(( قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) عاشرا : في المحور الاخير الذي احببنا ان نتعرض له لمقولة :(( انا خير منه ...)) هو محور (( التقرير والحكم )) حيث تتميز هذه الصيغة من صيغ الكلام العربي بانها صيغة حكمية قطعية ، بخلاف صيغ اخرى تسمى تساءلية معرفية او استنكارية كالتي دائما تحدث عندما يدور حوار بين متحاورين او اكثر، او صيغ امرية ربما
ترتقي لتكون بصيغة اخبار في الظاهر وامر في الجوهر .... وهكذا اختار ابليس للتعبير عن رؤيته وفكره ومعتقده في مسألة (( اسجدوا .. والانسان )) بان تكون صيغة (( انا خير منه ..)) تعبير صادق عن ما يدور داخل المخيلة الابليسية تجاه هذا المخلوق الجديد المسمى ادم من جهة ، واتجاه الامر الالهي القاضي بالسجود لهذا المخلوق الجديد ب(( اسجدوا )) ، وهنا من حقنا ان نتساءل حول : ماهية الانجاذبية الفكرية والعقدية والجوهرية التي سحبت ابليس نحوها ليختار من بين الصيغ التعبيرية المتعددة صيغة واحدة فقط الا وهي الصيغة القطعية في :(( انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ))؟.لماذا او ماهي الدوافع والمبررات التي دفعت ابليس للايمان المطلق بانه خير من المخلوق الاخر المسمى ادم ، لذالك هو اختار من بين الصيغ المتعددة للتعبير الخلقي صيغة القطع والحكم الغير قابل للنقض او المراجعة فيما بعد ؟.ان هذه الصيغة تطلعنا على كارثة ايمانية كان يؤمن بها هذا المخلوق المعقد من كل اعماقه في رؤية الخير واين هو موجود بالفعل لذا جاءت تعابيره جازمة وحازمة وغير قابلة لاي معرفة مضافة لهذه الحقيقة التي تقول :(( انا خير منه ..)) ومن هنا جاء الحكم الالهي مرادفا وبلا فاصلة زمنية على الاطلاق لتقول :(( قال فاهبط منها فمايكون لك أن تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين )) !.نعم بغض النظر عن ايمان ابليس بأن النار اكثر خيرية من الطين ، وبغض النظر عن الانا الانانية والانا الفردية ، وبغض النظر عن القدح بالمعرفة الالهية والعدالة والحكمة الربانية في هذا الحكم الابليسي ، وبغض النظر عن جهل هذا المخلوق المركب بان الخيرية ليست ولايمكن ان تكون في جوهر الاشياء وانما في وظائفها........ ، بغض النظر عن ذالك كله ماهي الدوافع الحقيقية والمبررات الواقعية التي دفعت ابليس لاختيار صيغة القطع والحكم المطلقة في مسألة : (( انا خير منه ...)) التي كانت هي السبب الظاهري لطرد ولعن ونفي هذا المخلوق المعقد ابليس الناري وهو يعلن عقيدته الخفية هذه ؟.من الذي درّس وعلّم ابليس الفلسفة الخيرية هنا ليدرك موازين الخير من الشر في الاشياء العالمية بصورة مختلفة حتى عن الله سبحانه وتقدس كماله ؟.ولماذا اعتقد هذا المخلوق انه الاخير في هذا الوجود ؟.وهل كانت هناك مناسبة مقارنة اصلا بينه وبين غيره ليذكر وبصورة قطعية انه هو الاخير من باقي الموجودات تماما ؟.من اين فهم ابليس ان أمر السجود والتحية الالهية لادم الانساني تعني بالضرورة انها خير مطلق ، لذالك سارع ابليس لمعارضة الامر الالهي بانه هو خير من ادم وانه لاينبغي له ان يسجد لادم الطيني ؟.وما هي الاشارة التي التقطها ابليس من امر السجود ليفهم بعد ذالك ان هذا السجود يعني خيرية وكرامة وتفضيل لهذا المخلوق الجديد ؟.وهل عندما قضت الحكمة والعدالة الالهية بالسجود وتحية ادم الانساني هذا ، هي كانت تعلن من جانب اخر ان جميع الخيرية ستنحصر بهذا المخلوق المسجود له ، ولذالك فهم ابليس هذه اللعبة فسارع الى الاعتراض باعتباره هو خير من ادم ؟.