الجمعة، نوفمبر 27، 2015

(( نظرية الصراع في علم الاجتماع )) ½ حميد الشاكر

 (( نظرية الصراع في علم الاجتماع )) ½ حميد الشاكر
_________________
1
(( تمهيد ))
منذ دعوة (( اوجست كونت / 1798/ 1857)) الحديثة لصناعة ، او صياغة (( علمٍ يكون المجتمع مادة موضوعه الرئيسة  )) وحتى اليوم عُرف عن علم الاجتماع انه العلم الذي يدرس ويبحث في هيئة المجتمع القائمة على اساسيها الثابت المنتظم في سياقات  محددة من هذا المجتمع ، والمتحرك  المتغير منه ايضا  !!.
ولهذا كانت دعوة التاسيس الاجتماعية العلمية الكونتية الحديثة واضحة تماما في الرؤية ووضع القواعد العلمية للمجتمع واعتبار ان مفهومي (( الاستاتيك او الأِن ستاتيك)) اوالثابت والمتغيرهما المفهومان الاساس الذي ينطلق منهما (من دراستهما وبحث اسبابهما)علم الاجتماع في مشروعه العلمي  بالاضافة الى مفهوم ان يكون هذا العلم ( موضوعياً )  ولا يختلف في اسسه ومنطلقاته ومناهجه عن اي علم موضوعي اخر كالفيزياء  او الكيمياء او علم الميكانيكا او البيلوجي  او الجيلوجي او ....الخ !!.
بعد كونت استمر (( اميل دوركهايم 1858/ 1917 م)) في الارتقاء وتطوير مشروع علم الاجتماع  من زاوية وضع ( الاسس المنهجية العقلية) لهذا العلم واخراج علم الاجتماع من حيزه (( النظري الفكري الكونتي العام  الى حيزه المنهجي الخاص )) الذي يدرس موضوعا معينا ومحددا  للمجتمع ، الا وهو ( الظواهر الاجتماعية ) ، ثم نظرّ ( دوركهايم  بصيغة عقلية علمية اشار هو بانها صيغة مختلفة عن الصيغة الوضعية الكونتية / 1 / لهذه الظواهر وكيفية تشخيصها واقعيا وماهية مميزاتها اجتماعيا واسباب تكوينها و... ) وكل ذالك سطره دوركهايم في كتابه ، واطروحته الاجتماعية التاسيسية ( قواعد المنهج في علم الاجتماع ) !!.
على نفس السياق كان الفيلسوف البريطاني الوضعي (هربرت سبنسر 1820 / 1903 م) يحاول جاهدا ادخال (مفاهيم نظرية النشوء والارتقاء ) الى دائرة التكوين العلمي لعلم الاجتماع ( من خلال كتابه : /المدخل الى علم الاجتماع/ الذي انتقده دوركهايم في قواعده ) وليصوغ  ثم نظريته الخاصة ( الداروينية الاجتماعية ) ، لكن مع بقاء ( سبنسر) وفيا لمشروع العلم الاجتماعي وتاكيده على نقطة جوهرية في نظريته وهي( ان المجتمع الانساني جزء لايتجزأ من العالم والطبيعة المحيطة به ، وهو خاظع لقوانين التطور في حركته ووجوده واستمراره و ... كما باقي الاشياء الطبيعية والوجودية في هذه الحياة  ) !.
(ماكس فيبر 1864/ 1920 م) الالماني باعتباره ايضا من المؤسسين الرواد لعلم الاجتماع الحديث ادلى بدلوه ايضا  في اطار طرح رؤيته العلمية في هذا العلم  وتاسيس مفاهيمه الرئيسية وكانت مساهمته ( كتابه : مفاهيم اساسية في علم الاجتماع ) من المساهمات الثرية في طرح اولا : رؤية تاسيسية لمناهج علم الاجتماع الحديث مختلفة عن قواعد المنهج الدوركهايمي من جهة  وثانيا : اعتبار ان ( الفعل الاجتماعي وليس الظاهرة الاجتماعية كما عند دوركهايم ) هوالموضوع الرئيس لهذا العلم والمحور الذي ينبغي ان تدور حوله جميع الدراسات والبحوث العلمية الاجتماعية من جانب اخر !.
طبعا مساهمة فيبرالكبرى في اطار دفع علم الاجتماع خطوة الى الامام ( من وجهة نظري) ليست تاسيسه لقواعد اوابتكاره لمنطلقات جديدة لعلم الاجتماع الحديث بقدر مساهمته لاثراء ( مفاهيم علم الاجتماع ) بشكل وسع من دوائر البحث والدراسة الاجتماعية  فقد درس فيبر بشكل خاص مفهومي ( الصراع والقوة / مثلا ) باعتبارهما  احد المحركات الرئيسية في التغيرات الاجتماعية  وسلط  الاضواء على تاثير هذه القوة وفكرة الصراع  في صناعة الحدث او الفعل الاجتماعي خلقا وتغييرا و... من ثم تاسيسا للفعل الاجتماعي بشكل عام وهذا ما جعل ( فكرة الصراع ، والقوة ) مدروسة منذ البواكير التاسيسية لعلم الاجتماع الحديث !.
2
(( النظرية الصراعية ))
في خمسينات وستينات القرن العشرين المنصرم برزت (لاسيما في الولايات المتحدة  الامريكية قلعة الراسمالية الحديثة ) على السطح العلمي  الاجتماعي  نظريات كثيرة في موضوعات  علم الاجتماع ، وكانت  معظم هذه المدارس النظرية اما هي :
اولا : امتدادا واستمرارا للمشروع العلمي الوضعي ، والعقلي  لعلم الاجتماع الكونتي الدوركهايمي  الذي عرف ب( المدرسة البنائية الوظيفية ) واتخذ من ((  نظرية التوازن )) منطلقا لكل تحليلاته الاجتماعية واستمر هذا المشروع العلمي الاجتماعي في تطوره وتبلوره بشكل انضج ،حتى التاسيسات الفكرية اعالم الاجتماع الامريكي (( تالكوت بارسونز/ 1902/ 1979 م )) وما بعده !.
ثانيا: واما انها كانت مدارس اجتماعية الا انها متأثرة بالمد السياسي اليساري الشيوعي الخمسيني ، الذي اجتاحت موجته انذاك العالم ، وفرضت معادلاتها الايدلوجية وتصوراتها الاجتماعيةعلى اعتبار انها ( النظريات العلمية ) التي ينبغي ان تكون منطلقات علم الاجتماع الحديث راجعة ، وشارعة من رؤيتها وتصوراتها التاريخية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية و ... لاغير !!.
وعلى اي حال فقد اصطبغت او انقسمت المدارس الاجتماعية في الخمسينات والستينات  من ذالك القرن والى  اليوم الى مدرستيين ذات توجهين ومنهجين لكل منهما مميزاته من جهة ، الا انهما بنفس الوقت متداخلين بشكل معقد من جانب اخر وهما : 
الاولى : المدرسة البنائية الوظيفية التي تنتهج (نظرية التوازن ) في دراستها للمجتمع وسياقاته وظواهره وافعال مجموعاته المحلية والخارجية  .
الثانية:المدرسة الجدلية الصراعية التي تنتمي وتنتهج وتنطلق من التصورات لاسيما الهيجلية ، والماركسية في تحليل المجتمع ، والتاريخ والفكر الانساني وتتكئ على( نظرية الصراع  ) كاهم واقعة او فكرة محركة وصانعه للوجود الاجتماعي   !.
3
(( تداخل النظريتان التوازنية والصراعية ))
طبعا قلنا ان هذه النظريات الاجتماعية تتداخل بشكل معقد يصعب التصنيف والفصل والتمييز بينها لاسباب من اهمها :
اولا : انه عندما يذكر اويقال (نظريات الصراع في علم الاجتماع) فان معظم من كتب في مداخيل علم الاجتماع او مبادئه او اساسياته او ...  لم يشيروا او يفصلوا، او يميزوا بين (( نظريات صراع )) هي تنتمي بمنطلقاتها للمدرسة البنائية الوظيفية العلمية ، وبين (( نظريات صراع )) تنطلق من اسس فكرية وايدلوجيةتنتمي بتحليلاتها للمنطق الجدلي الفكري الهيجلي من جهة والتحليل الماركس للمجتمع من جانب اخر ، فان امثال هذه النظريات  بالحتم ستفضي الى شكل ونوع مختلف من التناولات ، والدراسات والنتائج و ... الاجتماعية التي تتناولها الصراعية البنائية الوظيفية السابقة !.
ثانيا : في تصنيفنا ، الذي نبني عليه بحثنا هذا في نظرية الصراع الاجتماعية نفرق بين ان يكون عالم الاجتماع والباحث في قضاياه وظواهره  الاجتماعية هو يتناول مفردات وظواهرالصراع الاجتماعي بل ربما يستخدم مصطلحات الصراعات الاجتماعية من قبيل (( الصراع الطبقي او الجنسي او العرقي )) داخل المجتمع لكنه يبقى في منطلقاته ، ومبادئه ومرجعيته عالمُ اجتماعٍ بنائي وظيفي ويغلّب(نظرية التوازن)في تناولاته وتحليله الاجتماعي على نظريات الصراع التهديمية اللاوظيفية لبنى المجتمع القائم !!.
فمثلا لايمكن من وجهة نظرنا تصنيف ( ماكس فيبر) باعتبار انه تاثر بافكار ماركس من جهة وتناول ظاهرة ( الصراع والقوة) كمحركات للفعل والتغيير الاجتماعي من جهة اخرى على اساس انه ( هيجلي في جدليته الاجتماعية او ماركسي الانتماء والمنطلق العلمي ) !.
وهكذا تيار المنظرين الصراعيين الخمسينيين والستينيين من القرن المنصرم من علماء الاجتماع ك (رالف داهرندورف ، ولويس كوزر و...الخ ) فمع ان  رالف داهرندوف وضع جلّ نظريته في كتابه ( الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي) على اساس نظرية الصراع ، وكذا انتقد ( داهرندورف )  التوازنية (اوعدم اهتمامها بظاهرة الصراع بشكل اساسي) كنظرية للمدرسة البنائية الوظيفية ل(تالكوت) لكن مع ذالك لايمكن اعتبار داهرندورف  بعيدا عن المدرسة الوظيفية ،  بسبب ان نظريته الاجتماعية هي ( توليفية توافقية ) بين المدرسة الصراعية ، والمدرسة البنائية ويغلب عليها مفهوم ( الصراعية الوظيفية ) اي ( توظيف الصراع من اجل التوازن والبناء الاجتماعي) ومثل هذه المفاهيم (لداهرندوف) هي من اساسيات المدرسة البنائية الوظيفية بعكس النظرية الصراعية الماركسية التي تؤمن ب (( ان ظاهرة الصراع اولا: هي لاوظيفية ، وثانيا : هدفها الاسمى تهديم بنى المجتمع القائمة وتغييرها الى بنى اخرى مختلفة )) !!.
كذالك (لويس كوزر) عالم الاجتماع الامريكي المعروف الذي ((فكك مفاهيم الصراع فكريا )) واجهد نفسه في فهم تقسيمات ومكامن الصراع الاجتماعي ودوافعه واسبابه  الا انه مع ذالك لايمكن تصنيف (كوزر) الا على اساس انه عالم اجتماع ينتمي للمدرسة الوظيفية البنائية و لنفس السبب مع داهرندورف فان كوزر لم يدرس ظاهرة الصراع الا من خلال وظائف الصراع الايجابية في البناء الاجتماعي والاستمرار والتقدم في بنى المجتمع وليس تهديمها !!.
.... يتبع                                      
__________
1 : راجع مقدمة دوركهايم الاولى لكتابه ( قواعد المنهج ) ترجمة محمود قاسم و السيد البدوي / دار المعرفة الجامعية / اسكندريه / 1988 / وتاكيده على مذهبه العقلي العلمي المحتلف عن مذهب (كونت وسبنسر ) الوضعي             


