((قال انّي ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون )) ****** عندما يواجه أبٌ كيعقوب عليه السلام أبناءً كأخوة يوسف الصديق ، وهم يدخلون عليه بحجج ومطالب واساليب غاية في المكر الخفي والذكاء البدوي اللئيم ليطرحوا (يابانا ) بنعومة الابن الشفيق والولد المطيع ، و( مالك ) بصيغة السؤال الغريب والاستنكار المبطن ، و (لاتأمنّا ) باسلوب العاتب المتألم والصادق النصوح ، و( على يوسف ) بلغة الاخ الحفيظ والشقيق الاكبر ، و( أنّا له ناصحون ) بلسان الوادع المضحي والحاني العطوف ، و( أرسله ) بخطاب الحرية وكسر القيود ، و( معنا ) بأطار الحماية والشعور بالقوة ، و ( غدا ) بروح الزمان وولادة صباح وبداية جديدة ، و (يرتع )
بمفردة الخوف على الصحة والتأمل في نماء القابلية ، و ( يلعب ) بشكل التهيئ والتربية ، و ( انا له لحافظون ) بمنطوق ومضمون التأكيد والقسم والحفظ .... عند كل هذه الطرق والاساليب والتعبيرات والمداخل والمخارج فماهو الشيئ المطلوب من الاب يعقوب ان يطرحه للاحتفاظ بيوسف قريبا منه وتحت نظره وفي كنف حمايته ؟.(( قال : انّي ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ))وهنا طرح يعقوب المسألة المثارة حول يوسف ع بشكل مختلف عن كل ماطُرح من قبل اخوة يوسف من ابناءه الكبار !.فهو لم يشكك بأحترامهم الظاهر له في (يابانا ) ولم يظهر الريب فيهم ب ( مالك لاتأمنا ) ولم يقل انني قلق منكم في ( على يوسف ) ولم يُشر بعدم رغبته بالارسال ، ولم يعارض على الرتوع واللعب ، ولم يحرك دوافع حول حفظهم ليوسف .... الخ ، كل هذا لم يذكر في جواب يعقوب الاب لهم ، وانما ذكر يعقوب ثلاث عوامل رئيسية تدفعه لعدم الرغبة في ارسال يوسف وهي :اولا : العامل النفسي في ( اني ليحزنني ).الثاني : العامل الطبيعي ( وأخاف ان ياكله الذئب ).الثالث : العامل الانساني في اخوة يوسف :( وانتم عنه غافلون ).والان هل يوحي النص القرءاني المذكور ان ليعقوب معرفة بغدر ابنائه ومكرهم لهذا اعرض عن نفي تهمة عدم الايمان والثقة بهم ، وجاء بغير ذالك ؟.وهل ان يعقوب كان يشعر بمؤامرتهم فهو لذالك لم يعقب على تظاهرهم بالنصح والحفظ لاخيهم ؟.وهل يعقوب كان مدركا لمشروعهم الخطير في تغييب يوسف او قتله ، ولهذا اشار ب (وانتم عنه غافلون ) ليدلل على نية عدم الاعتناء باخيهم ؟.الحقيقة ان كل هذا لا اشارة عليه ولادليل لديه ، فليس في هذا الرأي وتلك التوجهات التفسيرية من الاسألة التي تفترض ان هناك دواخل ومؤشرات وأمارات كثيرة كانت تتحرك داخل يعقوب تجاه ابناءه ، وانه عالم بمكرهم ، وعارف بمؤامرتهم ، ولذالك اعتذر لهم ب ( اني ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون ) فليس في جواب يعقوب مايدلل على كل ما قيل في تبيين اعتذار يعقوب هذا لابناءه ، وانه باعتباره : كان يصب في اشارة يعقوب لكل ماذكره وخاطه خيال المفسرين حول اعتذار يعقوب هذا !.وانما الواقع : ان يعقوب ذكر وبصراحة وبلا حاجة لتأويلات في كلامه انه ليحزنه ان يذهب اخوة يوسف به وكفى !.أما ان اردنا ان نستبين : ماهو الشيئ المحزن بالنسبة ليعقوب في فراقه ليوسف ليوم او بعض يوم ؟.ولماذا هذا الحزن لمجرد فراق زمني بسيط بين يعقوب ويوسف ؟.وهل كان يوسف على هذا القول يمثل السعادة في وجوده المستمرة بالنسبة ليعقوب لهذا قال بحزنه ان فارقته هذه السعادة اليوسفية ؟.