أم ان امر السجود هناك لم يكن ليشير من قريب او بعيد الى اي تفضيل وخيرية وكرامة تذكر ، وانما الموضوعة فقط تنحصر في عملية تحية واستقبال لمخلوق جديد يريد ان يشارك الموجودات الاخرى في عملية الايجاد لذا تطلب الترحيب والتحية بهذا المخلوق فحسب من خلال :(( فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين / قرءان كريم )) ؟. هذا !.اذن اذا كانت مسألة السجود لادم عليه السلام لاتعني مطلقا اي تفاضل او خيرية او كرامة جوهرية على باقي المخلوقات كما يعتقده الفقير الى عفو ربه كاتب هذه السطور فمن اين فهم ابليس الملعون عملية السجود على اساس انها خيرية وتفضيل فسارع الى الاعتراض على الخلقة الانسانية وانها لاتستحق الاحترام والتحية وهذا الاستقبال الملفت للنظر ؟.هل كان ابليس حتى في هذه النقطة واهم فكريا الا وهي نقطة (( انا خير منه ...)) الخيرية ، وما اعتقاده بان عملية السجود تكريم مميز وخير كامل لادم ، ..... حتى هذه النقطة هي لم يكن لها اي اصل واقعي يذكر ؟!.اذن اذا كانت هذه النقطة نقطة واهمة ولم تكن تشير عملية السجود اساسا الى اي مقارنة بين الخيرية وغير الخيرية ، فمن اين جاءت فكرة : ان السجود يجب ان يكون للاكثر خيرية من المخلوقات الالهية لهذا المخلوق الغريب المسمى ابليس ؟.انه حقا مخلوق غريب ومعقد وله مقاييسه الشخصية والذاتية والمستقلة تماما عن اي واقعية لاهوتية خلقية ، شأنه في ذالك شأن اي كافر بالله سبحانه عندما يؤسس لمنظومته الفكرية الطاغوتية حسب اهواءه ومصالحه الشخصية فحسب ، وبعيدا عن اي ميزان فكري او منطقي او شرعي اخلاقي الاهي هنا ايضا ، فيرى الخير والفضل والكرامة من جانبه الشخصي هو، وليس من جوانب الخيرية والافضلية والاكرمية الواقعية الالهية المقدسة التي تصيغ المفاهيم بحسب المصاديق الواقعية لهذه المفاهيم الراقية !.القرءان الكريم يحدثنا عن ثلة من الكافرين التي تستقل برايها وتبني مقرراتها الفكرية لتصنع فيما بعد منظومة متكاملة من الموازين العقلية ونظمها الاخلاقية التي ترى كل شيئ من خلال منظارها الشخصي والنفعي والمصلحي فحسب ، لتكون فيما بعد مفاهيم : الخيرية والفضل والكرامة ..... وباقي المصطلحات القيمية الاجتماعية مختلفة تماما عن ماهو موجود عند غيرها من النظم الفكرية الاجتماعية الاخرى ، فمثلا عندما يرى رأسمالي متعفن ان كل الخيرية والكرامة والفضل هي كامنة في ضخامة الرصيد المالي لهذا الانسان او ذاك من عوالم الراسمال المجرم ، فهنا نحن امام طبقة اخترعت لنفسها منظومة قيمية نفعية وشخصية لم ينزل بها الله من سلطان ، ترى ان الخيرية في القوة والكرامة في الاقتصاد والافضلية في الرصيد وضخامته ، نوقن عندئذ ان هناك نمطية اخلاقية خلقت من رحم المصالح الاقتصادية هي التي تضع المنظومة القيمية والسياسية والاجتماعية لهذا الاجتماع الانساني لنرى اخيرا مقاييس اخلاقية ورؤى فكرية وتوجهات روحية غريبة وعجيبة هنا ، يفهمها جيدا ذاك او هذا من الرأسماليين النفعيين ولكن بلغتهم ومنظومتهم القيمية المخترعة وليس حسب مايقتضيه المنطق الاخلاقي العام او المنظومة القيمية الفكرية السليمة هنا !.يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم حكاية عن قيم الانحراف ومنظومة العفن الانساني :(( وقال الّذين كفروا للذين ءامنوا لوكان خيرا ماسبقونا اليه ../ الاحقاف/ 11))اي بمعنى : ان مفهوم الخيرية التي يفهمه هؤلاء الكافرون هو مختلف تماما عن مفهوم الخيرية عند باقي المؤمنين ، فالخيرية المشار لها على لسان الكافرين ، وهذه ال (( لو كان خيرا ..)) يشرح لنا الكيفية التي تنظر من خلالها هذه المجموعة من البشرية الى الخير ومكامنه ، كما ان هذه ال ((لو )) تقودنا الى العقلية التي ترى الخير منحصرا في ذات الشخصية النفعية والانتهازية ، فلو كان بمعنى على فرض ان يكون ما عند المؤمنين خيرا ، فلو كان كذالك وكان فعلا هو خير لما سبقونا اليه باعتبار ان منظومتنا الاخلاقية هي الوحيدة التي تفهم الخير من الشر ، وعليه لو كان خيرا لرأيناه بوضوح وقبل اي انسان اخر ولسبقنا اليه بانفسنا ولكننا نرى شرا بدلا من الخير هذا ؟!.