الأربعاء، نوفمبر 25، 2015

(( اردوغان بدلا من صدام لحروب الوكالة الصهيونية )) حميد الشاكر

 لم يزل العالم بصورة  عامة  والعرب والمسلمون بصورة خاصة  يذكرون حروب (صدام حسين) العبثية  بذاكرة طرية في اذهانهم  ولم تزل الحروب الصدامية ماثلة بكل ابعادها السياسية ، وكيف انها بدأت :
اولا : بفكرة (حروب الوكالة ) التي قادها صدام حسين ضد جمهورية ايران الاسلامية خدمةً للولايات المتحدة ، وحماية لبترول الخليح ، وبدعم سعودي طائفي بائن للعيان من جهة، ومن الجهة الاخرى لتغيير بيادق العداء القومي العربي من العداء للصهيونية اليهودية المحتلة لاراضي العرب ، والمسلمين في فلسطين ، واعتباره العدو الاوحد ، الى العداء لايران المجوسية والشيعة الصفوية في العالم !!.
 وثانيا : كذالك لم تزل ذاكرة العالم حاضرة لحرب صدام حسين مع الكويت التي جاءت على انقاض حرب صدام مع ايران ، وارتداداتها العكسية عندما شعر صدام  بكمية ( الحقارة والوضاعة ) التي انخرط فيها عندما اعتقد انه يمكن من خلال ( تقديمه للخدمات وحروب الوكالة )  للصهيونية او حليفتها الولايات المتحدة او ذيول الولايات المتحدة في المنطقة كالسعودية الوهابية وغيرها اعتقد انه سيكون معادلة مهمة في المنطقة والعالم !!.
ذهب صدام حسين خائبا بكل حروبه ومغامراته الطائشة ولم يبقى منها حتى اليوم الا خراب العراق ودمار عمرانه وتخلف انسانه وفوضى مجتمعه ، و ..الخ  باقي العبر والعظات على المستوى القومي العربي والاسلامي وحتى العالمي !!.
لكن يبدو ومع ان العبرة والعظة الصدامية كبيرة جدا بالنسبة للعالم وعقلائه يبدو ان ذاكرة الرئيس التركي(اردوغان) التركية الطورانية ورئيس وزرائه (اوغلو) قصيرة الى حد انها تناست او تحاول ان تتناسى او ربما بالفعل هي ذاكرة خشبية بحيث انها لم تستوعب بعد  العبرة الصدامية التي كانت امامها لتتهيئ للقيام بنفس الدور الذي لعبه صدام حسين في حروب النيابة والوكالة عن المصالح الغربية !!.
اردوغان من خلال انخراطه بمشروع الفوضى الخلاقة التي تقوده الولايات المتحدة ، واسرائيل ، وحليفهما الوهابي السعودي ، لضرب استقرار العرب والمسلمين وتفتيت قواهم ، ووجودهم الاجتماعي ، والسياسي من خلال دعم الارهاب وصناعة خلاياه وتياراته (القاعدة/ النصرة /داعش / جيش الاسلام والصحابة و ....الخ )) في المنطقة بدا واضحا ان اردوغان ورئيس وزرائه اوغلوا(وبالمحصلةحكم الاخوان لتركيا) لاسيما بعدتصديهما للحلف الروسي المناهض للارهاب واسقاط طائرة روسية لجس نبض الروس عن قرب بدا واضحا ان اردوغان واوغلوا عزما امرهما  ليقوما بدور ووظيفة (( الوكيل والراعي والنائب و... لهذه الحرب المدمرة )) التي تبدأ اولا بتدمير المنطقة العربية والاسلامية وتستنفدكل مواردها وطاقاتها الحيوية قبل ان ترتد لتدمر تركيا ، واردوغان واوغلوا  وحزبهما الاخواني الطوراني الرهيب في نهاية المطاف  !.
نعم (( اردوغان )) بعد ان وجد نفسه قد افلس فعلا من كل تطلعاته العثمانية الامبراطورية المقبورة التي كان يمني بهانفسه لزعامة العالم الاسلامي ككل وبعد ان وصل الى مرحلة اليقين بان تركيته بقيادة الاخوان الاتراك لايمكن لها ان تاخذ دورا قياديا في المنطقة ، والعالم اكثر مما تعطيه اياه ، او يسمح به حلف الناتو الراعي والحامي لتركيا اردوغان ، وبعد ان حدد الاصطغاف الايراني الروسي المعلن  و( الايراني الروسي الصيني ) المضمر مسارات المنطقة ومآلات الارهاب فيها ونهاية مشروع الفوضى الخلاقة و ...... بعد كل ذالك وجد اردوغان نفسه موضوعا في حجمه الطبيعي تماما وهو تقديم خدمات حروب الوكالة للسيد الاستعماري الغربي ، والامريكي والصهيوني لاغير !!.

انها قوانين السياسةعندما يتطلع اي(ذيل) للقوى الغربية والاستعمارية لقيادة هذه الامة او هذه المنطقة وهولا يملك حتى استقلال قراره السياسي السيادي الخارجي والداخلي عندئذ سيجد نفسه(هذاالذيل الحالم بقيادة الامة ) مضطرا للقيام بوظيفة العبد المقدم للخدمات لاغير  على امل منه ان يجعله سيده في يوم من الايام سيدا مثله !!.                 

الأربعاء، نوفمبر 11، 2015

(( تناولات علي الوردي السوفسطائية للفلسفة ومنطقها الارسطي )) 2/2 حميد الشاكر


 
 

 

من طبائع الدكتور علي الوردي الفكرية  في معظم مؤلفاته الثقافية تقريبا هي  انه  عندما يريد ان يناقش او يبحث اي فكرة فلسفية او مفردة علمية بصورة نقدية ، ولاسيما تلك التصورات والافكار ، التي تنتمي لعالم الفلسفة ومشروعها الارسطي الاسلامي ، فانه لايذهب ليناقش (( الادلة والبراهين العقلية )) لتلك التصورات  ومبانيها الفكرية واساساتها المنهجية  كما تطرحه تلك المدارس الفلسفية وقادتها على التعيين ومن ثم ليفند افكارها من القواعد وبصورة منهجية علمية .

بل يكتفي ( الدكتور الوردي )  بان :

اولا : يطرح فكرة عامة او مفردة من مفرداتها  ليتكئ على عموميتها وسطحها الخارجي  .

ثانيا : ينتقد من خلال هذا السطح الخارجي افكارا ، او تصورات طرحت هنا وهناك تاريخيا في ساحة الفكر الفلسفي .
ثالثا : بعد ذالك يفتح  موضوعات  اُخرى (( كامثلة تطبيقية واقعية تاريخية او اجتماعية )) مختلفة تماما عن موضوع الفلسفة وادلتها العقلية  ليناقشها ( يناقش هذه الامثلة )  ويبحثها (تحت بند) مناقشة المنطق الارسطي وفشله ونتائجه وانعكاساته السيئة اخيرا !!.
على سبيل المثال والنموذج  : عندما يتناول الدكتور علي الوردي موضوع المنطق الفلسفي الارسطي الاسلامي الاول وهو (( الاستنباط = القياس )) في كتابه (( منطق ابن خلدون / القسم الاول : خصائص المنطق القديم / امثلة واقعية 1 )) فانه لايذهب ليشرح لقرائه الآتي من المحاور والمقدمات الضرورية قبل النقد ك :
اولا : ماهية هذا المنطق الاستنباطي تاريخيا وتطوراته الفكرية ، والبنيوية حتى العصر الحديث في المدرسة الفلسفية الارسطية الاسلامية بدقة وعمق .
ثانيا : ادلة الفلاسفة الارسطيين الاسلاميين العقلية على هذا المنطق من جهة ، وماهية الاساسات العقلية التي تفرض عليهم  تبني (( المنطق الاستنباطي )) في اساليبهم الفكرية من جانب اخر !!.
ثالثا : تنوع الاستنباطات الفلسفية المنطقية الارسطية وتقسيمها الى منطق ((  استنباطي واخر استقرائي ))
رابعا : لماذية ترجيح  ، وانتخاب المنطق ( الاستنباطي ) عند الفلاسفة ، وجعله في رتبة القيادة ،  او التكامل للمنطق ( الاستقرائي التجريبي العلمي ) في اساليبهم الفكرية  مع ذكر ادلة كل منطق ( استباطي ، واستقرائي ) وما يتميز به عن الاخر ومكامن الضعف او القوة في براهين كلا المنطقين  .
خامسا: ومن ثم تفنيد هذه الادلة العقلية للمنطق الاستنباطي القياسي الكلي وذكر الادلة العلمية التي يؤمن بها الوردي لتثبت خرافية وعاجية وخزعبلائية و ... ( المصطلحات للدكتور الوردي  وهو يصف المنطق الاستنباطي  الارسطي ) ليحل محلها الادلة التي ترّشح ((المنطق الاستقرائي / او المنطق الهيجلي كمتبنى للدكتور الوردي)) العلمي  التجريبي الحسي المادي فقط  على انه المنطق الوحيد المؤهل للاحترام وللانتاج الانساني العلمي المثمر !!.
هل قام الدكتورعلي الوردي وهو يناقش مشروع الفلسفة ومنطقها الارسطي في كل مؤلفاته التي تناولت الفلسفة بهذه الخطوات (المنهجية العلمية) لدراسة اي فكرة فضلا عن دراسة الفلسفة ومنطقها الارسطي قبل ان يطرح نقده العنيف لهذه الفلسفة ومشروعها الفكري الواسع والعميق ؟.
ام انه اكتفى باعتماد العموميات الفكرية للفلسفة ومنطقها لاغير ؟!.
مع الاسف لم يقم الوردي بانتهاج المنهج العلمي في نقد الافكارالفلسفية او المنطقية الارسطية الاسلامية وربما بسبب عدم اختصاصه بالفكر الفلسفي  اكتفى  بطرح السطح الخارجي للافكار الفلسفية  ومن ثم ليكتب ( مثلا ) حول المنطق الاستنباطي في مقدمة الفصل الذي تناول فيه الاستنباط هاتين الجملتين فحسب :
(( انه منطق يقوم على دعامتين : مادية وصورية )) ، ثم بعد هذا يصل  الوردي الى نتيجة :
(( ان  المنطق الاستنباطي يهتم بالجانب الصوري على الجانب المادي  فحسب )) 2 .
طبعا ليس هناك فيلسوف ارسطي معترف به وينتمي لهذه المدرسة في التاريخ وحتى الوقت الحاضر اعلن : انه ينبغي الاهتمام في المنطق الاستنباطي بالجانب الصوري واهمال الجانب المادي ، ولو كان لذكره لنا الدكتور الوردي كمصدر يدعم رؤية الوردي هذه لكنه اجتهاد من قبل بعض المدارس الفكرية الحديثة لاسيما منها المادية المعاصرة كانت ترى :(ان هناك اهتماما من قبل الفلاسفة الارسطيين  الكلاسيكيين بالجانب الصوري للمنطق الارسطي على الجانب المادي ثم يبنون  رؤيتهم النقدية  على هذا الاستنتاج الشخصي وكفى ) !.
اما ماهوالدليل  التاريخي ،او المعاصرالذي ( دونه اي فيلسوف ارسطي في التاريخ اليوناني القديم والاسلامي الوسيط والمعاصر ) يؤكد او يحث على اهتمام هذا المنطق الاستنباطي بالصورية على المادية ؟!!.
او بمعنى اخر ما الدليل الفلسفي الذي اشار اليه الفلاسفة الارسطيين في تقديم الصورية على المادية ، ومن ثم  يعتمد وينطلق منه الدكتورالوردي وغيره  ليدين  المنطق الارسطي بالاهتمام بالصورية على المادية في هذا المنطق ؟.
يجيبنا الدكتور الوردي بان الدليل هو وباوضح تطبيق منطقي استنباطي ارسطي ، وكما اشار اليه في نفس الفصل من كتاب ( منطق ابن خلدون ) : هو (( الهندسة حيث يهتم المهندسون بالشكل المخروطي او الدائري او.... ، ولا يبالون في المادة ان كانت حجرا او حديدا او نحاسا او ... )) !!. 3 .
ما علاقة الفلاسفة ومنطقهم الارسطي بالهندسة ؟.
سؤال نجد انفسنا مرغمين على طرحه امام هذا المنهج في التناول للدكتور الوردي ؟!.
ومتى كانت الهندسة احد (( المتحدثين الرسميين )) عن الفلسفة ومنطقها الارسطي حتى يكون عملها دليلا على ادانة الفلسفة واثبات جرم انها تنحاز للصورية على المادية في منطقها الاستنباطي ؟.
ولو فرضنا ان نجاح المنطق الارسطي في الهندسة ، والرياضيات كان صوريا ، ومهتما بالجانب النظري على الجانب المادي التطبيقي ( بسبب طبيعة علم الهندسة والرياضيات وميلهما للنظري على التطبيقي )  فما علاقة الفلاسفة الذي جلهم وكبارهم اما مشتغل بالطبيعيات المادية او الكيميائية او الطبية او ..... الخ ، وقد اتهموا من الجانب الاخر بانكار الروحانيات والمعنويات لمنهجهم العقلي و ... ما علاقة الفلاسفة بان يتهموا بالغلو بالصورية وابتعادهم عن التطبيق والمادية  لمجرد ان الهندسة تهتم بالشكل الهرمي او المخروطي على مادة البناء ان كانت من حجر او معدن او باقي المواد ؟!!.
هذا هو مع الاسف ( المنهج ) الذي يستخدمه الدكتور علي الوردي في بحث ومناقشة معظم الافكارالفلسفية الارسطية الاسلامية والتي يتهم من خلالها الكندي والفارابي والرازي وابن سينا ومسكويه وابن طفيل وابن رشد و.. بالصورية والقشرية والعاجية و .... الى ماهنالك !!.

