الاثنين، يناير 24، 2011

(( من وعيّ القرآن .... اقرأ )) - 12 - حميد الشاكر

كلمة المناداة .... :- اقرأ




في الطرح القرآني الخاتم عادة ما يرسم لنا القرآن لوحة اشاريةوليست تفصيلية لموضوعة كيفية بدء الوحي بالنسبة للانبياء والرسل الذين لهم نوع صلةمباشرة مع الوحي الالهي الكريم ولعلّ اوضح صورة قرآنية لموضوعة بداية الوحي الالهي للرسل وكيفية هذه البداية ، ونوعية الخطوات فيها هي صورة رسول الله موسى عليه السلام ، وهو يواجه بداية كلمة الوحي الالهية العظيمة وجها لوجه في جانب الطور بهذه اللوحة الفنية الرائعة التي رسمتها يد السماء القرآنية بالقول :(( فلما قضى موسى الاجل سار بأهله ءانس من جانب الطورناراً قال لأهله امكثوا إني ءانست نارا لعلي ءاتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ،فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين / 29، 30/ القصص )) .



والحق ان هذا النوع من البداية لكلمة وحي السماء العظمى ليس فيه اي شيئ خارج عن المألوف الانساني لاي عملية تعارف بين عاقلين فهنا في هذا المشهدالقرآني نحن بين موسى عليه السلام سليل الانبياء والرسل من ال يعقوب وهو الرجل المتصل والعابد لله سبحانه وهو يعود لبلاده بعد غربة منفى قسرية فرضت عليه من مصروفي اثناء عودته لوطنه باهله يضل الطريق فيمكث قليلا مع اهله واذا به يأنس ضوء نار من بعيد خلف واد ،فيأمر اهله بالمكوث لحين ذهابه الى مصدر الضوء لعله يجد خبرا يرشده الى طريق العودة الى مصر بالاضافة لحصوله على جذوة من ناروحطب لتكون لاهله وعياله دفئا ونورا الى حين الصباح ، وبعد ان يذهب موسى تاركا اهله وراءه الى مصدر النور ، وقبل ان يصل لعين النور يناديه صوت من وحي السماء ليفاجأه بغير المتوقع وبالضبط من شاطئ الواد الايمن ومن الشجرة التي تقف في قلب البقعة المباركة (( أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين )) !!.

عندها موسى لم يشك للحظة ان وحي السماء وصوت العدل الالهي هو الذي يناديه وانه في محضر الامرالالهي المبارك لتلقي رسالة السماء بتحرير بني اسرائيل من عبودية الطغاة في مصر ونقلها الى حرية عبادة الله وحده سبحانه وتعالى !!.

طبعا الحكمة الالهية العالية ، هي التي ارتأت ان تكون كيفية التعارف بين موسى ووحي السماء مباشرة ولالبس فيها بالقول : (( ياموسى اني انا الله رب العالمين )) كي لايتوهم موسى ، وهو مأخوذ بذهول التيه في الصحراء عن ماهية الصوت الذي يناديه ، فلو فرضنا ان وحي السماء كان نازلا لموسى بشكل مختلف كأن يقول له (( ياموسى اذهب الى فرعون انه طغى )) مثلا لكان من حق موسى ان يتوقف للحظة لادراك ماهية هذا الوحي ومصدره ، وهل هو وحي صريح لالبس فيه ام انه شيئ اخر للتثبت !!.

أما عندما تكون كلمة الوحي الالهية الاولى مباشرة بالتعارف بين مصدر الوحي (( اني انا الله رب العالمين)) عندئذ لامندوحة امام موسى عليه السلام لمعرفة الوحي والاطمئنان اليه والاستسلام لاوامره ومقرراته !!.

وحتى عندما سأل الله سبحانه عالم كل شيئ موسى عن تلك التي بيمينه ليلفت نظره لفعلها قال هي عصاي فلما امره بالقائها لتنقلب الى حية تسعى ، ارتبك موسى لانقلابها وولى هاربا ، قبل ان يقول له الله سبحانه : (( ياموسى اقبل ولاتخف إنك من الامنين )) ، وهذا كله وموسى قد تعارف مع الوحي الالهي بصورة عرفية بشرية فكيف اذا كان موسى واقعا تحت لغز محير ككلمة الوحي الالهية الاسلامية (( اقرأ )) فقط بلا مقدمات ولاتعارفات ولا مهدئات !؟.