هل ترى الكيفية التي من خلالها يبني الكافرون نظمهم الفكرية والاخلاقية والقيمية ؟.ان هناك توجه نفسي وفكري ورؤية للحياة مستقلة عن ما انزله الله من رؤية لنفس هذه الحياة هي التي تبني هذه المنظومة التي ترى المفاهيم الانسانية بصورة مختلفة لنصل الى مفاهيم الخير والكرامة والتفضيل والحسن والقبح .....الخ ، وهي ينظر اليها من زوايا مختلفة تماما ، زوايا اهل الايمان التي ترى الخير وباقي المفاهيم من خلال النافذة الالهية ، وزوايا اهل الكفر والمادية وهي ترى الخير والفضيلة وباقي المفاهيم من زاوية اخرى مناقضة للاولى وكل له رؤيته المختلفة للخير وطرقه ومكامنه وواقعيته :(( وقال الذين كفروا للذين امنوا لوكان خيرا ماسبقونا اليه /))هكذا وبهذه الصورة رأى ابليس الخيرية في قوله :(( انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) هو لم يفهم الخيرية من خلال تدريس الاهي ، ولم يأخذ مفاهيم ومصطلحات الاخلاق الجماعية من وحي منزل او من عقل رشيد ، وانما تميز برؤيته الشخصية الخاصة المستولى عليها من قبل حب المنفعة والانا والشخصية ، ليرى الخير من زاوية نارية فحسب ولاخيرية لباقي العناصر الاخرى ، وهذا مادفعه للحكم :ب (( انا خير منه )) باعتبار ان : لوكان الطين خيرا ؟. لكان اول من ادركه وسبق في فهمه هو ابليس نفسه او لكانت خلقة ابليس طينية ولم تكن نارية باعتبار الخيرية لابليس فحسب ، ولكن وبما ان الخير لايفهمه الا ابليس فقد حكم بان النار اكثر خيرية من الطين ؟.انها زاوية قيمية فكرية ينظر من خلالها ابليس الناري ، زاوية تقيم الاشياء العالمية ليس على اساس قيمتها الواقعية الخارجية ،..... لا وانما من خلال انعكاسها على مصالح الذات القيمية الاخرى !.بمعنى : ان للذات الاجرامية المنحرفة وبعد ان بنت منظومتها الاخلاقية والقيمية الخاصة بها والقريبة لمصالحها الشخصية ، زاوية خاصة للتقييم تعطي لكل شيئ قيمته المفترضة ، فالصدق والكذب وكذا الخير والشر وكذا .... باقي المفاهيم الاخلاقية والخلقية ايضا ، كل هذه قيمتها ليس في كونها الواقعي بل قيمتها التي ينبغي ان تكون في منافعها التي تنعكس من خلال استخدامها الوظيفي هنا ، فالصدق يكون خيرا عندما يكون نافعا ومفيدا وكذا الكذب ، اما ان كان مفهوم الصدق مضرا والكذب مفيدا للذات الشخصية فعندئذ يكون الكذب جميلا وجمالا وذكاءا وخيرا وحكمة وسياسة عالية ، بعكس الصدق الذي اصبح مضرا وشريرا ليفقد قيمته الواقعية ليصبح قبيحا ولاخيرا ولا صدقا بالاساس باعتبار انه مصطلح اصبح عاجزا عن جلب المنفعة الذاتية والشخصية هنا ؟.نعم اصبحت النار اكثر خيرية عند ابليس باعتبارها الاقرب الى شخصية ومصالح ومنافع ابليس الناري هذا ، ولم تكن كذالك باعتبار ان واقعيتها النارية هي خيرة بالخصوص ، واذا فرض ان ابليس خلق من طين لكان نفس المقياس النفعي قد ذهب اليه ابليس ليرى الخير في الطينية وليس في النارية !.