 

ثانيا : تطبيقات المنهج العملية

اما اذاما رجعنا الى بحث ودراسة (الامثلة التطبيقية) التي يعتمد عليها الدكتورالوردي كبراهين وادلة تثبت ان المنطق الاستنباطي الارسطي الاسلامي هو كان  ولم يزل صوريا وليس ماديا فاننا سنصل  لبحث الامثلة التطبيقية التي ساقها الدكتور الوردي في فصله لنقد  المنطق الاستنباطي وهي امثلة متنوعة من حكايات تاريخية من قبيل :

اولا : طريف ما يذكر حول جماعة من المفكرين الاوربيين كانوا يتجادلون حول اسنان الحصان (قياسيا استبناطيا ) كم هي  لايام متطاولة بدون ان يكلف نفسه احدهم للقيام الى الفرس الذي بجانبهم وعد اسنانه مباشرة ( استقرائيا ماديا ) . 4

ثانيا : ما ذكره الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية حول مسالة عقد الخلافة لرجلين وموقف الفقه النظري  من ذالك . 5. و .....الخ .

الحقيقة ان الماوردي فقيه سلطاني والجماعة الاوربيين ونقاشهم البيزنطي القريب من السفسطة الجدلية منه للفلسفة ومنطقها العقلي نادرة للطرفة فما علاقة الفلاسفة واتهامهم بالصورية بمنطق هذه الامثلة التي لاتمت بصلة لا للفلسفة وقادتها ومفكريها ومنظريها ، ولا للمنطق وحججه وبراهينه وادلته العقلية !!؟.
ولربما (على سبيل الفرضية ) كان الماوردي مستعملا او مستخدما او منتهجا للاقيسة المنطقية الارسطية في عمليات استنباطه للاحكام السلطانية الفقهية ، وثم هو يميل للجانب النظري الصوري في اجتهاده وفقهه على الجانب التطبيقي الاجتماعي المادي ، ولكن مع ذالك هل يصلح هذا( المنطق  او المنهج في التناول ) بالاحتجاج على المنطق الارسطي وعملية استنباطه من منطلق ان الماوردي استخدمه استخداما سيئا وبغض النظرعن نقطة ان الماوردي ليس فيلسوفا من اصله ولا يمكن ان ننسبه لمدرسة الفلاسفة الارسطيين من اساسه ؟!!.
________________________
 