أم ان الامر بين يوسف ويعقوب لايتعدى معنى التلازم بين شيخ عجوز اقعده السن بلاعمل وحركة هو يعقوب ، وبين صبي يملأ فراغ الوقت الممل لذالك العجوز وهو يتحرك حوله ويشعره باستمرار الحياة فحسب وهو يوسف ؟.كل هذه الاسألة من ضمن توجهات النص الظاهرة جدا ، والسؤال حولها لايعتبر خروجا على النص القرءاني او تحميله مالم يقله او ينطق به ، لذالك اشرنا الى نوعين من فهم النص القرءاني تداخل في قصة يوسف :الاول : نوع يذهب الى افتراضات عقلية انسانية بشرية غير مذكورة اصلا لا في النص ولا في توجهاته الطبيعية !.والثاني : نوع يذهب الى استنطاق النص نفسه ومن خلال منطوقه وداخل مقاصده المباشرة تماما كالسؤال عن حزن يعقوب نفسه في قوله نفسه ( قال اني ليحزنني ان تذهبوا به ..) فمثل هذا يعتبر تبيينا وتفسيرا ، أما غيره من الاسألة فمجرد ظن ولايغني الظن عن الحق شيئا !.نعم : في الحالة الطبيعية لقراءة نص يعقوب (ليحزنني ان تذهبوا به ...) وعذره وتبريره لابناءه بعدم رغبته بمفارقة يوسف يدرك على الفور : ان هناك علاقة طبيعية جدا بين يعقوب العجوز الغير قادر على الحركة والتنقل والمشاركة بالحياة بفاعلية ، وبين صبي صغير يوسف يتحرك بدفئ امام هذا الشيخ العجوز ويملئ عليه فراغ الوقت ويلاعبه ويتكلم اليه ويضمه ويشمه ويستذكر ايام الشباب والرجولة والصبى ايضا عندما يكون بقربه !.وعلى قدر هذا المستوى من العلاقة الانسانية الطبيعية بين يعقوب ويوسف بالامكان فهم ماقصده النص التالي من القصة عندما اجاب الابناء عن اعتذار ابيهم :(( قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة انا اذا لخاسرون )) وتجاوزهم الردّ على مقول ابيهم هذا ( اني ليحزنني ان تذهبوا به ) باعتبار ان الابناء مدركون طبيعة هذه العلاقة الطبيعية الانسانية بين يعقوب ويوسف ، ومتفهمون تماما ان للعجوز الشيخ يعقوب عليه السلام الحق في الحزن والشعور بالتعاسة عندما يفارق صبي صغير يملأ عليه الفراغ ويجدد له الحياة ويرفع من وحدته الطبيعية في اخر العمر ، ولذالك لم ينكرالابناء على ابيهم مقولته ( ليحزنني ) من منطلق تفهمهم الكامل لهذا الشعور الابوي ، ولكن انكروا على ابيهم مقولته ( وأخاف ان يأكله الذئب ...) فاجابوه بحزم : ان لاتخاف من الذئب فنحن عصبة قوية ولئن أكله الذئب فاذن نحن خاسرون بالاعتداد بقوتنا !.صحيح : انه كان على ابناء يعقوب ان يقدروا عاليا رغبة ابيهم النفسية في استبقاء يوسف الى جانبه ، وان يحترموا مبرراته الروحية التي ترى في قرب يوسف منه سعادة له ، وفي بعده حزن وتعاسة ، ولكن هذا يكون من الابناء ان كانت دواخلهم العقلية والفكرية والنفسية نظيفة وسليمة ، أما وان كانت تلك الدواخل مغشوشة وشيطانية وشريرة ، فستكون الغاية هي المحرك وخيوط المؤامرة هي الحاكمة وفكرة استخلاص يوسف من بين يدي ابيه هي المرمى ، وعليه تجاوز الابناء رغبة ابيهم الروحية تلك ليجيبوا على مارآوه مبررا عمليا ليعقوب عندما قال :( وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون ) واغفلوا الاجابة عن قوله :( ليحزنني ان تذهبوا به ..)) فافهم كلا المحورين محور طبيعية العلاقة ومحور عدم احترام الابناء لرغبة والدهم الروحية والنفسية والعاطفية ايضا !.