وعليه تكون قيمة الشيئ مهتزة عندما تنقلب رؤية المخلوق هذا او ذاك من ميزان العدالة الالهية الى ميزان المصالح والمنافع الشخصية ، ليس لان المسألة ان الشيئ نفسه لايحمل اي قيمة حقيقية فحسب ، ولكن لان المعيار القيمي لهذا المخلوق او ذاك سيصبح مختلا لالهؤلاء ولا لهؤلاء ليخرق فيما بعد القانون العام وتكون الكارثة بانهيار قواعد الكون الثابتة !؟.(( قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) !.ان هذه الخيرية الابليسية خيرية لارصيد لها في الحقيقة انها خيرية مزيفة كالعملة المزيفة التي تشبه كثيرا الورقة النقدية التي تغش غير صاحب الاختصاص ليعتقد انها ورقة نقدية رسمية ، وليتعامل بها فيما بعد وليقبل شكلها ويبيع من خلالها بضاعته الثمينة ، ولكنه عندما يذهب للمصارف النقدية ليضعها في رصيده المالي سيصدم عندما يقال له انك خدعت ، وغششت من حيث لاتشعر ، وانك فقدت بضاعتك واستبدلتها بورقة مزيفة لاتستحق قيمة الحبر الذي كتبت به !؟.هكذا هي الخيرية الابليسية النفعية لاتحمل رصيدا حقيقيا يهبها القيمة المحترمة التي تستحق ان يتداول بها تجار القيم الاخلاقية !؟.ان تزوير القيم كتزوير الحقائق وتزوير العملة النقدية سواء ، ومفاهيم كالخير والفضيلة والكرامة .... بحاجة الى رصيد يقوّم من وجودها الواقعي ، فاما وحي الهي يقوم بهذه المهمة واما عقل انساني مرفود من واقع الهي يضخ لهذه المفاهيم الدماء في شرايين هذه القيم النبيلة اما غير ذالك فبدعة !.يتبقى بعد ان وصلنا الى فحوى الحكم الصادر من ابليس في (( انا خير منه ..)) وانه حكم صيغ بشكل انفعالي نفعي وطاغوتي متخلف ، ان ندرك زاوية اخرى من زوايا شخصية هذا المخلوق المعقد الا وهي زاوية (( نقص الشخصية )) الابليسية امام الوجود الانساني !.نعم : اذا كان ابليس لم يفهم ان السجود لادم هو حصر للخيرية من قبل الله سبحانه وتعالى لادم فمن اين فهم ابليس هذه الصورة ؟.لماذا ادخل ابليس نفسه وحسب النص القرءاني بمقارنة فجائية بينه وبين ادم الانساني عندما سمع الامر الرباني :(( اسجدوا لادم ..)) ؟.ان النص الالهي القرءاني لم يشر من بعيد او قريب الى ان هناك خيرية في هذا السجود المطلوب من قبل الخلق لادم البشري ، فمن اين وكيف ولماذا ادخل وعلى الفور ابليس نفسه في مقارنة مع ادم ليثبت لله انه هو الاخير والاحق بالسجود هذا ، او على الاقل ليثبت لله سبحانه انه ارقى خلقا من ادم وانه لاينبغي للارقى ان يسجد لماهو دونه ؟.ان القرءان يحدثنا عن ادم هذا عليه السلام بانه خلق ليكون خليفة في الارض :(( اني جاعل في الارض خليفة ..)) فهل كانت عين ابليس على هذه الخلافة مثلا فلذالك رأى ان الطريق للسلطان على الارض يبدأ من السجود ، ولهذا رفض الخضوع والسجود لادم كي يضمن منصب الخلافة فيما بعد لرؤيته ان الخلافة تبدأ من مبدأ الخيرية هنا لذا قال :(( انا خير منه ..)) باعتبار ان الخير في السلطان حسب رؤية ابليس ؟.وكذا هذا المخلوق المعقد ابليس عندما رأى ان السجود لادم هو تكريم عالي القيمة في قوله سبحانه :(( قال أرءيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتن الى يوم القيمة لأحتنكن ذريته الا قليلا / الاسراء / 62 )) فمن اين فهم ان السجود لادم هو تكريم على باقي الخلق ؟. فهل فهم التكريم ابليس من نفس الدائرة التي تبدأ بالسجود لادم لتنتهي عند استلام الانسان لخلافة الارض ، فلذالك رأى ابليس ان هذا السجود ماهو الا تكريم لادم على باقي الخلق لذالك رفض السجود على امل الوصول هو الى خلافة الارض بدلا عن الانسان ؟.ام ان ابليس وكعادته يرى التكريم والخيرية بشكل طاغوتي مختلف ، والحقيقة انه ليس هناك في طلب السجود لادم الانساني لاتكريما ولاخيرية ابدا ، وانما هناك ومن وجهة النظر الالهية المقدسة (( امانة )) ومسؤولية ستلقى على كاهل الانسان ليصبح ظلوما جهولا ؟!.سوف نترك الاجابة ليفكر بها القارئ الكريم ، وليشاركنا حركة البحث للتعرف على عوالم الخلقة الاولى التي اسست لعالمنا المعاش اليوم !؟.