إن الاختلاف في كيفية التعارف المنقولة لنا قرآنيا ، بين موسى وكلمة الوحي الابتدائية من جهة ، وبين محمد الرسول وكلمة القرآن العليا ( اقرأ ) تدفعنا للتسائل عن سرّ وحكمة وماهية هذا الاختلاف ، ولماذا عندما كان الوحي موجها لموسى الرسول عليه السلام كان التعارف بين موسى والوحي تعارفا عرفيا انسانيا بين ( اني انا الله رب العالمين) وبين موسى سليل الانبياء والمرسلين ع ، بينما كان بشكل ايضا مفاجئ ، لمحمد الرسول سليل نبي الله ابراهيم واسماعيل ، لكنه بصيغة (اقرأ) التي لم تكن تتقدمها عملية تعارف عرفية انسانية لتقول لمحمد الرسول صلى الله عليه وسلم ب (( اني انا الله رب العالمين )) ليدخل محمد الرسول في عملية تلقي الوحي بصورة سلمية وليست نزاعية كما يروي لنا التاريخ في كلمة القرآن (اقرأ) وما احدثته من ردّة فعل بشرية طبيعية في جواب :(( ما اقرأ ؟، ما انا بقارئ !.)) ؟.

فياترى ما الحكمة اولا : بين كلا الاختلافين في تلقي كلمة الوحي الالهية الاولى ؟.

وثانيا : لماذا كان هذا الاختلاف في تلقي الوحي بين محمد الرسول الخاتم ص من جهة وبين باقي الانبياء والرسل من جانب آخر عليهم السلام جميعا ؟.

لاريب ان اختلاف مشروع محمدالرسول الخاتم صلى الله عليه واله وسلم عن باقي مشاريع الرسل والانبياءالسابقين هو الذي فرض معادلة الوحي وتلقيه ايضا من البداية الى النهايةفمشروع ومعجزة محمدالرسول ص مختلفة بطبيعة الحال عن مشروع ومعاجز الانبياء والرسل السابقين ، لاسيما اختلاف ماهية المعاجز ، بين معجزة خاتم الرسل والانبياء محمد ص وبين معاجز باقي الرسل والانبياء فبينما كان الرسل السابقين معاجزهم كونية اوطبيعية او انفسية تخترق العادة من المألوف البشري جاء معجزخاتم الرسل والانبياء مادة مقروءة فحسب متجسدة بالقرآن الكريم ،او بمعنى اخر بينما كانت معاجز موسى عليه السلام مثلا تسع ايات كلها تتمكن من خرق العادة والمألوف البشري في الكون والطبيعة كانقلاب العصا ثعبان عظيم او ضرب البحر وانفلاقه الى جبلين جامدين او اخراج اليد بيضاء او تفجير عيون ماء من صخر اصم يحمل بجلباب .... كل هذا مثلت معاجز رسالية تدعم صدق دعوى الرسل والانبياء بصدق صلتهم بالسماءاما خاتم الرسل العظيم محمد ص فقد اعلن للعالم ان معجزة نبوته ورسالته هي القرآن فحسب باعتبار ان القرآن هو المعجزة الخاتمة للبشرية التي ستستمر مع الانسان كيفما استمر في هذا العالم الى ان يرث الله الارض ومن عليها !!.

وبهذا المعنى اختلفت معادلةالاعجازالتي كانت تتناغم وسذاجة التلقي البشري المادي في حقب الرسل والانبياء السابقين على محمد الرسول ص ، الى معجزة تتعامل مع النمو والتطور ، والتكامل البشري بنوع من الاحترام ووضع المسؤولية على العقل البشري ليختار بملئ ارادته بين طريق الله سبحانه الذي يوضحه بمعجزته القرآنية ، وبين طريق غيره الذي ينتخبه الانسان بارادته وعقله !!.

إن الاختلاف بين معجزة موسى الطبيعية ومعجزة محمد القرآنية هو الاختلاف الذي يشرح لنا لماذا كانت كلمة الوحي الاولى لموسى تعارفية عرفية انسانية ب (اني انا الله رب العالمين) بينما كانت كلمة الوحي الالهية الاسلامية ب ((اقرأ )) فالمعجزة هنا تغيرت ، فكان حتما تغير بداية المشروع الرسالي على هذا الاساس ، فلو كانت فرضاً معجزة موسى قرآنية ايضا لشهدنا كيفية تغير معادلة الوحي البدائية ايضا تقع لموسى كما وقعت لمحمد الرسول ص ، ولكن وبما ان موسى معجزته التي ترفد صدق رسالته كانت مادية فقد تغيرت معادلة التعارف تبعا لذالك بين الوحي وموسى ع اما محمد الرسول فكانت معجزته عين كتابه فتحولت الكلمات المقروءة من فعلها الطبيعي الى فعلها الاعجازي الكبير !!.

في القرآن يصف كلمة الوحي النازلة من الله سبحانه وتعالى الى الرسول محمد ص بانها كلمة ثقيلة جدا بقوله : (( لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون / 21 الحشر)).