ان هذه العلاقة التي ذكرناها انفا بين يعقوب النبي الكريم ع ، ويوسف الصديّق المجتبى ع ، هي العلاقة التي تطفوا على ظاهر الحياة الدنيا ، والتي نفهمها نحن بتلقائية كما فهمها ابناء يعقوب انفسهم بتلقائية طبيعية ايضا( بين اب عجوز وصبي جميل ) ، ولكنّ الله أعلم ماهي نوعية العلاقة الباطنية بين يعقوب نبي الله الكريم ، ويوسف مجتبى الله سبحانه العظيم ؟.هل هي علاقة فوق الطبيعية ، ولذا عبر يعقوب بطرف خفي لحزنه الشديد والمؤكد لفراق المجتبى يوسف ولو لفترة بسيطة من الزمن ؟.هل بأمكاننا فهم سرّ هذه العلاقة والمفترض انها فوق الطبيعية بين يعقوب ويوسف ؟.ماذا كان يعقوب يرى في يوسف ؟.تلميذ بحاجة الى رعاية ؟.أم انه مجتبى من قبل الله سبحانه يتعلم من سلوكه الفطري الالهي يعقوب النبي كل يوم شيئ جديد ؟.هل حزن يعقوب على فراق النبوة من بيته والمجسدة بيوسف ؟.أم انه ليحزنه الذهاب بيوسف كي لاتمرُّ ساعة ويوسف مهبط الاسرار الالهيه بعيدا عن يعقوب المنتظر للجديد في يوسف ؟.قال يعقوب : أنّي ليحزنني ان تذهبوا به !.لكنّ الابناء لم يفهموا المغزى ، ليس لسبب انه سرّ غامض بالتمام ، بقدر ما ان قلوب ابناء يعقوب قد اوصدت ابوابها باقفال ثقيلة جداً فاصبحت لاتدرك ان رغبة يعقوب وحزنه على فراق مجتبى هي اعظم عذرا من خوف يعقوب من ذئب مفترض انه الخطر على يوسف بعد غفلة اخوته عنه !.لكنّ من اين لاخوة يوسف هذه المعرفة السامية ؟.ومن اين لهم فهم مغزى كلام يعقوب الحكيم ان كانت العصبية الشيطانية قد استولت على كل كيانهم ؟.ومن اين لهم الالتفات وفهم مقاصد ومعارف وادراك وغايات ... كلام نبي بمنزلة يعقوب عليه السلام ؟.وهل بامكانهم التمييز بين حزن يعقوب الذي ينبغي ان يلتفت اليه باعتباره حزنا لله سبحانه وتعالى ، وبين تبرير ساذج كالخوف من ذئب مفترض ؟.هل بامكان اخوة يوسف ان يدركوا ان جوابهم لمبرر حزن يعقوب كان اولى من جوابهم لمبرر ( أخاف ان يأكله الذئب ) في :( لئن اكله الذئب ونحن عصبة انا اذا لخاسرون ) ؟.الجواب لا بالطبع فليس اخوة يوسف من النموذج المؤهل لادراك عالم يعقوب الجميل هذا ، بعكس يوسف الذي هو وحده الاقدر على اشباع نهمة المعرفة التي لدى يعقوب والده ، ولهذا عدل يعقوب عن حزنه وفلسفته ليشير الى خوفه من الذئب وغفلتهم عن يوسف فقال مردفا :( وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون )؟.والان يضطرنا السؤال لمعرفة : هل حقا كان يعقوب يخاف من الذئب على يوسف ؟.وهل حقا كان يعقوب يخشى غفلة ابنائه عن حماية المجتبى يوسف ؟.ام ان هذين التبريرين الاخيرين من يعقوب :(( وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون )) خطابا لذهنية ابناءه القبلية فحسب التي لاتفهم من العالم الا ظواهره واسبابه المادية لذالك اضطر يعقوب لذكر الذئب والغفلة ؟.يبدو وبقليل من التأمل لكلام يعقوب ، ان يعقوب لم يذكر خوفه من ذئب مفترض ، ولاخشيته من غفلة محتملة الا على سبيل تنبيه ابناءه لأخطار الحياة البدوية الطبيعية ، ولم يكن في وارد يعقوب ان يقول لنا نحن قرّاء النص اليوم او من سمع كلامه من ابناءه بالماضي : انني انا يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم اخاف الذئب على يوسف واخشى غفلتكم عن حمايته وحفظه ؟.ولم يرد يعقوب الحكيم كما يُذكر في بعض المرويات التي اشك بمصداقيتها او بفهم مقاصدها الفكرية ، ان يلقن ابنائه الكذب ويجد لهم المفتاح لتبرير جريمتهم عندما التفتوا من كلمة ابيهم لمقولة ( فأكله الذئب وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) !.