ترتقي لتكون بصيغة اخبار في الظاهر وامر في الجوهر .... وهكذا اختار ابليس للتعبير عن رؤيته وفكره ومعتقده في مسألة (( اسجدوا .. والانسان )) بان تكون صيغة (( انا خير منه ..)) تعبير صادق عن ما يدور داخل المخيلة الابليسية تجاه هذا المخلوق الجديد المسمى ادم من جهة ، واتجاه الامر الالهي القاضي بالسجود لهذا المخلوق الجديد ب(( اسجدوا )) ، وهنا من حقنا ان نتساءل حول : ماهية الانجاذبية الفكرية والعقدية والجوهرية التي سحبت ابليس نحوها ليختار من بين الصيغ التعبيرية المتعددة صيغة واحدة فقط الا وهي الصيغة القطعية في :(( انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ))؟.لماذا او ماهي الدوافع والمبررات التي دفعت ابليس للايمان المطلق بانه خير من المخلوق الاخر المسمى ادم ، لذالك هو اختار من بين الصيغ المتعددة للتعبير الخلقي صيغة القطع والحكم الغير قابل للنقض او المراجعة فيما بعد ؟.ان هذه الصيغة تطلعنا على كارثة ايمانية كان يؤمن بها هذا المخلوق المعقد من كل اعماقه في رؤية الخير واين هو موجود بالفعل لذا جاءت تعابيره جازمة وحازمة وغير قابلة لاي معرفة مضافة لهذه الحقيقة التي تقول :(( انا خير منه ..)) ومن هنا جاء الحكم الالهي مرادفا وبلا فاصلة زمنية على الاطلاق لتقول :(( قال فاهبط منها فمايكون لك أن تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين )) !.نعم بغض النظر عن ايمان ابليس بأن النار اكثر خيرية من الطين ، وبغض النظر عن الانا الانانية والانا الفردية ، وبغض النظر عن القدح بالمعرفة الالهية والعدالة والحكمة الربانية في هذا الحكم الابليسي ، وبغض النظر عن جهل هذا المخلوق المركب بان الخيرية ليست ولايمكن ان تكون في جوهر الاشياء وانما في وظائفها........ ، بغض النظر عن ذالك كله ماهي الدوافع الحقيقية والمبررات الواقعية التي دفعت ابليس لاختيار صيغة القطع والحكم المطلقة في مسألة : (( انا خير منه ...)) التي كانت هي السبب الظاهري لطرد ولعن ونفي هذا المخلوق المعقد ابليس الناري وهو يعلن عقيدته الخفية هذه ؟.من الذي درّس وعلّم ابليس الفلسفة الخيرية هنا ليدرك موازين الخير من الشر في الاشياء العالمية بصورة مختلفة حتى عن الله سبحانه وتقدس كماله ؟.ولماذا اعتقد هذا المخلوق انه الاخير في هذا الوجود ؟.وهل كانت هناك مناسبة مقارنة اصلا بينه وبين غيره ليذكر وبصورة قطعية انه هو الاخير من باقي الموجودات تماما ؟.من اين فهم ابليس ان أمر السجود والتحية الالهية لادم الانساني تعني بالضرورة انها خير مطلق ، لذالك سارع ابليس لمعارضة الامر الالهي بانه هو خير من ادم وانه لاينبغي له ان يسجد لادم الطيني ؟.وما هي الاشارة التي التقطها ابليس من امر السجود ليفهم بعد ذالك ان هذا السجود يعني خيرية وكرامة وتفضيل لهذا المخلوق الجديد ؟.وهل عندما قضت الحكمة والعدالة الالهية بالسجود وتحية ادم الانساني هذا ، هي كانت تعلن من جانب اخر ان جميع الخيرية ستنحصر بهذا المخلوق المسجود له ، ولذالك فهم ابليس هذه اللعبة فسارع الى الاعتراض باعتباره هو خير من ادم ؟.أم ان امر السجود هناك لم يكن ليشير من قريب او بعيد الى اي تفضيل وخيرية وكرامة تذكر ، وانما الموضوعة فقط تنحصر في عملية تحية واستقبال لمخلوق جديد يريد ان يشارك الموجودات الاخرى في عملية الايجاد لذا تطلب الترحيب والتحية بهذا المخلوق فحسب من خلال :(( فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين / قرءان كريم )) ؟. هذا !.