الاثنين، سبتمبر 09، 2013

((محنة الدرس الفلسفي في جامعاتنا العلمية وحوزاتنا الدينية)) 2/ 2

((محنة الدرس الفلسفي في جامعاتنا العلمية وحوزاتنا الدينية)) 2/ 2 حميد الشاكر






كيف نعي ظاهرة (التقارن) التاريخية بين ولادة مشروع الفلسفة العربية والاسلامية( 173 هجرية) وبين ولادة وانشاء الحضارة في تلك المرحلة وبكل ابعادها الانسانية السياسية والاقتصادية والفكرية الثقافية والاجتماعية والادبية والفنية .... ؟.



كما انه كيف لنا وعيَّ ظاهرة سقوط هذه الحضارة ( 656 هجرية) متقارنة مع اسقاط مشروع الفلسفة والاجهاز على فلاسفتها بالتآزر بين قوى التكفير السلفية ، وقوى الفساد والانحطاط السياسية ؟.



هذا هوالسؤال الذي توقفنا عنده في السابق ليكون منصة من خلالها نتعرف على ماهية مشروع الفلسفة وفعلها الدينامي في بناء اي حضارة انسانية !.



طبعا للذين يحاولون فهم وادراك ماهية الفلسفة وبشكل عام وقبل ان نجيب على سؤالنا ذاك ، عليهم ان يدركوا انهم لا يتمكنون من فهم ماهية الفلسفة الا اذا تناولوا الفلسفة على انها (مشروع) جماعي ومدرسة اكاديمية فكرية متكاملة وليس انتاج فردي مبعثر وظاهرة منزوية عن الاجتماع والحضارة !.

اي ان دارس الفلسفة والباحث في ماهياتها والمتتبع لمقاصد فلاسفتها ..... لايمكن له ان يعي ((ماهي الفلسفة )) باطارها وحركتها العامة ، اذا لم يكن منذ البداية ينظرللفلسفة على انها (نهر جار ومتدفق وتشكل عملية اتصالية) متوالية تنتقل بمشروعها من هذه الامة الى تلك بلا انقطاعات كبيرة !!.

هكذا يمكننا ان نفهم اول خطوات الفلسفة بمشروعها الفكري البنائي الذي لاينتمي لأي لغة قومية او دينية او اثنية او ..... غير اللغة الانسانية العقلية الفكرية التي تعنى بالارتقاء بالفكرالانساني وكيفماكانت جغرافيته او وضعه الاخر !!.

كما ويمكننا من خلال هذه النظرة ل( مشروع الفلسفة )ان نعي ماهية انتقال هذا المشروع من امة الى اخرى ك( باكيج ) واحد وليس كافكارمشتتة من جهة ؟.

وكيف ان الامة التي تتهيئ ذهنيا لاستقبال مشروع التفكير والابداع وبناء الحضارة الانسانية هي الاحق بحط ترحال مشروع الفلسفة ،ليساهم في بناء ونهضة هذه الحضارة الانسانية ، بغض النظر عن تسميتها ، مرة باليونانية واخرى بالاسلامية وثالثة بالاوربية .... !.

ان من اهم مميزات ((المشروع الفلسفي الانساني )) انه مشروع ولد ديناميا حركيا لايدرك معنى الشيخوخة والاستسلام للموت ولهذا تجد بوادر ولادته المتجددة متنقلة مع ولادة الحضارات الانسانية واينما كانت ، فعندما كانت دورة الحضارة للامة اليونانية تاريخيا ،واستعدت هذه الامة لاستقبال انماط التفكير المتفجر بالابداع والبناء والتطور فسرعان ما تشكلت براعم الفلسفة وتفتحت ازهارها الندية لتدفع من نهضة هذه الامة حضاريا وتقود مشروع مدنيتها الكبير في البناء العقدي والسياسي والقانوني والهندسي ...انذاك !!.



وما ان دبت الشيخوخة في مفاصل هذه الامة ،وادارت بظهرها لفن التفكير بصناعة الحياة ، والانسان ، وولدت في المقابل امه جديدة ( تقدس العقلنة ) وتتطلع للتفكير في اقطار السموات والارض والانفس والافاق.... كما ورد في النص القراني الاسلامي الحث على التفكير ، وتقديسه والايمان بالعقلنة ومنتجاتها العلمية ... انتقلت الفلسفة بكل بضاعتها للعالم العربي الاسلامي لتفرض نفسها (( كممون)) لايمكن لحضارة ان تقوم بدونه ، وبالفعل ولدت الفلسفة على يد الكندي في بغداد لتدخل معها افاق التفكير الرحبة والواسعة للرؤية السياسية والقانونية والهندسية والطبيع والعمرانية ... ولتشد من ازر نهوض الحضارة العربية والاسلامية !!.



ونفس السنة والقانون التاريخي الذي سارعلى الامة اليونانية في شيخوختها الحضارية سار هو الاخر على شيخوخة وهرم الحضارة العربية الاسلامية ومغادرة مشروع الفلسفة لهذه الامة الهرمة والبحث عن امة هي في طور الولادة ، وتقديس الفكر والايمان بالعقلنة ، ومنتجاتها العلمية ، فكانت اوربا وهي تستعد للتفكيرالفلسفي المتطلع والرحب والواسع محطة الفلسفة القادمة التي ستساهم هذه الفلسفة بمشروعهاالانساني بايصالها لعصرالصناعة وبناء الحضارة الصناعية في وقتنا المعاصر .... !!.