ثالثا : المنطق من وجهة نظر علي الوردي .
نعم طرح الدكتورالوردي في محور(مبادئ المنطق الارسطي)  خطوط ومبادئ عامة ( بدون ذكر لادلة الفلاسفة ) لهذا المنطق بالقول :
(( من دراستي للمنطق الارسطي استطيع ان استنتج ان له ثلاث مبادئ اساسية :
1 : مبدأ العقلانية .
2 : مبدأ السببية .
3 : مبدأ الماهية . )) 6 .
ثم شرع الدكتور الوردي بشرح هذه المبادئ الثلاثة بالاتي :
اولا : ان الفلاسفة يؤمنون بطريقين للمعرفة الحس والعقل  وان العقل البشري يمتلك المقدرة على اكتشاف الحقيقة .
ثانيا : مبدأ السببية حيث يؤمن الفلاسفة بان جميع حوادث الكون خاضعة لقانون السببية او قانون العليّة .
ثالثا : قانون الماهية ( ثبات الماهية وتغير المادة ) والمتمثل بقانون عدم التناقض . 7 .
ثم يبدأ المرحوم الوردي بنقض هذه المبادئ الثلاثة ب : (( ان العقلانية مشكلتها انها يقينية وتغلب مبادئ العقل على التجربة والحس، اما السببية فان ( المنطق الحديث ليهيجل ) اثبت ان مبدأ السببية ليس علميا وان الصراع والتناقض هو المبدأ العلمي وليس السببية ، واما الماهية ،   فعلى نفس رؤية هيجل فانه لاحقائق ولا ماهيات ثابتة وغير متغيرة وعلى هذا الاساس تهدم كل اسس المنطق الارسطي / نقلنا راي الدكتور بتصرف غير مخل بالفكرة )) .
طبعا اذا اردنا ان نبحث ، ونناقش ما طرحه الدكتور علي الوردي مفردة مفردة بهذا الاطار فسيطول المقام لكن لانعدم الاختصار لنشير الى :
اولا : طرح الدكتور فصله الاول لمناقسة ( خصائص المنطق القديم = الاستنباط )  واشار الى خصيصتين ( الصورية والمادية) لهذا النوع من الاستنباط ، لكنه سرعان ما تحول ليبحث في (مبادئ المنطق الارسطي) بصورةعامة وشاملة والاختلاف بين المحورين اختلافا واسعا فالاول محور مقنن ومحصورومقيد ب(الاستنباط وعملياته ومناهجه) والثاني محور مفتوح ( مبادئ المنطق الارسطي ) على كل الفلسفة العقلية بما في ذالك مناهجها واساليبها الفكرية .
ثانيا : ذكر الدكتورعلي ( جزاه الله خيرا ) انه يطرح دراسته الشخصية لهذا المنطق  ويناقش ويتناول ويبحث المبادئ التي استنتجها وفهمها هو من هذا المنطق الارسطي وهي ثلاثة كما اشار، لكن كان الاكثرمنهجية علمية هوان يطرح بحث  ورؤية الفلاسفة انفسهم اولا لمبادئ المنطق الارسطي ، وثانيا يطرح ادلتهم ، وبراهينهم وحججهم على مبادئ المنطق الارسطي هذا ، ثم بعد ذالك يطرح دراسته ،  واستنتاجه ورؤيته الشخصية لهذا المنطق ، ولا   يكتفي الدكتور الوردي بطرح رؤيته ونقده الشخصي للمنطق ويعتبر ذالك دليلا على عوار مناهج المنطق الارسطي في التفكير !.
ثالثا : عندما ذكر  الوردي رؤية المناطقة للمعرفة الانسانية ، فانه ذكر بالحرف (( فقد كان الفلاسفة يعتقدون ان هناك طريقين للمعرفة لاثالث لهما هما الحسّ والعقل / 8 )) ، وهذه بالفعل هي مصادر المعرفة الانسانية للفلاسفة واختلفوا مع السوفسطائية القديمة في مبدأ المعرفة هذا قديما ، كما بيناه في القسم الاول من هذه التناولات ، واختلفوا ايضا مع المدارس الحديثة ، لاسيما منها المادية الماركسية في موضوعة ( ان المادية تؤمن بالحس، والمادة التجريبية كمصدر وحيد للمعرفة الانسانية / 9 / ) بينما يرى الفلاسفة الارسطيين ( ان التجربة والمادة والحس هي بحاجة للعقل كي تتم المعرفة العلمية والفلسفية للعالم وللانسان ) !!.
لكن الدكتور الوردي ومع انه يذكر (( الحس والتجربة والمادة ))على اساس انها من ضمن المعارف العلمية للفلاسفة ومنطقهم الارسطي ، لكن مع ذالك يهاجم الفلاسفة ، ومنطقهم بشراسة على اساس انهم عقليون لاماديين وصوريون لاتجريبيين علميين وعاجيون لا واقعيين و ...الخ !!.
مع ان التاريخ الفلسفي اليوناني  والاسلامي القديم والحديث يبرهن على ان علماء التجريب والعلم ومنطق الاستقراء هم كانوا فلاسفة ارسطيين في الحضارتين اليونانية ( ارسطو = عالم طبيعة ) والعربية الاسلامية ( ابن سينا طب ابن طفيل طب كيمياء طبيعة ...الخ ) فيما بعد لاغير !!.
رابعا : يعتمد اعتماد كلّي الدكتور علي الوردي وتقريبا في معظم مؤلفاته ( كما هو مذكور ايضا في كتاب مهزلة العقل البشري) على ما طرحه (هيجل ) من منطق جدلي ( تحول من ثم الى مادية جدليةعلى يد الماركسية بعده) حاول هيجل من خلال طرحه لهذا المنطق ان يكون في مواجهة ( المنطق الكلاسيكي ) ، الذي طرحه الفلاسفة بمدرستهم المنطقية الارسطية من جهة ، وحاول ايضا ان يتخلص من خلاله من مبدأ  ( العلية الفلسفية ) في فكرة ان للعالم علّة ايجاد من خارجه !!.
ومن هنا طرح هيجل (منطق الصراع الداخلي) للمادة باعتباران المادة مهيئة ذاتيا لعنصر تطورها (هذا المنطق قريب لما طرحته فلسفة صدر المتألهين الشيرازي للحركة الجوهرية )، وخلقها من الداخل ولا حاجة بعدئذ لفكرة البحث عن العلة الخارجية للعالم ، وعلى هذا الاساس تبنت المادية ( وجودية سارترية نفعية جيمسية ) ، بكافة اشكالها وصورها لاسيما الماركسية ( المنطق الهيجلي ) القائم على فكرة الصراع والتناقض !!.
والحقيقة ان الدكتور الوردي كان منتميا بقوة للمنطق الجدلي الهيجلي ، وهوالمنطق الذي ينطلق منه الدكتور الوردي في معظم تحليلاته ورؤاه الاجتماعية والعلمية ، ومن حق الدكتور الوردي ان يختار وينتخب المنطق الذي يراه مناسبا لتحليلاته الفكرية والاجتماعية طبعا !.
ولكن ما نختلف فيه مع الدكتور الوردي بهذا الصدد امران :
الاول : هو ان يطلق الدكتورالوردي على منطق فلسفي ايدلوجي الا وهو المنطق الهيجلي مسمى ومصطلح ( المنطق العلمي ) وحصر هذا المسمى بهذا المنطق بالذات !!.
فهنا نحن امام اشكالين  من جهة هو الخلط بين ماهو فلسفي ايدلوجي وبين ماهو علمي تجريبي ومن جهة اخرى هو اختصار مسمى العلمية فقط على منطق تفكير انساني لا يختلف في اهدافه عن المنطق الاخرالارسطي العقلي !!.
ثانيا : هو لو سلمنا ان الدكتور الوردي يحاول طرح المنطق الجدلي الهيجلي بدلا عن المنطق الارسطي الفلسفي لكن لم نجد مؤلفا او فصلا مستقلا لمنطق الدكتور الوردي مكتوبا وشارحا وطارحا لهذا المنطق الهيجلي وماهية اختلافاته المبدئية عن المنطق الارسطي الاسلامي حتى يدرك قارئ الوردي ماهية هذا المنطق الجديد ،  والعلمي الذي يدعو له الدكتور الوردي وينادي باحلاله مكان المنطق الارسطي الاسلامي ليكون اسلوب تفكيرنا الحديث ؟!!.
بمعنى اخر : هو هل يكفي علميا منهجيا ان ندعوا للمنطق الهيجلي الجدلي  الذي اسست عليه جميع المدارس المادية الحديثة لاسيما الماركسية منها ونرشحه ان يكون منطقنا في التفكير الحديث ، وندعو من جانب اخر للاطاحة بالمنطق الارسطي الاسلامي العاجي والخرافي هل يكفي بعد ذالك ان نطرح ( اربعة اسطر ) في ذكر المنطق الهيجلي كما ورد في جميع مؤلفات الوردي المطبوعة ، ثم بعد ذالك نعتبر اننا دعونا فعلا لمنهج ، ومنطق علمي لايشق له غبار ونتهم عقل البشرية كله بالمهزلة كما اسمى الدكتور الوردي احد مؤلفاته ب ( مهزلة العقل البشري )) ؟!.
بمعنى اخر ان الدكتورالوردي دائم الذكروالتمجيد للمنطق الهيجلي في مؤلفاته وكتبه وربما اذا احتاج الدكتور الوردي للمقارنه بين منطقين او ارجاع كل تخلفنا العربي والاسلامي الفكري والعلمي والاجتماعي والتربوي و..... فانه يطرح سبب مأساتنا في المنطق الارسطي وهيمنته على اساليب تفكيرنا الصورية والعاجية كما يطرح دائما ايضا سبب نجاتنا في الايمان بالمنطق الهيجلي ولكن ومع اهمية ذالك القصوى بالنسبة للوردي لم نقرأ ولا مقالا واحدا فضلا عن مؤلف او نظرية متكاملة يطرحها الوردي ،  ليشرح لنا نحن قراءه والمدافعين عن افكاره بحرارة ماهية هذا المنطق وماهية اصوله ومبادئه  وما الذي يريد هيجل ان يطرحه عندما طرح منطقه ، وما تعريف مصطلح الصراع والتناقض وماهي الادلة العقلية او العلمية عليه و ....الخ ؟!.  
الفلاسفة الارسطيون المعاصرون ك(الصدرفي فلسفتنا مثلاومطهري في اسس الفلسفة والمذهب الواقعي والطبطبائي و..الخ ) تناولوا المنطق الهيجلي شرحا وبحثا ونقدا ونقضا و ....الخ بكل مفرداته ودقائقه وتبين واضحا نقاط الضعف العقلية والعلمية لهذا المنطق الهيجلي الحديث وفي المقابل طرحوا وشرحوا( الفلاسفة الارسطيين ) المنطق الارسطي ووضحوا ادلة القياس ، والاستقراء العقلية  وطرح ( الصدر باقر ) نظرية ثالثة لمنطق الاحتمالات في كتابه ( الاسس المنطقية للاستقراء ) !!.
السؤال هو ان الدكتور الوردي عاصر بفكره ووجوده كل ما طرحته المدرسة الفلسفية الارسطية العراقية والاسلامية الحديثة ، ( كتب الدكتور الوردي مهزلة العقل البشري في 1957م وطرح الصدر فلسفتنا في 1959 م ) ، فلاي سبب عزف الدكتور الوردي عن طرح منطقه الهيجلي الذي يؤمن به ،  والدفاع عنه اولا ، وثانيا لماذا لم يشرح لنا الدكتور الوردي هذا المنطق بمؤلف مستقل واكتفى بسطرين يتيمين عن المنطق الهيجلي هنا وهناك لاغير ؟!!.
خامسا : يطرح الدكتورعلي نقده للعقلية الفلسفية انها عقلية تؤمن بوجود يقينيات مطلقة اولا وانها تؤمن بمبدأ العلية والسببية الخارجية ثانيا ، وانها ماهوية وتعتقد بان ماهيات الماديات ثابتة بينما ظواهرها متغيرة ومتطورة لاغير !.
والحقيقة ان قضية اليقينيات العقلية او العلمية او الدينية او ... لا تؤمن بها فقط المدرسة الفلسفية الارسطية ومنطقها الاستنباطي فحسب بل ان هيجل نفسه ومن ثم المادية الماركسية كذالك تطرح اليقينيات المطلقة على افكارها المنطقية والتحليلية والاجتماعية وغير ذالك ، ففكرة (الصراع والتناقضات المادية ، والاجتماعية ) طرحت كفكرة يقينية مطلقة وعلمية ولاتشوبها شائبة شك او نسبية في المدارس الهيجلية والماركسية معا ؟!!.
هو هو الدكتور علي الوردي عندما يتحدث عن المنطق الهيجلي ( الصراع والتناقض = ديالكتيك ) الم يعتبره المنطق العلمي الحديث ، الذي يصلح لكل زمان ومكان ، ومن ثم يدافع بكل قوة  لانتهاج هذا المنطق ، واعتباره نهاية التاريخ والانسان ؟!.
هكذا يقال بكل الفكر الذي طرح باسم العلمية والتطور من الصراع الطبقي الى الحتمية التاريخية الى ... غير ذالك من افكار وتصورات هي اساسها فلسفي عقلي ولا تخضع الى اي عملية تجريبية مختبرية كالمنطق الهيجلي وغيره !.
فعلام هذا التعيير للمنطق الارسطي الفلسفي باليقينة، وبغض النظرعن مناقشة ادلة هذه اليقينية العقلية الآن وان هذه اليقينية هي احد مرتكزات العقل البشري السوي في العقليات العلمية كلها  !.
اما مبدأ السببية فهو مبدأ من الفطرية والعقلية بحيث انه لاينكره (حسب ما طرحه الصدر في فلسفتنا) حتى الحيوانات الغير عاقلة ،واذا كانت لدينا فكرة او منطق هيجلي يحاول الاطاحة بهذا المبدأ فليقدم حججه العلمية التجريبية والعقلية الفلسفية لنقض هذا المبدأ الذي يقوم عليه كل العلم البشري المعاصر !!.
وغريب ان يطرح منطقٌ يسمي نفسه علميا تجريبيا(المنطق الهيجلي) منهجا واسلوبا في التفكير يحاول اول ما يحاول ان يهدم قانون العلية من الكون والعالم والحياة و ....  لا لشيئ الا فرارامن فكرة اوقانون (ان العالم يجب ان يكون له موجدا وخالقا هو ليس من سنخ وصنف هذا العالم المادي ) !!.
وحتى ان كان هذا المنطق ( منطق هيجل ) يهتم بالماديات اكثرمن اهتمامه بالنظريات والصوريات  فهذا لايكفي مبررا ان نتناقض مع بديهياتنا العقلية لنوفر على انفسنا الالتفات للعلم التجريبي ومناهجه ، فكل الفلاسفة العقليون  يؤمنون بالتفكير العلمي والتجريبي ، بل الفلاسفة الارسطيون هم من بنى التفكيرالتجريبي اليوناني  والاسلامي ولم يطرح في يوم من الايام الفكر الفلسفي الارسطي ضرورة مناهضة  التفكير العلمي التجريبي ، حتى تضطرنا الحاجة  للبحث عن منطق اخر يوفر لنا التفكير العلمي المفقود  !.
يبقى فيما طرحه الوردي من مبادئ للمنطق الارسطي محور ((الماهية وثباتها)) وهذا موضوع انصح قرائنا بمراجعة ما طرحه الفيلسوف الايراني مطهري في ((اسس الفلسفة والمذهب الواقعي )) حول الماهية والمادة ، فان فيه توسعة وشرح مفصل لكل مفردات الموضوع (هيجليا وماديا ماركسيا وارسطيا عقليا اسلاميا) لكن ما اشار له الوردي اشارة عابرة هو (( ان كل شيئ متطور في هذه الحياة )) حسب ما طرحه هيجل في  منطقه (( الصراع  والتناقض )) في كل شيئ !.
وهو طرح مفاده هيجليا : ان عملية التطوروالحركة بما انها حركة (( تناقضية ))  تستمد تفاعلاتها من الداخل المادي للاشياء فعلى هذا الاساس فان ماهية الشيئ وهويته المعنوية ايضا تتاثربمتغيرمادياتهاالخارجية وهنا لاحساب للماهية ثابت مختلف عن حساب المادية الظاهرية للعالم وللانسان في تغيراتها !.
بمعنى مادي ماركسي حديث في نظرية المعرفة: ان هناك (جدلية بين الواقع المادي وفكر الانسان ووعيه) ومتى تغير الواقع المادي تفاعل الذهن الانساني في افكاره ومنطقه و ثوابته و.. كانعكاس جدلي بين المادي ومفاهيم الانسان نحو الحياة ، وما الماهية وثباتها الا فكرة ذهنية تتغير بتغير الواقع الخارجي لاغير !!.
اختلف الفلاسفة الارسطيون قدمائهم ومحدثوهم بهذه النقطة وميزو بين ماهية تعتبر ( العنوان الاصيل )  للشيئ وبين (مادية ظاهرية ) بطبيعتها قابلة للتطور والتغيير ، فالماء / مثلا / ماهيته وهويته التي يتركب منها ماديا هي انه مكون من عنصرين اساسيين هما الاوكسجين والهيدروجين ،وهذه الماهوية هي ثابته ولايمكن ايجاد مادة الماء بدون هذين العنصرين  اما الماء نفسه فهو مادة قابلة للتغير خارجيا من سائلة الى جامدة والى متبخرة وهذا احد المعاني التقريبية بين قصدية ثبات الماهية في الفكر الفلسفي وتغير المادية !!.
ثم ميزالفلاسفة الارسطيون كخطوة اخرى على طريق المفاهيم الانسانية المنطقية بين ثلاث مستويات للافكار مستوى ماهوي ومستوى مادي ومستوى اعتباري ، وسلطوا الضوء ((كمثال)) على ان للمجتمع ثلاث مستويات من المفاهيم الفكرية المستوى الثابت لمفهوم المجتمع (المجتمع هو المجتمع الانساني بهويته لايتغير عنوانه) والمستوى المادي المتغيروالمتطور ( مجتمع مدني مجتمع قبلي مجتمع اقتصادي صناعي مجتمع زراعي مجتمع بدائي مجتمع تكنلوجي و.... حسب تطورات المجتمع وتقلباته الخارجية ) والمستوى الاعتباري ( الملكية ، نظام السلطة والحكم  نظام العرف الاجتماعي هذا حسن اجتماعيا هذا قبيح ، المعايير الاخلاقية و... ) واعتبر الفلاسفة ان الاعتباريات مفاهيم اجتماعية يخلقها ويصنعها كل مجتمع حسب متطلباته  وليس لها اي حقائق مادية او ماهوية وهي تختلف من مجتمع الى اخر !.
هذا ما طرحته المدرسة الفلسفية بالعموم ولكل محور ادلته وبراهينه العقلية والعلمية في هذا الاطار .
سادسا : يبدو لي ان الدكتور  الوردي عندما حاول نقد الفلسفة الارسطية الاسلامية في معظم مؤلفاته ، وبغض النظر عن انه نقد وتناول لايرتقي لمستوى المنهجية العلمية ، الا انه ( هكذا استشف من طرح الوردي شخصيا ) كان يعتقد ان الفلسفة مشروع تاريخي لاغير  وانه توقف ومات عند التاريخ ، ولهذا ينبغي التخلص من تراثه وارثه الفكري بلا رجعة !!.
اسباب قناعاتي هذه مبررة ، ومن اهم دوافعها ان الوردي لم يتناول اي طرح فلسفي ارسطي حديث ليبحثه او ليناقشه من منطلق مناقشة ، وبحث المدرسة الارسطية الاسلامية بكل تطوراتها الفكرية حتى العصر الحديث ، ولهذا هو يذكر ابن طفيل وبعض من ارائه ويذكر ابن رشد و ........ هكذا مجموعة تاريخية من فلاسفة الحضارة العربية والاسلامية ويتناول ليس طبعا براهينهم ،  او ادلتهم الفلسفية وانما ارائهم الفكرية في هذا الموضوع الفكري او ذاك ثم يبني نقده للفلسفة على هذا الاساس والمنهج !!.
لم يناقش الوردي ( مثلا ) زكي نجيب محمود ولا مرتضى مطهري ولا محمد حسين الطباطبائي ولا محمد باقر الصدر و ...الخ ،من المعاصرين للدكتور الوردي والمنتمين بنفس الوقت للمدرسة الفلسفية الارسطية الاسلامية ، ولم يتناول حتى المنطق الارسطي من خلال ما كتبه المناطقة في العالمين العربي والاسلامي لاسيما ماكتبه ( محمد رضا المظفر ) في العراق !!.
وهذا لعله مايدفع لقناعاتي  بان الدكتور  الوردي كان ينظر للفلسفة على اساس انها مشروع تاريخي ينبغي ان يطلق الدكتور علي الوردي على راسه رصاصة الرحمة لينتهي كل شيئ ؟!!.
لكن اعتقد لو كان الدكتور الوردي متوسعا قليلا في رؤيته لمشروع الفلسفة ومنطقها الارسطي الاسلامي  ومستوعبا لفكرة: (( ان الفلسفة مشروع انساني متطور مع الانساني ، وانه لايمكن لاي مجتمع انساني ان يقيم بناءه الحضاري والعلمي بدون مشروع فلسفة فكرية حرة تتقدم هذه النهضة )) وان الفلسفة اولها انطلق من الحضارة اليونانية ولكن اخرها مستمر مع الانسان اينما فكر لوجود حلول لمشاكله الانسانية ، اعتقد لو كان الوردي بهذا التفكير لما اعتقد ابدا ان الفلسفة ومنطقها الارسطي مجرد خزعبلات طوبائية لااكثر ولا اقل !.
ولربما لو كان الدكتور الوردي مطلعا وباحثا بعمق في مبادئ واساسيات الفلسفة الارسطية ومنطقها الارسطي ومطلعا بالخصوص على ما كتبه وبحثه الفلاسفة الارسطيين في العصر الحديث ، لتغيرت وجهته الفكرية تماما ولكتب في نقد الفلسفة الشيئ العميق والمثمر للفكر العراقي الحديث بدلا من ان يتناول الفلسفة بعموميات الافكار الثقافية !.           