اذن اذا كانت مسألة السجود لادم عليه السلام لاتعني مطلقا اي تفاضل او خيرية او كرامة جوهرية على باقي المخلوقات كما يعتقده الفقير الى عفو ربه كاتب هذه السطور فمن اين فهم ابليس الملعون عملية السجود على اساس انها خيرية وتفضيل فسارع الى الاعتراض على الخلقة الانسانية وانها لاتستحق الاحترام والتحية وهذا الاستقبال الملفت للنظر ؟.هل كان ابليس حتى في هذه النقطة واهم فكريا الا وهي نقطة (( انا خير منه ...)) الخيرية ، وما اعتقاده بان عملية السجود تكريم مميز وخير كامل لادم ، ..... حتى هذه النقطة هي لم يكن لها اي اصل واقعي يذكر ؟!.اذن اذا كانت هذه النقطة نقطة واهمة ولم تكن تشير عملية السجود اساسا الى اي مقارنة بين الخيرية وغير الخيرية ، فمن اين جاءت فكرة : ان السجود يجب ان يكون للاكثر خيرية من المخلوقات الالهية لهذا المخلوق الغريب المسمى ابليس ؟.انه حقا مخلوق غريب ومعقد وله مقاييسه الشخصية والذاتية والمستقلة تماما عن اي واقعية لاهوتية خلقية ، شأنه في ذالك شأن اي كافر بالله سبحانه عندما يؤسس لمنظومته الفكرية الطاغوتية حسب اهواءه ومصالحه الشخصية فحسب ، وبعيدا عن اي ميزان فكري او منطقي او شرعي اخلاقي الاهي هنا ايضا ، فيرى الخير والفضل والكرامة من جانبه الشخصي هو، وليس من جوانب الخيرية والافضلية والاكرمية الواقعية الالهية المقدسة التي تصيغ المفاهيم بحسب المصاديق الواقعية لهذه المفاهيم الراقية !.القرءان الكريم يحدثنا عن ثلة من الكافرين التي تستقل برايها وتبني مقرراتها الفكرية لتصنع فيما بعد منظومة متكاملة من الموازين العقلية ونظمها الاخلاقية التي ترى كل شيئ من خلال منظارها الشخصي والنفعي والمصلحي فحسب ، لتكون فيما بعد مفاهيم : الخيرية والفضل والكرامة ..... وباقي المصطلحات القيمية الاجتماعية مختلفة تماما عن ماهو موجود عند غيرها من النظم الفكرية الاجتماعية الاخرى ، فمثلا عندما يرى رأسمالي متعفن ان كل الخيرية والكرامة والفضل هي كامنة في ضخامة الرصيد المالي لهذا الانسان او ذاك من عوالم الراسمال المجرم ، فهنا نحن امام طبقة اخترعت لنفسها منظومة قيمية نفعية وشخصية لم ينزل بها الله من سلطان ، ترى ان الخيرية في القوة والكرامة في الاقتصاد والافضلية في الرصيد وضخامته ، نوقن عندئذ ان هناك نمطية اخلاقية خلقت من رحم المصالح الاقتصادية هي التي تضع المنظومة القيمية والسياسية والاجتماعية لهذا الاجتماع الانساني لنرى اخيرا مقاييس اخلاقية ورؤى فكرية وتوجهات روحية غريبة وعجيبة هنا ، يفهمها جيدا ذاك او هذا من الرأسماليين النفعيين ولكن بلغتهم ومنظومتهم القيمية المخترعة وليس حسب مايقتضيه المنطق الاخلاقي العام او المنظومة القيمية الفكرية السليمة هنا !.يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم حكاية عن قيم الانحراف ومنظومة العفن الانساني :(( وقال الّذين كفروا للذين ءامنوا لوكان خيرا ماسبقونا اليه ../ الاحقاف/ 11))اي بمعنى : ان مفهوم الخيرية التي يفهمه هؤلاء الكافرون هو مختلف تماما عن مفهوم الخيرية عند باقي المؤمنين ، فالخيرية المشار لها على لسان الكافرين ، وهذه ال (( لو كان خيرا ..)) يشرح لنا الكيفية التي تنظر من خلالها هذه المجموعة من البشرية الى الخير ومكامنه ، كما ان هذه ال ((لو )) تقودنا الى العقلية التي ترى الخير منحصرا في ذات الشخصية النفعية والانتهازية ، فلو كان بمعنى على فرض ان يكون ما عند المؤمنين خيرا ، فلو كان كذالك وكان فعلا هو خير لما سبقونا اليه باعتبار ان منظومتنا الاخلاقية هي الوحيدة التي تفهم الخير من الشر ، وعليه لو كان خيرا لرأيناه بوضوح وقبل اي انسان اخر ولسبقنا اليه بانفسنا ولكننا نرى شرا بدلا من الخير هذا ؟!.