الحقيقة لم يكن واردا في ذهن يعقوب خوفه الشخصي من ذئب ، باعتبار ان نبي الله يعقوب عليه السلام يدرك ان لحوم الانبياء والرسل محرمة على الضواري والحيوانات المفترسة اولا ، كما انها محرّمة على أكل الارض ثانيا ، وهذه المعرفة معرفة ربانية وبوحي قدسي تسري بجميع شرائع الرسل والانبياء ، ولهذا قلنا ان يعقوب ليس في وارد الخوف من سبع من سباع البادية على يوسف الا من منطلق تشديد الحرص على ابنائه وايصال الفكرة لهم حسب مايفهمونه هم من اخطار ، ولهذا قال يعقوب بخوفه من الذئب ليس فقط لتشديد التنبيه على ابناءه فحسب ، ولكن ايضا ليكون مبرره بعدم فراق يوسف مقنعا أمام هؤلاء الاخوة المتوثبين حماسا لاخذ يوسف من ابيه بكل طريقة !.بمعنى آخر : ان يعقوب يفهم ان لاسلطان لذئب حقير على لحم يوسف المجتبى من قبل الله سبحانه وتعالى ، ويفهم ايضا في المقابل ان الخطر لوفرض على يوسف فسوف يكون بشيئ اخر غير اكل الذئب له ، ويفهم يعقوب جيدا ان قدر الله سبحانه وعلمه في الاثبات والمحو كتاب لايطلع عليه الا الله سبحانه وتعالى فهو يفعل مايريد ويثبت اجتباء يوسف او يمحوه من سجل الانبياء بعلمه سبحانه ...... يعقوب عالم بكل هذا ، لكنه اراد اقناع الابناء وحسب مايفهمونه من الحياة ومخاطرها ومبررات خشية الانسان منها ، انه يرى الخوف من الذئب ، على امل اقناع الابناء بترك فكرة اخذهم ليوسف ، ولمنهم ومع الاسف بدلا من ان يقرّوا اباهم على مخاوفه انفتلوا يردون مبرراته بقولهم التافه :( لئن اكله الذئب ونحن عصبة انا اذا لخاسرون ) فيأس يعقوب من امكانية استيعاب ابناءه لمخاوفه فانتقل الى ( وانتم عنه غافلون )!.فهل هناك ربما شك في مبرر غفلتكم عن العناية بيوسف ؟.كأنما يعقوب الحكيم استبق حجتهم قبل ان يقولوها له ، فهو عالم بانهم سيقولون : ونحن عصبة ، وماشاكل ذالك من اجوبة تافهة ، فاراد ان يقطع الطريق عليهم ويختصر المسافة بقوله ( وانتم عنه غافلون ) لينبه ابناءه على انه لايشك بقدرة عصبتهم وقوة شوكتهم على الحماية والدفاع ، ولكنه يخشى ( الغفلة ) والسهو الذي يهجم على الانسان على حين غرّة فيفقده انتباهه وشدة حرصه فيقع المحذور وتكون الغفلة ويغفل عن الحفظ !.اي بمعنى اخر : ان يعقوب اشار في كلمته هذه ( وانتم عنه غافلون ) الى ان خوفي من الذئب ليس بسبب عدم قدرتكم وعصبتكم على دفع الف ذئب عن يوسف ، ولكن بسبب غفلتكم التي ليس لها وقت ان اتت وليس لها مكان ان ارادت ان تزور الانسان لتفقده الاحساس بالخطر ، وعندئذ يابنائي ( يقول يعقوب ) حتى لو فرضتم حريصين على يوسف بشدة ولكني لااستطيع فرض انكم لاتقعون بالغفلة والسهو ، لان الغفلة والسهو تاتي من خارج طاقة الانسان ورغم عنه فافهموا !؟.بعد هذا البيان الدقيق من يعقوب ع يلتفت اليه الابناء وبعقلية الاغبياء الذين لايفهون اي كلمة من الانبياء ليقول جوابا على ابيهم :( لئن اكله الذئب ونحن عصبة ...) فيئس يعقوب من فهمهم وترك الامر لله يصرفه كيفما شاء !.نعم يعقوب لايعتمد في حفظه على نفسه وعياله بمافيهم يوسف الصديق ع الا على الله سبحانه وتعالى ، وهو وان اراد دفع ابنائه عن فكرة اخذ يوسف معهم بان قال لهم : اخشى الذئب وغفلتكم على يوسف !. الا انه في جانبه الرسالي الاخر غير معتمد في الحقيقة على حفظ يوسف لا على الحيطة والعصبة والشدة لابنائه التي سوف تدفع خطر الذئب ، ولاعلى خوفه من غفلة المغفلين ابنائه بالاساس ، وانما هو دائما لايرى حافظا ليوسف الا الله سبحانه وهو خير حافظا وهو ارحم الراحمين ، كما انه لايخشى الا قدر الله سبحانه الذي قدر كل ثم هدى ، فافهم هذا تفهم قول يعقوب من بدايته حتى النهاية في :( اني ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون )!.
al_shaker@maktoob.com
بمفردة الخوف على الصحة والتأمل في نماء القابلية ، و ( يلعب ) بشكل التهيئ والتربية ، و ( انا له لحافظون ) بمنطوق ومضمون التأكيد والقسم والحفظ .... عند كل هذه الطرق والاساليب والتعبيرات والمداخل والمخارج فماهو الشيئ المطلوب من الاب يعقوب ان يطرحه للاحتفاظ بيوسف قريبا منه وتحت نظره وفي كنف حمايته ؟.(( قال : انّي ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ))وهنا طرح يعقوب المسألة المثارة حول يوسف ع بشكل مختلف عن كل ماطُرح من قبل اخوة يوسف من ابناءه الكبار !.فهو لم يشكك بأحترامهم الظاهر له في (يابانا ) ولم يظهر الريب فيهم ب ( مالك لاتأمنا ) ولم يقل انني قلق منكم في ( على يوسف ) ولم يُشر بعدم رغبته بالارسال ، ولم يعارض على الرتوع واللعب ، ولم يحرك دوافع حول حفظهم ليوسف .... الخ ، كل هذا لم يذكر في جواب يعقوب الاب لهم ، وانما ذكر يعقوب ثلاث عوامل رئيسية تدفعه لعدم الرغبة في ارسال يوسف وهي :اولا : العامل النفسي في ( اني ليحزنني ).الثاني : العامل الطبيعي ( وأخاف ان ياكله الذئب ).الثالث : العامل الانساني في اخوة يوسف :( وانتم عنه غافلون ).والان هل يوحي النص القرءاني المذكور ان ليعقوب معرفة بغدر ابنائه ومكرهم لهذا اعرض عن نفي تهمة عدم الايمان والثقة بهم ، وجاء بغير ذالك ؟.وهل ان يعقوب كان يشعر بمؤامرتهم فهو لذالك لم يعقب على تظاهرهم بالنصح والحفظ لاخيهم ؟.وهل يعقوب كان مدركا لمشروعهم الخطير في تغييب يوسف او قتله ، ولهذا اشار ب (وانتم عنه غافلون ) ليدلل على نية عدم الاعتناء باخيهم ؟.الحقيقة ان كل هذا لا اشارة عليه ولادليل لديه ، فليس في هذا الرأي وتلك التوجهات التفسيرية من الاسألة التي تفترض ان هناك دواخل ومؤشرات وأمارات كثيرة كانت تتحرك داخل يعقوب تجاه ابناءه ، وانه عالم بمكرهم ، وعارف بمؤامرتهم ، ولذالك اعتذر لهم ب ( اني ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون ) فليس في جواب يعقوب مايدلل على كل ما قيل في تبيين اعتذار يعقوب هذا لابناءه ، وانه باعتباره : كان يصب في اشارة يعقوب لكل ماذكره وخاطه خيال المفسرين حول اعتذار يعقوب هذا !.وانما الواقع : ان يعقوب ذكر وبصراحة وبلا حاجة لتأويلات في كلامه انه ليحزنه ان يذهب اخوة يوسف به وكفى !.أما ان اردنا ان نستبين : ماهو الشيئ المحزن بالنسبة ليعقوب في فراقه ليوسف ليوم او بعض يوم ؟.ولماذا هذا الحزن لمجرد فراق زمني بسيط بين يعقوب ويوسف ؟.وهل كان يوسف على هذا القول يمثل السعادة في وجوده المستمرة بالنسبة ليعقوب لهذا قال بحزنه ان فارقته هذه السعادة اليوسفية ؟.أم ان الامر بين يوسف ويعقوب لايتعدى معنى التلازم بين شيخ عجوز اقعده السن بلاعمل وحركة هو يعقوب ، وبين صبي يملأ فراغ الوقت الممل لذالك العجوز وهو يتحرك حوله ويشعره باستمرار الحياة فحسب وهو يوسف ؟.