1: راجع بهذا الصدد : منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته  / الفصل الاول / خصائص المنطق القديم / امثلة واقعية / الصفحات 29 ، 35 وما بعدها / ط الثانية / دار كوفان / 1994م  

2: / انظر منطق ابن خلدون / دار كوفان 94 / الفصل الاول / خصائص المنطق القديم / ص  28 .

3 : نفس المصدر / ص 28 .

4 : نفس المصدر / ص 29 .

5 : نفس المصدر السابق / ص 29 .

6 : نفس المصدر ص 40 .

7 : نفس المصدر / راجع الشرح من صفحة 40 الى ص 45 .

8 : منطق ابن خلدون / ص 40 .

9 : يراجع بصدد اختلافات الرؤية المادية الماركسية مع الرؤية الفلسفية العقلية الارسطية : فلسفتنا / محمد باقر الصدر / المفهوم الفلسفي للعالم / من ص 177 الى 194 / دار التعارف / بيروت لبنان / ط الرابعة عشر : حيث ذكر الصدر مظافا لما تناوله في نظرية المعرفة في القسم الاول من الكتاب ، تناول الرؤية الفلسفية الارسطية في هذا الاطار واختلاف هذه الرؤية بمفاصلها الرئيسية عن الرؤية المادية التي تضع الحس والتجربة كطريق وحيد للمعرفة الانسانية .

alshakerr@yahoo,com 

مدونتي ( حراء ) تتشرف بزيارتكم للمزيد

http://7araa.blogspot.com/

 

 

الاثنين، نوفمبر 02، 2015

تناولات علي الوردي السوفسطائية للفلسفة ومنطقها الارسطي )) 1/2 حميد الشاكر ))


 

_______________

 

تعرض ( مشروع الفلسفة العقلية  ) اليونانية في تاريخه الطويل الى تنوعات متعددة من الهجمات  ( الممنهجة مرة ،  والعبثية مرة اخرى ) التي حاولت النيل اولاً من وجود الفلسفة ومنطقها الارسطي ( 450 ق م الى 300 ق م )  بالتحديد وارادة استأصال هذا الوجود من مناهج التفكير الانسانية ، وثانيا من مكانتها الفكرية والعلمية والنظرية بشكل عام   !!.

وقد توزعت تلك التنوعات النقدية الاقصائية تأريخيا وحتى وقتنا المعاصر على الفلسفة ومشروعها الفكري النهضوي بالتشكيلات التالية :

اولا : الهجوم من قبل المدرسة السوفسطائية .

ثانيا : حصار السلطة ورجال دينها الرسميين .

ثالثا : النقودات العنيفة من قبل الغير ملمين بالفلسفة ومشروعها الانساني الواسع .

آ : المدرسة السوفسطائية .

والحقيقة للمدرسة السفسطائية  بالتحديد تاريخ يرتدّ بجذورها ، وتأسيساتها الفكرية الاولية الى ما قبل بزوغ ، وولادة  المنطق الارسطي ،  الذي جاء ( هذا المنطق ) كرد فعل مناهض  ومعاكس في التوجه والاهداف على ما طرحته وكانت تؤسس له المدرسة السفسطائية بعد مرحلة من تاسيسها في عمق الحضارة الفكرية اليونانية القديمة !!.

ولم تكن السفسطة ( كما يبدو ذالك بعكس من يرى ان السفسطة نتاج فكر غير منظم  ) مجرد افكار مشوشة ومتناثرة ومتناقضة و....  فحسب بل كانت مدرسة جامعية منظمة ومهنية ومتنقلة وبكادر من اساتذة فن الجدل لا يشق لهم غبار يعلّمون ويدرّسون مناهج الجدل ، وفن الدفاع عن الاراء والصراع من اجلها في مقابل مبالغ مالية ثقيلة يفرضونها على طلبة علوم فن الجدل  والخطابة والسياسة انذاك  !!.

ومن اهم اساتذة فن السفسطة في العصر اليوناني (بروتاغور وغورغياس وبرودكس ، و ...الخ ) .

ثم ما ان لبثت السفسطة ان تحولت الى مادة تجارية  اكثر منها مشروع علم ، وفن لتناول الحكمة ،  ودخلت فيما بعد الى مرحلة العبث الفكري ، الذي يحاول تدمير ونفي كل تفكير سليم ، والتشكيك بكل حقيقة او قانون قائم الى ان وصلت سفن عبثها الفكرية الى مراسي مبادئ ونتائج شك فكرية ثلاثة اعتبرت هي المبادئ الرئيسية لهذه المدرسة وهي :

 

اولا : ان الانسان الفرد ومعاييره الذهنية اساس كل معرفة ولا وجود لشئ خارج ذهن الانسان !.

اي ان ذهن الانسان هو مخترع لفكرة الواقعية الوجودية خارج الانسان .

ثانيا : ولو ( فرضنا ) ان شيئا وجد واقعيا ، وخارج الذهن الانساني ، لكانت معرفته مستحيلة !.

ثالثا : وحتى ان امكن معرفة ما هو موجود ، لما امكن نقل هذه المعرفة من انسان لاخر / (1)

وما ان شاعت هذه ( الفوضى الفكرية) بين الاجتماع  في العصر اليوناني انذاك  حتى دبت ( الخلافات الاجتماعية ) على اثر ذالك  ، واهتز التكاتف المجتمعي لهذه الامة الحضارية مما استدعى في النهاية تدخل الدولة ( بسلطتها القضائية ، والتنفيذية  ) فيما بعد للحفاظ على وحدة ، وتماسك المجتمع الفكرية والروحية والعقدية والقانونية والاخلاقية و... لتمنع ( الدولة اليونانية) من ثم فن التفكير الفلسفي والسوفسطائي بكافة اهدافه من اساسه وتجرّم او تعلق العمل بالتفلسف مهما كان لونه وشكله او غايته ووسائله لحماية الامة من كوارث التفكك والانهيار !.

وراح  ضحية هذه ( المأساة الفكرية ) للامة اليونانية واحداً من اكابر فلاسفة عصرها ، ولكن ومع الاسف كان هذا الواحد من غير السفسطائيين العابثين وهو فيلسوف الحكمة اليونانية (( سقراط )) بتهمة افساد شباب اثينا !!.

كانت السفسطة (( باعتبار جعلها فكر الانسان الفرد معيارا قانونيا واخلاقيا ووطنيا وسياسيا و ... لما هو حق او باطل ))  بالفعل  كماعبر عنها احد رجال دولة ( اثينا ) انذاك بانها (( السبب الاصيل لتفتيت وحدة المجتمع واحترامه للقانون  )) !.

ولهذا ما ان استفحل امر السفسطة وآذن بخراب الاجتماع الاثيني اليوناني  انذاك حتى انبرى لها حكماء من تلامذة سقراط نفسه ( افلاطون ثم ارسطو) ليبينوا لهذه الامة فكريا وثقافيا وعقليا و .. زيف  وشعبذة وخداع كل ما طرحته هذه السفسطة العبثية باسم الفلسفة والحكمة وليعيدوا من ثم للمعرفة والقانون والعقل والحكمة والفلسفة والمجتمع و... كل اعتباراتها الفكرية من خلال ابتكار(منطق فكري/ المنطق الارسطي) ليحصن من طريقة تفكير ذهن الامة الاثينية وفكرها اولا ، ويرشدها الى سبل  التكاتف المجتمعي ووحدة الهدف له والتفكير القويم الموصل الى الحقائق الثابتة والسليمة  التي تكشف زيف وتلاعب وفوضوية و... السوفسطائيين واستغلالهم لجهل الناس وسذاجتهم لقيادتهم الى العبثية المدمرة ثانيا !!.  

