معقدة التركيبة السيوسولجية
بالاظافة الى انهامدينةعرف عن اهلها البسالة والشجاعة والقتال والتمرد بين الفينة
والاخرى على اوامروقوانين الحكم والدولة ؟.
في المعادلة الاولى يتحدث صاحب كتاب (العودة
الى الاهوار) ( كافن يونغ) عن (نوعية شخصية) القيادات البريطانية العسكرية التي
احتلت منطقة الاهوار وسوق الشيوخ بالتحديد ومن ضمنهم ديكسون ليقول : (( من الضروري
قول كلمات بحق الملحقين السياسيين
البريطانيين وهي قضية مهمة طالما يجري
الحديث عن المشهد السياسي العراقي انذاك ، بكل المقاييس فان اؤلئك الشباب المشتتين في
الاماكن القصية الذين كانوا يتعلمون من التجربة يستحقون كل احترام ، كانوا يتحدثون
العربية بطلاقة على عكس من سابقيهم الاتراك ويعملون بحماس على الرغم من متاعب
الحرارة ، والحشرات ، والاوحال محاطين
بعشائر مسلحة ، دون ان يكون تحت امرتهم اي عساكر
بريطانيين بغرض الحماية الشخصية في افضل
الاحوال كان لديهم مجندون عراقيون لم يكونوامعصومين من الخطأبالطبع لكنهم لم
يكونواجائرين ايضا احبوا قبائل المنطقة ، وطبيعتها
كان اغلبهم من المهتمين بعلم الانثربولوجيا وعلوم الاثار والطيور اعتمد نجاحهم
اساسا على قوة الشخصية لانهم كانوا يواجهون رؤساءقبائل على قدركبيرمن الحزم
والسطوة / العودة الى الاهوار / ترجمة حسن الجنابي/ ص 79 / 1997 / ط اولى )) .
ان هذا الوصف ل( كافن يونغ ) لنوعية القيادات العسكرية البريطانية يسلط لنا الضوء
ايضاعلى نوعية شخصية (ديكسون) الذي تكلّف فيما بعد بادارة مدينة سوق الشيوخ ابان
احتلالها بريطانيا في 1915م ، بل ربما كانت شخصية ديكسون اعمق مما وصفه (كافن)
نفسه لجنرالات الملحقية البريطانية ف(ديكسون) بالاظافة الى حماسه وتحمله للمشاق
واتقانه للغة العربيةودراسته للانثربولوجيا الانسانية وحزمه العسكري الصارم وحبه
لمدينة سوق الشيوخ واهلها وعشائرها وعدله في الحكم (وهذاماسنذكر نماذج له فيمابعد)
و.. بالاظافة لكل ذالك كان فعلا امام تجربة جديدة ومختلفة عن تجاربه العسكريةالاخرى
عندماكّلف بادارة مدينة سوق الشيوخ سياسيا ، واقتصاديا ، وعسكريا ، وامنيا وقضائيا واداريا و ....الخ !.
ان هذه الوظائف السياسية والمدنية والاقتصادية
والامنية لامست بعدٌ في شخصية الكولونيل
ديكسون لم يكن ليظهر للعلن لولا هذه التجربة التي قدمت لديكسون في ادارة مدينة سوق
الشيوخ !!.
وفرق واضح ، وكبير بين شخصية
كولونيل يعمل من خلال الاوامر المباشرة لمرؤسيه ، وبين قائد يعمل بمطلق
الحرية معتمدا على ذكائه وحنكته السياسية وتجاربه الشخصيةفي ادارة مجتمع مدني
بحاجة الى عقل سياسي ودبلماسي وعسكري وامني واقتصادي وقضائي .. مبدع ومبتكر وخلاق
وحكيم وحازم وشجاع و .... الخ يعمل بمطلق الحرية بدون الرجوع الى اي احد سوى حنكته
وادارته الناجحة !!.
هذه التجربة المتنوعة سياسيا ، واداريا ،
واقتصاديا ، وقضائيا وامنيا وعسكريا و...
لديكسون (وحسب ما اعتقد شخصيا) هي ما جعلت من مدينة سوق الشيوخ تجربةً ( اهم واعمق
) من كونها تجربة عسكرية فحسب بالنسبة
لديكسون الذي حمل سوق الشيوح معه وداخل ذاكرته اينما حلّ او ارتحل !!.
لاسيما ان ادركنا ان مدينةسوق الشيوخ ابّان
بداية الاحتلال البريطاني لم تزل بعدُ هي(عاصمة الجنوب العراقي) السياسية
والاقتصادية حتى العسكرية لمشائخ وعشائر ومدن التحالف المنتفجي انذاك !!.
اي هي المرجع والمنطلق لكل الجنوب العراقي (
منها انطلقت جيوش الجهاد في حرب الشعيبة 1914 م ، بقيادة السيد الحبوبي والتي شارك
فيها ديكسون ايضا في القتال من الجانب البريطاني ) والسيطرة عليها تحدي لايمكن
اسناده بريطانيا ، الاّ لجنرال تتميز مواصفاته باعلى من المواصفات العسكرية او
الامنية فحسب !!.
وهنا ولد(ديكسون) السياسي والاداري والحاكم
المطلق لمدينة عراقية جنوبية اسمها سوق الشيوخ في 1915 م !!.
وهنا برزت مواهب ومكامن ديكسون السياسية التي رشحته بريطانيا ليكون
المدير الفعلي ، فيما بعد للكويت النفطية
المهمة للاستراتيجيات البريطانية انذاك !!.
وهنا يكمن التحدي لديكسون نفسه الذي ابقى مدينة
سوق الشيوخ مدينة اصعب من ان تنسى بالنسبة لكولونيل فتح مشوار حياته سياسيا بادارة
مدينة كل زقاق او (دربونه) من محلاتها
الاربع فيه لغز محيّر او فيه بندقية يمكن ان تستقر رصاصة من رصاصاتها في قلب
ديكسون ابان ادارته للمدينة !!.
يقول ديكسون في كتابه (الكويت وجاراتها)تحت
فصل (انا ادير سوق الشيوخ ) : وبعد ان احتلّ الجنرال (نورمنج) الناصرية في تموز
سنه 1915م ارسلت كضابط استخبارات الى سوق الشيوخ المدينة العربية الصغيرة على
الفرات في وسط قبائل المنتفج ولم تكن القوانين تسري هناك حتى في ايام الاتراك قبل
سنة 1914 م ، . فقبائل المنتفك عنيدة
متمردة وكانت في حالة من الفوضى بحيث اضطرني الى حث الدائرة السياسية ، التي
يرئسها السير برسي كوكس ، الذي كان ينظم
الادارة المدنيةفي جنوب العراق على ارسال ضباط لادارة المنطقة وكم كانت دهشتي
عندما تلقيت برقية عينني فيها السير ( برسي ) مساعد ضابط سياسي ، بالاضافة الى
واجباتي الاخرى في سوق الشيوخ ../ الكويت وجاراتها / . ه . ر . ب . ديكسون / ج اول
/ ط اولى / صحارى للطبع / 1990م / ص 164 ، 165 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق