السبت، أبريل 11، 2009

(( أزدواجية لعن الطغاة وتقديس أعمالهم )) حميد الشاكر


(( أزدواجية لعن الطغاة وتقديس أعمالهم )) حميد الشاكر
_____________________

( سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم ... )

الانسان مخلوق معقد بطبيعته الانسانية ، وبسبب هذا التعقيد هو مزدوجٌ ايضا في فطرته وافكاره وسلوكه وتطلعاته ونظراته للحياة والانسان والعالم ،وكل هذا لم يكن ليوجد للانسان لولا انه مخلوق حرٌ ومختار ومركّب !.
ولعلّ أوسع صورة تتجلى بها الصفات الانسانية الازدواجية بوضوح في حياتها الفردية والاجتماعية هي صورة رؤية الانسان الفكرية لطغاة العالم والانسانية والتاريخ والحاضر ، فمع ان اي انسان سوي الفطرة لابد انه يحمل مشاعر السلبية تجاه الطغاة في هذا العالم ويذهب الى نقدهم وعدم القبول المطلق بممارساتهم العنفية والفرعونية السياسية ، بل وانه في كثير من الاحيان تتطوّر لديه حالة الغضب والانفعال والكراهية النفسية لطغاة العالم الانساني حتى وصولها الى شواطئ اللعن الصريح لكل طاغية ومستبد وظالم في هذا العالم ماضيا وحاضرا وكذا مستقبلا ، لكنه وفي نفس الوقت واللحظة وعلى نفس المستوى والاسلوب والصورة نجد ان هذا الانسان نفسه الذي لعن الطغاة والفراعنة والمستبدين لتوّه عرّج من زاوية اخرى على اعمالهم وقصورهم ومنشآتهم وتراثهم وبنائهم ودواوينهم وسياساتهم ...... وماخلفوه لنا من اثار ليكتب فيها قصائد المديح ، وينعتها برقي الحضارة ، ويهبها صفة الابداع ، ويِسمها بالعبقرية والذكاء والتقدم .... وغير ذالك من مفردات ومصطلحات تدفعنا نحن من ينظر للمشهد من الخارج ان نتساءل : هل هذا هو هو الانسان ذاته الذي لعن جميع الطغاة في صباح اليوم ليعود في وقت الضحى ليكيل المديح لاعمال الطغاة وتراثهم وافكارهم وما صنعوه ؟.
أمّ انه انسان آخر كان يقبع داخل الانسان الاول ونحن لم نكن على بصيرة من رؤيته بوضوح ؟.
في أور وأنت تطأ ثرى ذي قار اليوم بقدميك سترى زقورة مرتفعة الى الاعلى وبمدرجات صاعدة ، وعند البحث عن بناتها ستعلم ان طاغية عصره قد شيّد هذه الزقورة او تلك لغرض في نفسه يبتغي من خلاله ربما مقاتلة مافوق السماء كما يُذكر لنا قرءانيا في بناء الصروح قديما في ( ياهامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الاسباب ) او غير ذالك ( طبعا يُقال ان الزقورة كانت للعبادة ) ، او ربما انه هو هو من اراد في يوم من الايام ان يحرق ابراهيم عليه السلام خليل الرحمن ونبي الانسان والمرسل من قبل الله سبحانه وتعالى ، او هو نمروذ او غيره من طغاة ومعاندين وظلمة ، ولكن بنفس اللحظة التي ندرك فيها ان البناة كانوا طغاة وظلمة ، تذهب نفوسنا الى الاعجاب والاشادة ببناء لم يزل واقفا لاكثر من خمسة الاف عام على قدميه ، وهو يشرح لنا كيفية الحياة وصيغتها البدائية ، ثم نذهب لنهيم حبّا وولهاً بهذا العمل الذي لو حاول اي انسان منا العبث به لقامت الدنيا على راسه ولم تقعد بسبب حرمة العبث بتراث الاباء المقدسين والاجداد العظماء الفاتحين من طغاة العصور الغابرة وفراعنة ومرازبنة ذاك الزمان !.