وبهذا نشأت حالة من الصراعات والحروب الفكرية والتناقضات والتناشزات العقدية بين (المدرسة السوفسطائية التجارية) التي لاهدف لها سوى جني الارباح ( كما وصفها سقراط ومدرسته المنطقية  /2 ) والتلاعب باذهان الناس وقيادهم الى التناحر والتفكك الاجتماعي ، وبين الفلسفة ومنطقها الارسطي الذي وضع اسس العلم والحكمة الثابتة وابان طرق الحقيقة وكيفية الوصول اليها من خلال البراهين والادلة العقلية القاطعة والمستقرة  !!.

ولم تدم فترة الصراع طويلا حتى كان الانتصار ساحقا للفلسفة ومنطقها الارسطي  في باقي العهود اليونانية الذي ازدهر فيها العلم والاستقرار والحكمة والفن والتفوق ..... بفضل استقرار الفكر وما اسست له الفلسفة من نظام معرفي رصين انعكس على استقرار الامة اليونانية  لكن مع بقاء روح السفسطة ، والشك تنازع البقاء  ، حتى عصورنا الحديثة حيث لم يزل هناك بروز لنتؤات ( سوفسطائية ) فكرية هنا ،  وهناك سميت مرة بالنسبية واخرى بالشكية وثالثة بالمثالية .......  والى  المادية الماركسية المعاصرة وهي تعتمدعلى ما اسسته المدرسة السوفسطائية في بعض منطلقاتها  الفكربة التي  تنال في احيان كثيرة من كفاءة العقل الانساني في اصابة الواقع وتنال من كفاءته في الوصول الى حقائق هذا الواقع المتغير حسب توجهاتها ونظرياتها المعرفية في هذا الاطار !.

ب : السلطة ورجال دينها .

ان من الاشكاليات التي جابهت الفلسفة  ومنطقها الارسطي في مشروعها الانساني العقلي الطويل نسبيا بعد السفسطة ، وقادتها  الفكريين هي ايضا  ( السلطة القائمة ) من جهة وكذالك ( وعاظها الرسميين من رجال دين لاهوتيين ) كانوا اصحاب خدمة سياسية ، وريبة فطرية من كل ماهو عقلي ومفكر خارج نطاقات وسياقات الطاعة العمياء لاوامرهم المغلفة برداء الدين واللاهوت والاخلاق من جانب اخر !.

والحق ان الفلسفة  ومنذ تاسيس قواعدها الاولية للفكر الانساني شكلت احد اهم عوامل القلق السياسية  والدينية معا وذالك لا لسبب كون الفلسفة ومشروعها بالضرورة قد تكون فوضوية وضد استقرارالدولة والمجتمع على طول الخط التاريخي او تكون تحمل اساليب تفكير لاتنسجم مع الدين او تهدد مبادئه اللاهوتية الاخلاقية  السامية او... الخ ،  بل لكون الفلسفة ومشروعها تمثل بطبيعتها الفكرية المتحررة ،  وبتركيبتها البنيوية المختلفة وبدعوتها العقلية المتوازنه و .... الضد النوعي للاستبداد والتخلف والانحراف والاستغلال مهما كان عنوانه او اختلف موقعه سياسيا او دينيا او اقتصاديا او اجتماعيا او تربويا او .... غير ذالك ومن هنا كان الصراع جذريا تاريخيا بين الفلسفة من جهة والدولة المستبدة ووعاظ دينها المزيفين من جانب اخر !!.

ولهذا  لم يكن (سقراط ) هو اول اوآخر فيلسوف تناهضه ( الدولة ورجال الدين الرسميين معها) ليحكمواعليه وعلى الفلسفة ومشروعها  بالاعدام المشين، بل وهكذا في كل تاريخ مشروع الفلسفة العقلية ، وما تحدثه من قفزات فكرية نوعية في كل دولة او دين وماتدعوا له من اهداف وغايات مختلفة ومتناقضة تماما مع دعوة الاستبداد السياسي والانحراف الديني المتحالف معه   !.

نعم ربما بسبب ان مشروع الفلسفة العقلية ومنذ بدايته من ((سقراط وافلاطون وارسطو... حتى الكندي والفارابي وابن سينا ومسكويه وابن طفيل وابن رشد ... الى روجر بيكون وفرنسيس بيكون وسبينوزا ...، وحتى الطباطبائي ومطهري ومحمد باقر الصدر/ في العصر الحديث )) كان مشروعا يحمل هموم التنظير والتفكير للدولة ، واللاهوت والقانون والحاكم  والعدالة وحرية الفكر و .... ولهذا كان مشروعا مزعجا دائما للسلطة المستبدة من ورجال الدين  كنسيين كانوا او غير كنسيين  من شيوخ سلطة ووعاظ سلاطين  !!.

فالاستبداد السياسي نادرا ما يقبل او هو مطلقا لايقبل بفكر فلسفي يطرح مشروع الدولة ، وينّظر في عدلها وديمقراطيتها واستبدادها وحاكمها وقانونها بشكله العقلي الحامل للحرية والعدالة ، وكذا السائرون في ركاب هذا الحكم المستبد الذين عادة ما يوظفون  للمشاريع السياسية لكن باسم الدين ليناهضوا اي فكر فيه رائحة تفلسف عقلي  غير قابل بطبيعته لأستعباد الفكر وتدجينه بكل ماهو خاضع ومستكين وخرافي ويتعارض مع المنطق الفلسفي السليم  !.

في التاريخ العربي الاسلامي ( مثلا ) يطالعنا التحالف المدنس لسلطة ( المتوكل العباسي/ 232 هجرية/ كنموذج ) ومساندة رجال دينه الكهنوتيين من اصحاب الحديث السلفيين  في حربهم لاستئصال وابادة الفكر المعتزلي المتفلسف عربيا اسلاميا في بواكير التاسيس لمشروع الفلسفة العربية الاسلامية !!.

وكذا ما ( الغزالي/ في مؤلفه تهافت الفلاسفة ) بعد ذالك وارهابه للفلسفة ، وتحالفه مع السلطة القائمة الا دليل من ضمن ادلة كثيرة تؤكد هذا التحالف المدنس بين السلطة ووعاظها من جهة والفسفة ومشروعها ومنظريها ومفكريها من جانب اخر  !!.

وهكذا اذا ما  اردنا التحدث عن فلسفة العرفان العقلية وقتل (السهروردي) وفتوى ((ابن الصلاح / 643/ هجرية )) التي حكمت :(( بان الفلسفة شر مطلق )) وفتوى (( ابن تيمية / 728 هجرية )) ، التي حرمت قراءة الفلسفة ورمي الشيخ الرئيس بالتحديد ( ابن سينا  ) بالالحاد وما محنة فيلسوف قرطبة ( ابن رشد/ 520 ه / 595 هجرية) الا دلائل واشارات فيها ما يغنينا عن سرد الكثير من الامثلة لمحنة الفلسفة على يد الاستبداد السياسي ورجاله الدينيين المتحالفين معه !. 

اما في التاريخ الاوربي الوسيط حتى عصر النهضة  والعصر الحديث ، فلسنا بحاجة ايضا الى ذكر الادلة على هذه الهجمة السياسية والدينية الكنسية المستبدة ضد الفلسفة ومشروعها الاصلاحي الفكري والعلمي فهي ظاهرة اشهر من ان يساق لها ادلة  ولم تزل حتى اليوم عظام فلاسفة الحكمة الاوربية المنبوشة من قبورها لتحرق امام اعين الناس باسم الزندقة هناك شاهدةٌ اثبات على عداء الاستبداد السياسي والتسلط الرجعي لرجال الدين مع الفلسفة .

ج : الجاهلون بمشروع الفلسفة .

وفي العصور الحديثة المتأخرة ، لاسيما من القرن الثامن عشر الميلادي وحتى اليوم برزت مدارس فكرية ، وعلمية كثيرة تنال من وجود الفلسفة ومشروعها الفكري ( ومنطقها الارسطي بالتحديد ) لكن كانت ولم تزل اشرس هذه الافكار والمدارس هجوما على الفلسفة ،  ومنطقها الارسطي ومن ثم الاسلامي هي تلك المدارس التي لم تدرك  او تستوعب بشكل تام هذه الفلسفة ومشروعها العقلي والعلمي والانساني العام بل اعتمدت في كل هجومها النقدي للفلسفة على افكار قشرية ، وتصورات قاصرة معرفيا وعاجزة فكريا عن فهم وادراك مصطلحات ومعنى الفلسفة ومشروعها الفكري الانساني العميق والكبير !.

وطبعا من ابرز ممثلي هذه المدرسة المناهضة للفلسفة ومنطقها الارسطي الاسلامي في عصرنا الحديث (محليّا عراقيا ) كان هو المرحوم علي الوردي رحمه الله حيث شنّ حملة هجومية كبيرة وعنيفة ايضاعلى الفلسفة الارسطية اليونانية والاسلامية من خلال معظم مؤلفاته وكتبه التي تناول فيها الكثيرمن المواضيع الثقافية التي تلامس ( من بعيد ) جوهر مواضيع الفلسفة ومشروعها الفكري والعلمي  العميق !.

وربما ان قلنا او قررنا: ان ما من مؤلف او كتاب من كتب علي الوردي  الا وكان فيه نصيبا وافرا من نقد الفلسفة الارسطية ومنطقها اليوناني ومن ثم العربي الاسلامي فاننا  سوف لن نكن بهذا من المبالغين او من الذين يتقولون على الرجل بغير ما سطره قلمه في هذا الاطار   !!.

ففي كتابه / مثلا /  مهزلة العقل البشري/ وفي عدة فصول منه ومن اهمها الفصل التاسع( ماهي السفسطة ) تناو ل المرحوم علي الوردي وبلغة جارحة وغير علمية واعية في معظم الاحيان الفلسفة ومنطقها بشكل نقدي عنيف ،  وربما يهبط في بعض الاحيان اذا لم يكن في كثيره الى انواع من الهزء والسخرية التي لاتنم عن بحث علمي او فكري متوازن !!.

وكذا في كتابه : منطق ابن خلدون ( الفصل الاول خصائص المنطق القديم ) وكتابه اسطورة الادب الرفيع ( في فصل :النحو والمنطق الارسطي ) و ..الخ ففي كل هذا المنتج الثقافي لم يدع ( الوردي ) فرصة الا وقرص بلاذع القول الفلسفة ومنطقها . 

والحقيقة ان مواقف واراء وتصورات الدكتور  (علي الوردي) نحو الفلسفة ومشروعها العقلي ومنطقها الارسطي الاسلامي من الغرابة بحيث اننا عندما نقرأ نقودات الوردي الفكرية ضد الفلسفة ،  وهجومه العنيف على منطقها وبهذا الشكل  و...الخ  تبدأ تحيط بنا التساؤلات من كل جانب وتحاصرنا الاستفهامات من جميع الجهات بالاتي : 

اولا: كيف يطرح الدكتو علي الوردي  مثل هكذا طرح نقدي عنيف ضد الفلسفة ومنطقها الارسطي الاسلامي  وهو طرح ( مع الاسف )  ابسط ما يقال فيه حتى اليوم انه طرح لايمت للفلسفة وفكرها وواقعها ومناهجها المنطقية باي صلة علمية او مهنية واعية تدرك اولا مقدمات الفلسفة قبل نقدها والخوض في بحارها ومصطلخاتها العميقة ؟!!.