كل هذه الاسألة من ضمن توجهات النص الظاهرة جدا ، والسؤال حولها لايعتبر خروجا على النص القرءاني او تحميله مالم يقله او ينطق به ، لذالك اشرنا الى نوعين من فهم النص القرءاني تداخل في قصة يوسف :الاول : نوع يذهب الى افتراضات عقلية انسانية بشرية غير مذكورة اصلا لا في النص ولا في توجهاته الطبيعية !.والثاني : نوع يذهب الى استنطاق النص نفسه ومن خلال منطوقه وداخل مقاصده المباشرة تماما كالسؤال عن حزن يعقوب نفسه في قوله نفسه ( قال اني ليحزنني ان تذهبوا به ..) فمثل هذا يعتبر تبيينا وتفسيرا ، أما غيره من الاسألة فمجرد ظن ولايغني الظن عن الحق شيئا !.نعم : في الحالة الطبيعية لقراءة نص يعقوب (ليحزنني ان تذهبوا به ...) وعذره وتبريره لابناءه بعدم رغبته بمفارقة يوسف يدرك على الفور : ان هناك علاقة طبيعية جدا بين يعقوب العجوز الغير قادر على الحركة والتنقل والمشاركة بالحياة بفاعلية ، وبين صبي صغير يوسف يتحرك بدفئ امام هذا الشيخ العجوز ويملئ عليه فراغ الوقت ويلاعبه ويتكلم اليه ويضمه ويشمه ويستذكر ايام الشباب والرجولة والصبى ايضا عندما يكون بقربه !.وعلى قدر هذا المستوى من العلاقة الانسانية الطبيعية بين يعقوب ويوسف بالامكان فهم ماقصده النص التالي من القصة عندما اجاب الابناء عن اعتذار ابيهم :(( قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة انا اذا لخاسرون )) وتجاوزهم الردّ على مقول ابيهم هذا ( اني ليحزنني ان تذهبوا به ) باعتبار ان الابناء مدركون طبيعة هذه العلاقة الطبيعية الانسانية بين يعقوب ويوسف ، ومتفهمون تماما ان للعجوز الشيخ يعقوب عليه السلام الحق في الحزن والشعور بالتعاسة عندما يفارق صبي صغير يملأ عليه الفراغ ويجدد له الحياة ويرفع من وحدته الطبيعية في اخر العمر ، ولذالك لم ينكرالابناء على ابيهم مقولته ( ليحزنني ) من منطلق تفهمهم الكامل لهذا الشعور الابوي ، ولكن انكروا على ابيهم مقولته ( وأخاف ان يأكله الذئب ...) فاجابوه بحزم : ان لاتخاف من الذئب فنحن عصبة قوية ولئن أكله الذئب فاذن نحن خاسرون بالاعتداد بقوتنا !.صحيح : انه كان على ابناء يعقوب ان يقدروا عاليا رغبة ابيهم النفسية في استبقاء يوسف الى جانبه ، وان يحترموا مبرراته الروحية التي ترى في قرب يوسف منه سعادة له ، وفي بعده حزن وتعاسة ، ولكن هذا يكون من الابناء ان كانت دواخلهم العقلية والفكرية والنفسية نظيفة وسليمة ، أما وان كانت تلك الدواخل مغشوشة وشيطانية وشريرة ، فستكون الغاية هي المحرك وخيوط المؤامرة هي الحاكمة وفكرة استخلاص يوسف من بين يدي ابيه هي المرمى ، وعليه تجاوز الابناء رغبة ابيهم الروحية تلك ليجيبوا على مارآوه مبررا عمليا ليعقوب عندما قال :( وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون ) واغفلوا الاجابة عن قوله :( ليحزنني ان تذهبوا به ..)) فافهم كلا المحورين محور طبيعية العلاقة ومحور عدم احترام الابناء لرغبة والدهم الروحية والنفسية والعاطفية ايضا !.ان هذه العلاقة التي ذكرناها انفا بين يعقوب النبي الكريم ع ، ويوسف الصديّق المجتبى ع ، هي العلاقة التي تطفوا على ظاهر الحياة الدنيا ، والتي نفهمها نحن بتلقائية كما فهمها ابناء يعقوب انفسهم بتلقائية طبيعية ايضا( بين اب عجوز وصبي جميل ) ، ولكنّ الله أعلم ماهي نوعية العلاقة الباطنية بين يعقوب نبي الله الكريم ، ويوسف مجتبى الله سبحانه العظيم ؟.هل هي علاقة فوق الطبيعية ، ولذا عبر يعقوب بطرف خفي لحزنه الشديد والمؤكد لفراق المجتبى يوسف ولو لفترة بسيطة من الزمن ؟.