اي ان من مميزات الكلمة القرآنية انها كلمة لها فعل الاعجاز القوي الذي لو فرض انه نازلا على هامة جبل من الجبال لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله سبحانه وتعالى ، ومعلوم لدينا ان الجبال هذه الرواسي في الطبيعة الكونية لاتخشع ولاتتصدع ولاتدك ...الا اذا تجلى لها الله سبحانه وتعالى بعظمته وجبروته وكامل هيبته :(( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّا وخر موسى صعقا )) وبهذا علمنا ان كلمات الله سبحانه وتعالى القرآنية هي التجلّي الاعظم الذي قال عنه الامام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام :(( لقد تجلّى الله لخلقه بكلامه ، ولكنهم لايبصرون )) !.

اي انه وبنص القرآن الكريم يتحدث عن ان تجلٍ واحد لله سبحانه وتعالى لجبل وموسى ماكان لهذا الجبل الا ان يندك ، وما كان من موسى الا خروره صعقا ، فكيف اذا تصورنا نزول وتجليات الله سبحانه بالقرآن كله على موسى ع وجبال الدنيا كلها فهل كانت لتستطيع حمل هذا التجلي العظيم لله سبحانه بكلماته القرآنيات التامات ؟.

وهكذا عندما تحول فعل الاعجاز من المادة الطبيعية والكونية الى الكلمة المقروءة ، اصبح نزول هذه الكلمة المقروءة كمعجزة شيئ لايستوعب تلقيه غيرانسان بعظمة محمد الرسول وقدرته اللامتناهية في استيعاب تجليات الله العظمى في كلماته القرآنية منذ بدايتها ب (( اقرأ )) وحتى نهايتها باخر كلمة قرانية تودع الانسانية مع وداع محمد الرسول من هذه الدنيا !!.

إن (( اقرأ )) القرآنية كانت اول تجلٍ الهي يقتحم حياة محمد الرسول العابد بغار حراء بشكل ضغطة كونية وطبيعية عظيمة بعظم محمد رسول الله في هذه الحياة ، وكان يمكن لعملية التعارف بين محمد الرسول ص وبين الوحي ان تكون بنوع وحي التعارف الهادئ الذي يقول :(( يامحمد اني انا الله رب العالمين )) لكن هذا النوع من الوحي هو ليس نوعا يحمل اعجازا في داخله لدرجة ارتقاءه الى كونه تجلٍ لله سبحانه الى خلقه ، وانما هو نوع وحي بحاجة الى معجزة كونية خارجية تسند وترفد صدقه عندالعالمين ولهذا كانت كل كتب الوحي الالهية الرسالية السابقةعلى محمد بحاجة الى معجزة خارجية ليتقبلها الانسان انذاك على اساس انها كلمات من الله يجب طاعتها والالتزام بها ،ولهذا اقترنت فاعلية تلك الكتب بهذه المعاجز وعندما انفصل الاعجاز عن الكتاب سرعان ما فقدت كتب السماء والوحي السابقة خاصيتها بالاستمرار ، والنقاء والصدق والتاثير والارتباط بالله سبحانه وتعالى !!.

أما ((اقرأ )) القرآنية فهي الكلمة التي تحمل اعجازها بين جوانحها وهي ليست بحاجة الى معجزة تؤكد للبشرية انها من عند الله سبحانه وتعالى ، لانها هي بالفعل معجزة المعجزة ، ولهذا كانت هي هي كلمة الله ومعجزته التي تجلى بها لخلقه في الآن الواحد ومعا !!.



ولو فرضنا ان هذه الكلمة القرآنية (( اقرأ )) عندما هبطت على العظيم محمد لم تحدث اي هزة كيانية لمحمد الرسول ص ولم يهتز امامها محمد الرسول بجوابه المتسائل والنافي ب (( ما اقرأ ؟وما انا بقارئ )) لتعود بضغطة تجليها مرّة اخرى لتطالب محمد الرسول بالقراءة مرّة اخرى بشكل (( اقرأ )) لادركنا انها كلمة لاتحمل اعجازها بين ضلوعها وانها كلمة وحي صحيح لكنها بحاجة الى معجزة تردف من صدقها للعالمين !!.

اما والحال ان كلمة ((اقرأ )) القرآنية هي المعجزة وهي التجلي الالهي والامر الالهي والعظمة الالهية والصدق الالهي لرسالة العظيم محمد ص ، فلا باب لها الا ان تكون فجأة ب ( اقرأ ) لتحدث صدمة التجلّي الالهي لمحمد ص في غار حراء وهو على موعد تلقي وحي ، ليس هو كوحي نوح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام جميعا الذين تلقوا الوحي من الدرجة الثانية التي هي بحاجة الى معاجز ، لترفد من قوتها بل هو وحي معجزة ، مختلف في قوته عن جميع ماكان حاملا من الله سبحانه للبشرية جميعا .... وللفصل بقية !!.

__________________________________

alshakerr@yahoo.com

http://www.blogger.com/profile/06210792549531027877