ثانيا : لماذا تناول المرحوم علي الوردي الفلسفة ، ومنطقها ومدرستها بالذات بهكذا نقودات لا ترقى لتكون ندا لما طرحته الفلسفة  في عصره هو شخصيا ثم ماهي الدوافع العلمية ، والفكرية الاكاديمية او الاجتماعية  التي حتمت على علي الوردي ان يناصب العداء للفلسفة والهجوم على منطقها الارسطي الاسلامي من كل حدب وصوب وحتى ان كانت موضوعاته : ( في الشعر او الادب او النحو العربي ... ) التي لاتمت بصله مباشرة للفلسفة ومشروعها الفكري المختلف ( الا من حيث تقعيد قوانين البحث اللغوي النحوي ،  التي اسست لها الفلسفة للحضارة العربية والاسلامية  ) لكن ومع ذالك وجدنا الوردي يرجع اسباب تخلف حتى النحو العربي (( الذي يعاني من الافتقار في فهمه والالتزام بقوانينه في الكتابة كما ذكره هو شخصيا  )) الى المنطق الارسطي بالذات كما حصل في كتابه ( اسطورة الادب الرفيع / مثلا ) في المقالة العشرون عندما ذكر : (( ومن الجدير بالذكر هنا ان القوانين المنطقية القديمة قد ظهر بطلانها  .... ولكن اصحابنا / يقصد النحويون / لايزالون مصرين على التمسك بها ... وهذا دليل على اننا نسير متخلفين ...) 3؟

رابعا : كيف نفهم انحياز الوردي الى المدرسة السوفسطائية اليونانية القديمة والحديثة ولينصرها على الفلسفة ومنطقها الارسطي العلمي الرصين بل وليطرح مشروع السفسطة اليونانية على اساس انه مشروع العلم والتقدم والرقي لاي مجتمع اما مشروع الفلسفة ومنطقها فهو مشروع الخزعبلات والتخلف ؟!.

خامسا : مامعنى ان يسبغ المرحوم الوردي الصفة الطبقيةعلى المدرسة السفسطائية في احد كتبه المدونه ويعتبرانها (السوفسطائية) مشروع الطبقات الفقيرة الذي جاء بالضد من مشروع الفلسفة الذي هو مشروع الطبقة الراسمالية المستغلة  ؟؟.

وهل حقا وفعلا ، وواقعا كان مشروع الفلسفة الارسطية الاسلامية منتجا راسماليا وتابعا لمصالح الطبقة المستغلة في المجتمع اليوناني العاجي القديم ، بعكس السفسطة التي كانت منطق الفقراء والكادحين في الماضي ومنطق العلم في العصر الحديث كما يطرحه المرحوم الوردي ؟

بمعنى اخر ماهي الدوافع الفكرية او السياسية ، التي دفعت بالوردي ان يصادر موضوع الفلسفة علميا ،  ليناقشه طبقيا ومن ثم ليطرح الفلسفة ايدلوجيا كنوع من الهجوم ، وتشويه صورة الفلسفة ، ومشروعها العقلي ، وليطرح في الجانب الاخر المدرسة السوفسطائية على نفس الاساس لتلميع  صورة السفسطة في مقابل تشويه صورة الفلسفة ايدلوجيا ؟.

دعونا نبدأ من المحور الرابع في الاجابة على مثل هكذا اسألة ، لنستبين موقف المرحوم الوردي من الفلسفة ، ومشروعها ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر موقف الوردي من السفسطة ، ولنتساءل : ما هو موقف علي الوردي من المدرسة السفسطائية اليونانية اولا ؟.

****************************************

اولا : الوردي سفسطائيا .

في كتابه ((مهزلة العقل البشري )) يعلن علي الوردي صراحة في الفصل التاسع تحت عنوان (ماهي السفسطة) بانه : (( فخور من كونه سفسطائيا وعنده ان هذه السفسطة خير من هذه الخزعبلات المنطقية ، التي يتمشدق بها اصحاب المنطق القديم / 4 ))

وطبعا يقصد المرحوم الوردي بالخزعبلات واصحاب المنطق القديم قادته من مناطقة وفلاسفة يونانيين واسلاميين تاريخيا وحتى وقتنا المعاصر !!.

والحقيقة ان اول سؤال يفرض علينا نفسه ونحن نقرأ ل(مؤسس علم الاجتماع العراقي الحديث ) مثل هذا الاعلان الغريب هو : كيف لعالم من علماء الاجتماع ان يطرح نفسه كسفسطائيا يفتخر بكونه من هذا الفصيل ومنتميا بعنف لمبادئ هذه المدرسة الفكرية المدمرة لكل ماهو اجتماعي اصلا ؟

بمعنى آخر ان من اهم مبادئ الفلسفة السفسطائية ( كما يفهمها اي سوفسطائي يوناني انذاك مثلا ) هي كونها قائمة اولا على المثالية اللاواقعية اي هي فكرة لا تعترف بوجود شيئ خارج وجود الانسان ،وهذا يعني ان لاوجود ، لا لخارج مادي ولا لواقع اجتماعي يمكن ان يدرسه دارس  ،او ان يقيم على اساسه علم وقوانين وبحث ......الخ فكيف انتمى واعلن وافتخر الوردي لهذه المدرسة التي لاتعترف باي عنوان اجتماعي  ؟ حقا لاندرك !.

وثانيا هو ان من مبادئ او بصيغة ادق مناهج السفسطة الفكرية هو عدم الاعتراف باي معايير ولا موازين ولا ظواهر ولا اخلاقيات .... اجتماعية واقعية  وما موجود هو معايير وموازين ذهنية انسانية فردية لاعلاقة لها باي اخر انساني او اجتماعي او قانوني ثابت ومن هذا  كانت الحقيقة عند السوفسطائيين القدماء والجدد هي حقيقة فردية (هذا ان وجدت حقيقة ) ليس لها اي علاقة بواقع  اجتماع انساني يذكرفعلى اي اساس بعد ذالك يحاول الوردي وهوالسفسطائي العتيد اقامة علم للاجتماع ، او ايهامنا بانه بصدد محاولة اقامة علم اجتماع عراقي من اهم دراساته  وابحاثه مظاهر وظواهرالمجتمع ، وان يكون للمجتمع (( وجود اولا ، ووحدة فكروقانون حركة ثانيا ، ووحدة ظواهر اجتماعية اقتصادية او عرفية او سياسية ثالثا و ... )) وليس فردية خيالية ؟ 

يبدو ان عالمنا لعلم الاجتماع الحديث علي الوردي ربمالم يكن يدرك مبادئ السفسطائية الاولية او غاب عن باله انعكاسات فكرهذه المبادئ  السوفسطائية على علم الاجتماع الحديث ، او انه لم يدرك استحالة الحديث عن مجتمع وظواهر اجتماعية وقوانين اجتماعية ...... تحت اطار الايمان والانتماء للفكر او للمنهجية الفكرية (( العدمية ))  للمدرسة السفسطائية القديمة والحديثة ،ولهذا هو يفتخر ان يكون سفسطائيا !!.

ولكن ومع ذالك لابد ان نفهم او ندرك على الاقل  :

اولا : ماهي رؤية الدكتور علي الوردي نفسه للسوفسطائية حتى نلتمس له العذر بهذا الافتحار السوفسطائي .

وثانيا : على غرار ذالك يمكننا الحكم  على فهم الدكتور الوردي لهذه السفسطائية ، وهل هو فهم ،  ووعي وادراك ماهو موجود   للسفسطائية نفسها ؟. ام ان للوردي فهمه الخاص الذي لم يشاطره فيه احد من فلاسفة وعلماء اجتماع الشرق والغرب ؟.

******************************************************

ثانيا : ماهية السوفسطائية الوردية .

من قراءة فصل (( ماهي السفسطة / من كتاب مهزلة العقل البشري )) للمرحوم علي الوردي يتضح لنا ان علي الوردي في بداية الفصل اشار الى مبدأين من مبادئ السفسطة كان يعتقد انهما من ارقى المبادئ الاجتماعية والعلمية للمدرسة السفسطائية وهما :

الاول: هورؤية السفسطائيون للعدل الاجتماعي الذي اطاح بالرؤية الافلاطونية النظرية لهذا العدل حيث يقارن علي الوردي بين الرؤيتين قائلا:(( كان افلاطون يرى بان العدل عبارة عن فكرة مجردة يمكن الوصول اليها عن طريق التفكير السليم ، اما السوفسطائيون فكانوا ، على العكس من ذالك يرون العدل من صنع التاريخ ونتيجة من نتائج التفاعل الاجتماعي )) 5.

ثانيا : وهو مبدأ ((ان الانسان مقياس كل شيئ )) ثم يعقب علي الوردي على هذا المبدأ بالقول : (( وذهب السوفسطائيون الى ان الحقيقة هي : تناقض ونزاع  فكل انسان يرى الحقيقة حسبما تقتضيه مصالحه وشهواته ، وبتنازع هذه الحقائق الفردية تنبعث ( الحقيقة الوسطى ) التي تنفع النوع الانساني بوجه عام )) 6 .

والحقيقة انا لااعلم من اين جاء الدكتورالوردي بمبدأ العدالة الاجتماعية  للمدرسة السفسطائية وجعلها من مبادئ هذه المدرسة الرئيسية ولعل ما نقله الدكتور عن ( فرنغتون ) من رؤية تحليلية للمدرسة السوفسطائية اليونانية في كتابه (العلوم اليونانية ) ومن ثم ادخال عنصر العدالة الاجتماعية  كدافع تحليلي لظاهرة السفسطة من قبل (فارنغتون ) كمبدأ من مبادئ السفسطة عند الوردي و.... اقول : لعل هذا هو الذي دفع بالدكتور الوردي ، ورسخ في اعتقاده :(( ان العدالة الاجتماعية هي مبدأ من مبادئ ومنطلقات مدرسة السفسطة اليونانية الفكرية والفلسفية  انذاك )) !!.

ولهذا هو اورد مبدأين فحسب للمدرسة السوفسطائية اليونانية ، وجعل اول هذين المبدأين هو مبدأ العدالة الاجتماعية !.

لكن  ان نرجع الى المبادئ الرئيسية التاريخية لاي مدرسة فكرية او فلسفية او علمية حسب ما وضعته هذه المدرسة لنفسها شئ ،وان نحلل نحن هذه المبادئ كظواهر اجتماعية وتاريخية ونخرج بنتائجنا الشخصية والتحليلية ونضعها وننسبها لتلك المدرسة  كمبادئ تاسيسية شئ اخر مختلف تماما !!.

بمعنى اخر : انه من الخطأ المنهجي والاكاديمي والفكري العميق عندما نحاول بحث ودراسة مبدئ مدرسة فكرية ما ، فلسفية كانت او علمية ، او دينية او .... لاسيما ان كانت المدرسة تاريخية ،  وصاحبت جذور زمنية متطاولة كالمدرسة السوفسطائية ، فمن ( العوار العلمي ) ان لانرجع بدراستنا وبحثنا الى التاسيس الرئيس لهذه المدارس وناخذ بمبادئها التي وضعت لها من قبل قادتها الفكريين بالفعل ونعتمد بالعكس في هذا المجال على ما حلله المحللون ونظّر له الباحثون في اسباب نشاة هذه المبادئ وناخذ برؤاهم التحليلية لنصنع منها مبادئ ننسبها لهذه المدرسة الفلسفية او تلك من غير ان تكون هذه التحليلات هي فعلا مبادئ او اسس لتلك المدرسة !!.