هل بأمكاننا فهم سرّ هذه العلاقة والمفترض انها فوق الطبيعية بين يعقوب ويوسف ؟.ماذا كان يعقوب يرى في يوسف ؟.تلميذ بحاجة الى رعاية ؟.أم انه مجتبى من قبل الله سبحانه يتعلم من سلوكه الفطري الالهي يعقوب النبي كل يوم شيئ جديد ؟.هل حزن يعقوب على فراق النبوة من بيته والمجسدة بيوسف ؟.أم انه ليحزنه الذهاب بيوسف كي لاتمرُّ ساعة ويوسف مهبط الاسرار الالهيه بعيدا عن يعقوب المنتظر للجديد في يوسف ؟.قال يعقوب : أنّي ليحزنني ان تذهبوا به !.لكنّ الابناء لم يفهموا المغزى ، ليس لسبب انه سرّ غامض بالتمام ، بقدر ما ان قلوب ابناء يعقوب قد اوصدت ابوابها باقفال ثقيلة جداً فاصبحت لاتدرك ان رغبة يعقوب وحزنه على فراق مجتبى هي اعظم عذرا من خوف يعقوب من ذئب مفترض انه الخطر على يوسف بعد غفلة اخوته عنه !.لكنّ من اين لاخوة يوسف هذه المعرفة السامية ؟.ومن اين لهم فهم مغزى كلام يعقوب الحكيم ان كانت العصبية الشيطانية قد استولت على كل كيانهم ؟.ومن اين لهم الالتفات وفهم مقاصد ومعارف وادراك وغايات ... كلام نبي بمنزلة يعقوب عليه السلام ؟.وهل بامكانهم التمييز بين حزن يعقوب الذي ينبغي ان يلتفت اليه باعتباره حزنا لله سبحانه وتعالى ، وبين تبرير ساذج كالخوف من ذئب مفترض ؟.هل بامكان اخوة يوسف ان يدركوا ان جوابهم لمبرر حزن يعقوب كان اولى من جوابهم لمبرر ( أخاف ان يأكله الذئب ) في :( لئن اكله الذئب ونحن عصبة انا اذا لخاسرون ) ؟.الجواب لا بالطبع فليس اخوة يوسف من النموذج المؤهل لادراك عالم يعقوب الجميل هذا ، بعكس يوسف الذي هو وحده الاقدر على اشباع نهمة المعرفة التي لدى يعقوب والده ، ولهذا عدل يعقوب عن حزنه وفلسفته ليشير الى خوفه من الذئب وغفلتهم عن يوسف فقال مردفا :( وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون )؟.والان يضطرنا السؤال لمعرفة : هل حقا كان يعقوب يخاف من الذئب على يوسف ؟.وهل حقا كان يعقوب يخشى غفلة ابنائه عن حماية المجتبى يوسف ؟.ام ان هذين التبريرين الاخيرين من يعقوب :(( وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون )) خطابا لذهنية ابناءه القبلية فحسب التي لاتفهم من العالم الا ظواهره واسبابه المادية لذالك اضطر يعقوب لذكر الذئب والغفلة ؟.يبدو وبقليل من التأمل لكلام يعقوب ، ان يعقوب لم يذكر خوفه من ذئب مفترض ، ولاخشيته من غفلة محتملة الا على سبيل تنبيه ابناءه لأخطار الحياة البدوية الطبيعية ، ولم يكن في وارد يعقوب ان يقول لنا نحن قرّاء النص اليوم او من سمع كلامه من ابناءه بالماضي : انني انا يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم اخاف الذئب على يوسف واخشى غفلتكم عن حمايته وحفظه ؟.ولم يرد يعقوب الحكيم كما يُذكر في بعض المرويات التي اشك بمصداقيتها او بفهم مقاصدها الفكرية ، ان يلقن ابنائه الكذب ويجد لهم المفتاح لتبرير جريمتهم عندما التفتوا من كلمة ابيهم لمقولة ( فأكله الذئب وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) !.الحقيقة لم يكن واردا في ذهن يعقوب خوفه الشخصي من ذئب ، باعتبار ان نبي الله يعقوب عليه السلام يدرك ان لحوم الانبياء والرسل محرمة على الضواري والحيوانات المفترسة اولا ، كما انها محرّمة على أكل الارض ثانيا ، وهذه المعرفة معرفة ربانية وبوحي قدسي تسري بجميع شرائع الرسل والانبياء ، ولهذا قلنا ان يعقوب ليس في وارد الخوف من سبع من سباع البادية على يوسف الا من منطلق تشديد الحرص على ابنائه وايصال الفكرة لهم حسب مايفهمونه هم من اخطار ، ولهذا قال يعقوب بخوفه من الذئب ليس فقط لتشديد التنبيه على ابناءه فحسب ، ولكن ايضا ليكون مبرره بعدم فراق يوسف مقنعا أمام هؤلاء الاخوة المتوثبين حماسا لاخذ يوسف من ابيه بكل طريقة !.