نفس الحالة ان صعدت قليلا الى الشمال العراقي ستصادفك حضارة بابل ، واكثر الى الشمال ستصادفك الحضارة الاشورية في نينوى وغير ذالك الذي ان اردت تعداد الطغاة فيها ستتعجب من كثرتهم وقسوتهم على نفس المستوى والحساب ، ولأدركت ان وراثة الاستبداد في حكم العراق كان ذاك منشأه ، وربما من اسس للطغيان في هذه الدنيا هي تلك الحضارة الاشورية والبابلية والسومرية التي علمت الدنيا كيفية حكم الطغاة في العالم والتوسع به ، ولكن ومع ذالك لم يزل حمورابي مثلنا الاعلى ونبوخذ نصر او البخت نصر هو قائدنا الملهم ، وكذا غيره وغيره وغيره في الحضارة التي علمت العالم كيفية الزراعة وتدجين الحيوان والحرف المسماري وباقي الاشياء ، التي مرّة اراد المسعودي وصفهم فقال :(( وهم اول ملوك الارض ممن مهد الارض واحتفر الانهار وخطط الخطط وبنى العمائر ..... واول ملوكهم نمروذ الجبار ( ملوك بابل من الكلدانيين ) الذي ملك ستين سنة ))!.
وعند الخروج من الازدواجية العراقية للانسان فيها وذهابك شرقا ستصادفك حضارة وأزدواجية أهل فارس معا من كيومرث في الفرس الاولى الى ساسان دورة الحضارة الفارسية الثانية ، فالحال نفس الحال لديهم ، والازدواجية هي هي في لعن الطغاة والتبرأ منهم اليوم ونقد كل مايمت الصله لتفرعنهم وظلمهم ، ولكن بنفس الوقت تجد الاشادة باعمالهم والتغنى بانجازاتهم الحضارية وعبقرية اناملهم الذهبية وحكمة سياستهم العالمية ، وهكذا العناية الفائقة بكل حجر من ذكرياتهم الغابرة !.
وفي مصر فالمعنى اوضح من كل مثال ، فراعنة وطغاة ومستبدين ظلمة ، استعبدو الناس حتى النهاية وادعوا الالهة الى الغاية التي كان العلو فيها الى الغرابة والخيال أقرب منه للواقع والمتّصور ، وايضا مع ذالك لم يبقى لنا من ارث الاجداد والاباء لنفتخر به على الحقيقة الا اعمال الفراعنة والطواغيت ، وقبور الظالمين وربما المومسات ، وقصور الذبح والجلد والسجون والتماسيح ، وصروح التمرد والكفر والالحاد ... وباقي النقمات ، ومع ذالك هذه هي من نسميها اليوم نحن من يلعن الطغاة والظلمة والفراعنة والمستبدين ...، بالحضارة والابداع والتقنية والفن والجمال والانبهار !.
هل نحن انفسنا انفسنا من يلعن الطغاة والظلمة للتو لنعود من جديد وبعد ذالك لنشيد باعمالهم ونتغنى بذكائهم ونشكرهم كثيرا لما قاموا به من بناء للاثار خالدة ، ولما اعطوه من صورة للعالم عنّا بأننا اهل حضارة وبناء واثار وتقدم وسياسة وملك ونباهة ودهاء ؟.
أم اننا لسنا نحن عندما لعنّا الظالمين في وقت وامتدحناهم في اوقات متعددة أخرى ومغايرة ؟.
ثم ماهذه المعادلة المزدوجة لكل انسان منّا عندما يرى الاشياء بمنظارين مختلفين جدا ، منظارٌ أول يعشق العدالة ويذوب حبّا بالطهارة ، ويميل فطرة للروح والرسالات والانبياء والصالحين ......الخ ، لكنه عندما يريد ان يلتفت الى الحياة والدنيا والاثار والابنية والتاريخ فلايجد امامه سوى اعمال الفراعنة والطواغيت واثار المستبدين والظلمة شاخصة حوله ليفتخر بها في العالمين ويرى انها هويته بين البشرية والاخرين ؟!.