نعم (فرنغتون) ربما كان بصدد تحليل  السفسطائية كظاهرة اجتماعية تاريخية يونانية ينبغي البحث عن دوافعها واسبابها  الاجتماعية وربما كانت العدالة الاجتماعية احد اهم اسباب وعوامل نمو الفكر السوفسطائي اليوناني القديم ،لكن هذا لايعني ان تصبح العدالة الاجتماعية من اهم مبادئ السوفسطائية الفلسفية الفكرية ونجعل هذا الطلب للعدالة الاجتماعية او هذا السبب التحليلي هو المبدأ الرئيس للمدرسة السوفسطائية القديمة والحديثة فيما بعد !!.

لان امثال هذه المناهج في قراءة الفكر اي فكر لاسيما الفلسفي التاريخي  والمعاصر سيربك كل اسس الدراسات التاريخية ، والفكرية والعلمية والعقدية و .... ويقلبها راسا على عقب بل ويزيف حقائقها التي كانت موجودة عليها فعلا ويفتح الباب على مصراعيه لعبث فكري له اول وليس له اخر !!.

فهذا مثلا صاحب كتاب (( تاريخ الفلسفة اليونانية )) ((وولتر ستيس)) يرجع اسباب ظهور الفكر السوفسطائي اليوناني الى ما كانت تعانيه الحياة اليونانية من تفكك سياسي وانقسام مجتمعي ويرى (( ان الطمع والطموح والاغتصاب والانانية والذاتية المطلقة والهوى والجموح هي النغمات السائدة في الحياة السياسية في تلك الفترة ))  التي ولدت واشتدت وترسخت مبادئ الفكر السوفسطائي بين جنباتها !!. 7 .

وهكذا ما طرحه (( يوسف كرم )) في ((تاريخ الفلسفة اليونانية)) عندما ارجع ولادة ظاهرة السوفسطائية الى (( ارادة المتاجرة بالعلم والانحطاط القيمي الذي صاحب ثلة من السوفسطائيين العبثيين وانحطاطهم الاخلاقي و ...الخ )) 8 .

فهل يسوغ لنا هذا التحليل ل(ستيس) وهو يحلل ويبحث في الظروف الاجتماعية ، التي تمخضت عنها الافكار السوفسطائية (( ان نجعل من الفوضوية والعبثية /مثلا / مبدأ من مبادئ السوفسطائية الاولى )) ؟؟.

وهل يسوغ لنا التحليل الذي طرحه (كرم ) في قراءته للظروف المجتمعية ، والتاريخية التي واكبت ظهور الفكر السوفسطائي  ان نجعل من ( الانحطاط الخلقي وارادة العبثية وقلب الحقائق والتلاعب بالالفاظ و ....)) كاحد اهم مبادئ السوفسطائية اليونانية القديمة مثلا ؟.

هذا مع الاسف ما قام ويقوم به دائما في مؤلفاته ((الدكتور الوردي )) عندما يريد مناقشة وبحث اي موضوع من مواضيع الفكر الانسانية وبالخصوص عندما يحاول بحث ونقد ودراسة المدرسة الفلسفية في كتبه ومؤلفاته او عندما يحاول ان يطرح مبادئ هذه المدرسة او تلك من مدارس الفكر الانساني !!.    

ولهذا والتزاما بالمنهج العلمي والامانه الاكاديمية التي تفرض الالتزام بقواعد البحث التاريخية ،وكذا ما تفرضه ايضا النباهة في صناعة البحوث وتمييز ماهو اصل مما هو ملحق وفرع في البحث والدراسة نرى الكثير من المختصين بالبحث الفلسفي ، والتاريخي عندما يشرعون في ( ترتيب مبادئ ) المدرسة السوفسطائية اليونانية فانهم ابدا لايذكرون ( العدالة الاجتماعية ) كمبدأ من مبادئ المدرسة بل ولا يسمحون لانفسهم بتجاوز ماذكره التاريخ فحسب من هذه المبادئ باعتبار امانة النقل البحثي من جهة وباعتبار ان البحث والدراسة سوف تحرف عن مسارها وتزيف نتائجها الواقعية والحقيقية اذا لم ننتبه لهذا المنهج !.      

عند ديوانت  كاتب قصة وتاريخ الحضارة وهو كذالك فيلسوف مختص بشؤون الفلسفة وتاريخها القديم والحديث ، يذكر لنا ماذكرناه سابقا من مبادئ للمدرسة السوفسطائية وعلى لسان تلميذ (( بروتاغوراس / 451 ق م / 415 قام بزيارة لاثينا )) اشهر سوفسطائي يوناني على الاطلاق وهو (( غورغياس الليونتيني / ولد 483 ق م )) حيث يعدد مبادئ المدرسة السوفسطائية بالاتي :

اولا : لا وجود لشيئ ما .

ثانيا : ولو ان شيئا وجد لكانت معرفته مستحيلة .

ثالثا : ولو ان شيئا كانت معرفته ممكنة فلما امكن نقل هذه المعرفة لانسان اخر / 9

وهكذا ما ذكره صاحب كتاب ((فلسفتنا : محمد باقر الصدر )) حول (غورغياس) في كتابه ( اللاوجود ) حيث عدد ايضا المبادئ السوفسطائية الثلاثة المذكورة انفا لاغير / 10 .

اذاً لماذا وما هو الدافع او السبب الذي اضطر علي الوردي لوضع ( العدالة الاجتماعية ) كمبدأ للسفسطة ومن ثم  لينسبه للمدرسة السفسطائية البعيدة عن اي بحوث لها علاقة بالمجتمع وعدالته او بحركته او بمفاهيمه القيمية  ؟ .  

ربما كان الجواب هو بسبب ماعرف عن الدكتور علي الوردي في شغفه للمخالفة  وحبه لفن قلب الحقائق  ( باعتباره سوفسطائيا مفتخرا بسوفسطائيته ) والا بغير ذالك فسيبقى امامنا فهم واحد لاغير لنتناول فيه الوردي ليس من السهل قبوله للاخلاقية العلمية للدكتور علي الوردي !!.  

نعم صحيح اذا اراد ان يطرح الدكتور علي الوردي (ماهية السفسطة ومبادئها ) كما هي في حقيقتها وواقعها التاريخي لاصبح من الصعب على الوردي الدفاع عن مبادئ السوفسطائية العبثية فضلا عن افتخاره بان يكون سوفسطائيا  وربما هذا هو اصل الاشكالية ، لكن مالذي يضطر مفكرا او عالما او مثقفا عراقيا ان ينتمي لمدرسة لايكون الدفاع عنها ممكنا او مستساغا  الا بفن قلب الحقائق والتلاعب بالفاظها ومبادئها وعناوينها  !!.

ومن ثم ما الذي يدفع مفكرا عراقيا او عربيا او مسلما او عالميا او .....الخ ان يناصب العداء للفلسفة ومنطقها التي بنت الاوطان والحضارات تاريخيا وحتى اليوم ، ويعرج منتميا لفكرة ومدرسة سوفسطائية اجتمعت كلمة عقلاء علماء التاريخ على انها (بذرة ) لتهديم ، وتقويض دعائم فكر اي مجتمع دخلت فيه او روج لافكارها داخله ؟!!!.

علي الوردي ذكر من ضمن مبادئ المدرسة السوفسطائية انها مدرسة تؤمن بمبدأ( ان الانسان مقياس كل شيئ  ) وهذا فعلا من مبادئ المدرسة السوفسطائية ونشكر الدكتور الوردي على ذكر نصف الحقيقة من مبادء المدرسة السوفسطائية ولكن بدلا من ان يدرك الدكتورعلي الوردي من هذا المبدأ انه كارثة على كل مجتمع يؤمن به كما فهمه مثلا (( ول ديورانت )) في قصة الحضارة عندما ذكر :

(( لم يكن قولهم ان المعرفة شيئ نسبي سببا في حمل الناس على التواضع كما يجب ان يكون بل انه أغرى كل انسان بان يتخذ من نفسه معيارا يقدر به جميع الاشياء فاصبح كل شاب نابه يحس بانه خليق بان يحكم على القانون الاخلاقي ... وان يرفضه اذا لم يفهمه او يعجبه ... كان هذا الميل وتلك التفرقة عاملا في تقويض الدعائم القديمة للاخلاق اليونانية )) 11 .   

بدلا من ان يدرك ( الوردي) هذه الحقيقة الاجتماعية الواضحة كما فهمها ،  وادركها معظم من كتبوا بتاريخ السفسطة وافكارها  بسلبية على استقرار وتماسك ووحدة المجتمع واحترام القانون من امثال هذه المبادئ الهدامة لاسيما مبدأ (( ان  الانسان الفرد مقياس كل شيئ ))  !!.

بدلا من ذالك ذهب (الوردي) للاشادة بهذا المبدأ ، بل وجعله سبب في انبعاث : (( الحقيقة الوسطى التي تنفع النوع الانساني بوجه عام )) !!.       

ماهي هذه الحقيقة الوسطى ؟.

وهل يفهم القارئ الكريم مايقصده المرحوم علي الوردي بمصطلح (الحقيقة الوسطى التي تنفع النوع الانساني بشكل عام) ؟

وهل هناك مصطلح علمي او اجتماعي توافق عليه اهل علم الاجتماع او الفلسفة  تحت مسمى (( الحقيقة الوسطى )) ؟.  

ثم كيف وباي منطق عقلي او اجتماعي عندما تتناقض مقاييسي  ومعاييري الاخلاقية والفكرية الشخصية مع الاخرين بحيث يصبح كل فرد منا يعيش في داخل هذا المجتمع  يملك مقياسه ومعياره الشخصي ولايملك لاهدفا مشتركا مع باقي الافراد ولا رؤية موحدة ولا مصالح منسجمة ولا غاية سامية ولا تعاونا متكاملا ..... وبعد ذالك كله سنصل جميعا الى الحقيقة الوسطى الاجتماعية المفيدة للنوع  الانساني بشكل عام حسب مصطلح الدكتور علي الوردي ؟؟؟؟

_____________________________________________

1: قصة الحضارة / ول ديورانت / ج 7 / الفصل الرابع السوفسطائيون / ص 211/ ترجمة محمد بدران / بيروت.

2: قصة الحضارة / ج7 ، ص 219 / مصدر سابق .

3: راجع اسطورة الادب الرفيع / علي الوردي / المقالة العشرون / ص 190 / ط الثانية / دار كوفان /  بيروت .

4 : مهزلة العقل البشري / الدكتور علي الوردي  / الفصل التاسع / ص 153  / دار كوفان  / لبنان بيروت / ط الثانية 1994 .  

5 : مهزلة العقل / علي الوردي / مصدر سابق  / ص 155

6 : مهزلة العقل / علي الوردي / مصدر سابق / ص 155 .

7 : وولتر ستيس / تاريخ الفلسفة اليونانية / ترجمة مجاهد عبد المنعم / دار الثقافة للنشر والتوزيع / القاهرة / 1984م .

8 : يوسف كرم / تاريخ الفلسفة اليونانية / ط لجنة التاليف والنشر 1936 م / 1355 هج / ص 58 : 60/ .

9 : ول ديورانت / نفس المصدر / ج7/ص 215 .

10 : فلسفتنا / محمد باقر الصدر / ص 97/ دار التعارف / ط الرابعة عشر .

11 : ول ديورانت / قصة الحضارة / ج7/ ص 218 / مصدر سابق .

*****************************

alshakerr@yahoo,com 

مدونتي ( حراء ) تتشرف بزيارتكم للمزيد

http://7araa.blogspot.com/