بمعنى آخر : ان يعقوب يفهم ان لاسلطان لذئب حقير على لحم يوسف المجتبى من قبل الله سبحانه وتعالى ، ويفهم ايضا في المقابل ان الخطر لوفرض على يوسف فسوف يكون بشيئ اخر غير اكل الذئب له ، ويفهم يعقوب جيدا ان قدر الله سبحانه وعلمه في الاثبات والمحو كتاب لايطلع عليه الا الله سبحانه وتعالى فهو يفعل مايريد ويثبت اجتباء يوسف او يمحوه من سجل الانبياء بعلمه سبحانه ...... يعقوب عالم بكل هذا ، لكنه اراد اقناع الابناء وحسب مايفهمونه من الحياة ومخاطرها ومبررات خشية الانسان منها ، انه يرى الخوف من الذئب ، على امل اقناع الابناء بترك فكرة اخذهم ليوسف ، ولمنهم ومع الاسف بدلا من ان يقرّوا اباهم على مخاوفه انفتلوا يردون مبرراته بقولهم التافه :( لئن اكله الذئب ونحن عصبة انا اذا لخاسرون ) فيأس يعقوب من امكانية استيعاب ابناءه لمخاوفه فانتقل الى ( وانتم عنه غافلون )!.فهل هناك ربما شك في مبرر غفلتكم عن العناية بيوسف ؟.كأنما يعقوب الحكيم استبق حجتهم قبل ان يقولوها له ، فهو عالم بانهم سيقولون : ونحن عصبة ، وماشاكل ذالك من اجوبة تافهة ، فاراد ان يقطع الطريق عليهم ويختصر المسافة بقوله ( وانتم عنه غافلون ) لينبه ابناءه على انه لايشك بقدرة عصبتهم وقوة شوكتهم على الحماية والدفاع ، ولكنه يخشى ( الغفلة ) والسهو الذي يهجم على الانسان على حين غرّة فيفقده انتباهه وشدة حرصه فيقع المحذور وتكون الغفلة ويغفل عن الحفظ !.اي بمعنى اخر : ان يعقوب اشار في كلمته هذه ( وانتم عنه غافلون ) الى ان خوفي من الذئب ليس بسبب عدم قدرتكم وعصبتكم على دفع الف ذئب عن يوسف ، ولكن بسبب غفلتكم التي ليس لها وقت ان اتت وليس لها مكان ان ارادت ان تزور الانسان لتفقده الاحساس بالخطر ، وعندئذ يابنائي ( يقول يعقوب ) حتى لو فرضتم حريصين على يوسف بشدة ولكني لااستطيع فرض انكم لاتقعون بالغفلة والسهو ، لان الغفلة والسهو تاتي من خارج طاقة الانسان ورغم عنه فافهموا !؟.بعد هذا البيان الدقيق من يعقوب ع يلتفت اليه الابناء وبعقلية الاغبياء الذين لايفهون اي كلمة من الانبياء ليقول جوابا على ابيهم :( لئن اكله الذئب ونحن عصبة ...) فيئس يعقوب من فهمهم وترك الامر لله يصرفه كيفما شاء !.نعم يعقوب لايعتمد في حفظه على نفسه وعياله بمافيهم يوسف الصديق ع الا على الله سبحانه وتعالى ، وهو وان اراد دفع ابنائه عن فكرة اخذ يوسف معهم بان قال لهم : اخشى الذئب وغفلتكم على يوسف !. الا انه في جانبه الرسالي الاخر غير معتمد في الحقيقة على حفظ يوسف لا على الحيطة والعصبة والشدة لابنائه التي سوف تدفع خطر الذئب ، ولاعلى خوفه من غفلة المغفلين ابنائه بالاساس ، وانما هو دائما لايرى حافظا ليوسف الا الله سبحانه وهو خير حافظا وهو ارحم الراحمين ، كما انه لايخشى الا قدر الله سبحانه الذي قدر كل ثم هدى ، فافهم هذا تفهم قول يعقوب من بدايته حتى النهاية في :( اني ليحزنني ان تذهبوا به وأخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون )!.
al_shaker@maktoob.com