لماذا لم يقم اهل العدل والانصاف واهل البرّ والطهارة واهل الرسالات والفضيلة ببناء الامجاد الدنيوية والاثار الحضارية لنتخلص من ازدواجية لعن الطغاة والظلمة من جهة وحبّ افعالهم واعمالهم ومخططاتهم الطاغوتية من جهة اخرى ؟.
أم ان الموضوعة هي مركبة هكذا وبحكمة ربانية لنرى نحن أنفسنا كيف تزدوج بين الفينة والاخرى وهي تكيل بمكيالين ، مكيال المادة وحب الظلم والاستعداد للاقتداء بالفراعنة والمستبدين ، ومكيال الروح والنفور من العدل والتقليل من شأن المعنويات وعدم الالتفات للروحانيات والجماليات ؟.
من اين نشأت هذه الازدواجيات البشرية في الحقيقة ؟.
وكيف غابت في اعماق الانسان لتقسمه حسب ذوقها بين باطن يقدّس العدالة ، وظاهر يذوب احتراما للاستبداد ؟.
في الادب القرءاني الاسلامي هناك معادلة :( ظاهر الحياة وباطنها ) ويبدو ان اهل الله سبحانه والعدل والانصاف اعتنوا كثيرا بباطن الحياة الدنيا ، وكذا بباطن الانسان في روحه ونفسه وافكاره وداخله واخلاقه ، وعمّروا هذه الافاق وبنوا فيها الصلابة والاصالة والجمال والابعاد العظيمة والاهرامات المعنوية الشامخة والزقورات العالية ....، اكثر بكثير من خارجه وبناءه وتراثه وظاهره ليشيدوا الانسان من الداخل كمعلم من معالم الحضارة الانسانية ، بعكس الطغاة والظلمة والمستبدين والفراعنة الذين اهتموا كثيرا وعظيما بظاهر الحياة الدنيا ، وكذا بظاهر الانسان ايضا في ملبسه ومسكنه وادوات تجميله وطعامه وبنائه واثاره وشكله ....ليشيدوا انسانا من الخارج والظاهر لاغير مع خوائه من الداخل وهشاشة بنائها من الاساس ، ولهذا نجد ان الاتجاهين متعاكسين تماما بين اهل الحق والعدل من جهة واهل الباطل والطغيان من جانب اخر !.
او هي ربما كانت ولم تزل معادلة توازن للانسان نفسه لتكون ازدواجيته مقصودة في الخلقة والصفات ، ليستطيع الانسان ان يوازن بين كفتي المادة في الحياة الدنيا ، وبين الروح والفكر في نفس هذه الحياة ، وما الطغاة والظلمة والفراعنة والمستبدين الا لاعب في جهة ، والرسل والعدالة والروح والامال ... سوى لاعب اخر في الميدان نفسه !.
على اي حال ربما حالف التوفيق الفكرة التي يطرحها الاسلام في التخلص من أزدواجية لعن الطغاة والاشادة والتقديس لأعمالهم ، ان وضع بدلا من الاشادة بهذه الاثار والاعمال والصروح والابنية وبقايا الغابرين ، ان وضع لها عنوان (العبرة ) بحالهم والنظر الى مآلهم والبحث في حالهم ....وكيف ان الانسان ذاهب ومابناه فهو باقي ليس باعتبار انه منجز عظيم وحضارة ذكية ونباهة مابعدها حكمة ، وانما باعتبار انها بقايا تنبأ عن سرّ وماهية حب الخلود في الانسان الذي يحاول ان يبني الخلود في هذه الحياة ويتناسى خلوده الحقيقي في الاخرة !.
_______________________

alshakerr@yahoo.com