هل ترى الكيفية التي من خلالها يبني الكافرون نظمهم الفكرية والاخلاقية والقيمية ؟.ان هناك توجه نفسي وفكري ورؤية للحياة مستقلة عن ما انزله الله من رؤية لنفس هذه الحياة هي التي تبني هذه المنظومة التي ترى المفاهيم الانسانية بصورة مختلفة لنصل الى مفاهيم الخير والكرامة والتفضيل والحسن والقبح .....الخ ، وهي ينظر اليها من زوايا مختلفة تماما ، زوايا اهل الايمان التي ترى الخير وباقي المفاهيم من خلال النافذة الالهية ، وزوايا اهل الكفر والمادية وهي ترى الخير والفضيلة وباقي المفاهيم من زاوية اخرى مناقضة للاولى وكل له رؤيته المختلفة للخير وطرقه ومكامنه وواقعيته :(( وقال الذين كفروا للذين امنوا لوكان خيرا ماسبقونا اليه /))هكذا وبهذه الصورة رأى ابليس الخيرية في قوله :(( انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) هو لم يفهم الخيرية من خلال تدريس الاهي ، ولم يأخذ مفاهيم ومصطلحات الاخلاق الجماعية من وحي منزل او من عقل رشيد ، وانما تميز برؤيته الشخصية الخاصة المستولى عليها من قبل حب المنفعة والانا والشخصية ، ليرى الخير من زاوية نارية فحسب ولاخيرية لباقي العناصر الاخرى ، وهذا مادفعه للحكم :ب (( انا خير منه )) باعتبار ان : لوكان الطين خيرا ؟. لكان اول من ادركه وسبق في فهمه هو ابليس نفسه او لكانت خلقة ابليس طينية ولم تكن نارية باعتبار الخيرية لابليس فحسب ، ولكن وبما ان الخير لايفهمه الا ابليس فقد حكم بان النار اكثر خيرية من الطين ؟.انها زاوية قيمية فكرية ينظر من خلالها ابليس الناري ، زاوية تقيم الاشياء العالمية ليس على اساس قيمتها الواقعية الخارجية ،..... لا وانما من خلال انعكاسها على مصالح الذات القيمية الاخرى !.بمعنى : ان للذات الاجرامية المنحرفة وبعد ان بنت منظومتها الاخلاقية والقيمية الخاصة بها والقريبة لمصالحها الشخصية ، زاوية خاصة للتقييم تعطي لكل شيئ قيمته المفترضة ، فالصدق والكذب وكذا الخير والشر وكذا .... باقي المفاهيم الاخلاقية والخلقية ايضا ، كل هذه قيمتها ليس في كونها الواقعي بل قيمتها التي ينبغي ان تكون في منافعها التي تنعكس من خلال استخدامها الوظيفي هنا ، فالصدق يكون خيرا عندما يكون نافعا ومفيدا وكذا الكذب ، اما ان كان مفهوم الصدق مضرا والكذب مفيدا للذات الشخصية فعندئذ يكون الكذب جميلا وجمالا وذكاءا وخيرا وحكمة وسياسة عالية ، بعكس الصدق الذي اصبح مضرا وشريرا ليفقد قيمته الواقعية ليصبح قبيحا ولاخيرا ولا صدقا بالاساس باعتبار انه مصطلح اصبح عاجزا عن جلب المنفعة الذاتية والشخصية هنا ؟.نعم اصبحت النار اكثر خيرية عند ابليس باعتبارها الاقرب الى شخصية ومصالح ومنافع ابليس الناري هذا ، ولم تكن كذالك باعتبار ان واقعيتها النارية هي خيرة بالخصوص ، واذا فرض ان ابليس خلق من طين لكان نفس المقياس النفعي قد ذهب اليه ابليس ليرى الخير في الطينية وليس في النارية !.وعليه تكون قيمة الشيئ مهتزة عندما تنقلب رؤية المخلوق هذا او ذاك من ميزان العدالة الالهية الى ميزان المصالح والمنافع الشخصية ، ليس لان المسألة ان الشيئ نفسه لايحمل اي قيمة حقيقية فحسب ، ولكن لان المعيار القيمي لهذا المخلوق او ذاك سيصبح مختلا لالهؤلاء ولا لهؤلاء ليخرق فيما بعد القانون العام وتكون الكارثة بانهيار قواعد الكون الثابتة !؟.(( قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) !.ان هذه الخيرية الابليسية خيرية لارصيد لها في الحقيقة انها خيرية مزيفة كالعملة المزيفة التي تشبه كثيرا الورقة النقدية التي تغش غير صاحب الاختصاص ليعتقد انها ورقة نقدية رسمية ، وليتعامل بها فيما بعد وليقبل شكلها ويبيع من خلالها بضاعته الثمينة ، ولكنه عندما يذهب للمصارف النقدية ليضعها في رصيده المالي سيصدم عندما يقال له انك خدعت ، وغششت من حيث لاتشعر ، وانك فقدت بضاعتك واستبدلتها بورقة مزيفة لاتستحق قيمة الحبر الذي كتبت به !؟.هكذا هي الخيرية الابليسية النفعية لاتحمل رصيدا حقيقيا يهبها القيمة المحترمة التي تستحق ان يتداول بها تجار القيم الاخلاقية !؟.ان تزوير القيم كتزوير الحقائق وتزوير العملة النقدية سواء ، ومفاهيم كالخير والفضيلة والكرامة .... بحاجة الى رصيد يقوّم من وجودها الواقعي ، فاما وحي الهي يقوم بهذه المهمة واما عقل انساني مرفود من واقع الهي يضخ لهذه المفاهيم الدماء في شرايين هذه القيم النبيلة اما غير ذالك فبدعة !.يتبقى بعد ان وصلنا الى فحوى الحكم الصادر من ابليس في (( انا خير منه ..)) وانه حكم صيغ بشكل انفعالي نفعي وطاغوتي متخلف ، ان ندرك زاوية اخرى من زوايا شخصية هذا المخلوق المعقد الا وهي زاوية (( نقص الشخصية )) الابليسية امام الوجود الانساني !.نعم : اذا كان ابليس لم يفهم ان السجود لادم هو حصر للخيرية من قبل الله سبحانه وتعالى لادم فمن اين فهم ابليس هذه الصورة ؟.لماذا ادخل ابليس نفسه وحسب النص القرءاني بمقارنة فجائية بينه وبين ادم الانساني عندما سمع الامر الرباني :(( اسجدوا لادم ..)) ؟.ان النص الالهي القرءاني لم يشر من بعيد او قريب الى ان هناك خيرية في هذا السجود المطلوب من قبل الخلق لادم البشري ، فمن اين وكيف ولماذا ادخل وعلى الفور ابليس نفسه في مقارنة مع ادم ليثبت لله انه هو الاخير والاحق بالسجود هذا ، او على الاقل ليثبت لله سبحانه انه ارقى خلقا من ادم وانه لاينبغي للارقى ان يسجد لماهو دونه ؟.ان القرءان يحدثنا عن ادم هذا عليه السلام بانه خلق ليكون خليفة في الارض :(( اني جاعل في الارض خليفة ..)) فهل كانت عين ابليس على هذه الخلافة مثلا فلذالك رأى ان الطريق للسلطان على الارض يبدأ من السجود ، ولهذا رفض الخضوع والسجود لادم كي يضمن منصب الخلافة فيما بعد لرؤيته ان الخلافة تبدأ من مبدأ الخيرية هنا لذا قال :(( انا خير منه ..)) باعتبار ان الخير في السلطان حسب رؤية ابليس ؟.وكذا هذا المخلوق المعقد ابليس عندما رأى ان السجود لادم هو تكريم عالي القيمة في قوله سبحانه :(( قال أرءيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتن الى يوم القيمة لأحتنكن ذريته الا قليلا / الاسراء / 62 )) فمن اين فهم ان السجود لادم هو تكريم على باقي الخلق ؟. فهل فهم التكريم ابليس من نفس الدائرة التي تبدأ بالسجود لادم لتنتهي عند استلام الانسان لخلافة الارض ، فلذالك رأى ابليس ان هذا السجود ماهو الا تكريم لادم على باقي الخلق لذالك رفض السجود على امل الوصول هو الى خلافة الارض بدلا عن الانسان ؟.ام ان ابليس وكعادته يرى التكريم والخيرية بشكل طاغوتي مختلف ، والحقيقة انه ليس هناك في طلب السجود لادم الانساني لاتكريما ولاخيرية ابدا ، وانما هناك ومن وجهة النظر الالهية المقدسة (( امانة )) ومسؤولية ستلقى على كاهل الانسان ليصبح ظلوما جهولا ؟!.سوف نترك الاجابة ليفكر بها القارئ الكريم ، وليشاركنا حركة البحث للتعرف على عوالم الخلقة الاولى التي اسست لعالمنا المعاش اليوم !؟.