اذاً الفلسفة ((مشروع)) له خصائصه ومميزاته ، وكذا له قوانينه وحاضناته الطبيعية الانسانية التي كلما توفرت اجتماعيا وانسانيا وجدت الفلسفة نفسها مدفوعة للدخول على بناء خط الحضارة في هذه الامة من جهة ، ووجدت الامة نفسها طالبة لهذا المشروع ، الذي لاغنى لاي امة ، تحاول النهوض الحضاري بدون الاستعانة به وباستراتيجياته الفكرية !.



نعم من الجانب الاخر ، لفعل مشروع الفلسفة في البناء الحضاري الانساني لايمكن اغفال خصيصية : ان الفلسفة وتاريخيا كانت ((أمّا )) لجميع العلوم الانسانية القديمة قبل ان تستقل هذه العلوم اليوم ليصبح كل علم مستقل بذاته وهذا يعطي تاريخيا للفلسفة صفة الشمول والجامعة العلمية المتكاملة انذاك !.

ما يعني : ان الفلسفة لم تكن فقط شانها شأن التعريف الحديث للفلسفة عندما جردت من كافة صفوفها العلمية (( رياضيات وهندسة وطب وكيمياء وفلك وطبيعيات ...)) لتعرّف على انها (( فن معرفة عمل الذهن الانساني )) او على انها : (( فن معرفة طرق التفكير البشري للوصول الى الحقيقة )) !!.

بل كانت الفلسفة جامعة علمية متكاملة وكان الفيلسوف يبرع باكثر من علم بالاضافة لفلسفته ، فابن طفيل او ابن سينا او ابن رشد او الفارابي ... كان فيلسوفا الى جانب كونه موسيقيا ، او طبيبا ، او فلكيا ، او عالم بالطبيعة او سياسيا او عالما بالقانون والحقوق ...... وهكذا ، كما كانت الفلسفة جامعة علمية متكاملة كان الفيلسوف برفسورا يحمل اكثرمن شهادة جامعية ويبرع باكثر من مجال علمي ، وهذا ما جعل من الفلسفة مشروعا لايمكن ان تقوم حضارة في التاريخ الانساني اذا لم تستعن بمنتجاته العلمية فالحضارة على اي حال هي تلك المجموعة العلمية المتكاملة ، والناهضة داخل فعل اي امة من رؤية سياسيةوقانونية وحقوقية ومن طب يعالج الابدان وعمران ينهض من خلال الهندسة بالبناء ، ومن موسيقا وادوات صناعة وانتاج .... وباقي التطور الطبيعي لاي حضارة في فن صناعة التقدم والتطور الانساني وكل هذا كانت توفره الفلسفة انذاك من خلال مشروعها المتكامل بقيادة الفلاسفة اللذين هم الاقدر بادارة صنعتهم ومشروعهم الحضاري !!.



ان هذه الرؤية ، لمشروع الفلسفة وفلاسفتها هي ، التي تقربنا خطوة لوعي وادراك مقولتنا الانفة الذكر حول (ضرورة وحتمية التقارن) بين المشروع الفلسفي تاريخيا من جهة والمشروع الحضاري من جانب اخر وهي ايضا التي تساعدنا على فهم الرابطة بين اي امة تحترم العقلنة ومنتجاتها الفكرية والعلمية ، وبين مشروع الفلسفة القائم اساسا على فن التفكير ، والابداع فيه وعلى هذا ذكرنا : انه لاتوجد امة مفكرة بلا مشروع فلسفة ، ولامشروع فلسفة يصلح ان يكون في امة لاتقدس العقلنة والتفكير !!.



في اوربا وفي بدايات نهضتها الفكرية (( 1214 م /بداية مع روجر بيكون وحتى فرنسيس بيكون / 1626 م )) كانت الفلسفة هي اللاعب الاساس في الساحة العقلية والعلمية الاوربية انذاك وكانت الفلسفة العربية الاسلامية مع الارسطية اليونانية ، التي غادرت اخر معاقل الفلسفة العربية الاسلامية في المغرب العربي الاسلامي تنتقل الى اوربا لتكون هي الشغل الشاغل للعقل الاوربي الجديد وما ان فجرت الفلسفة (اليونانية الاسلامية ) صاعق التفكير الاوربي حتى اتجهت العقلية الاوربية للبحث عن الجديد والانتاج من الفكر العلمي ، وكما هي سنة ، وقوانين الصراع والتدافع الانسانية ناهضت قوى الاستبداد السياسي ، والظلام الكنسي هذا المشروع الفلسفي الجديد بحجج مختلفة سياسية ودينية ، ومن الطبيعي كما ذكرناه سابقا ان يصطدم مشروع الفلسفة التجديدي مع الوضع القائم القديم فالفلسفة مشروع قائم ومركب على البحث عن الجديد ، في الفكر وفي النظام السياسي ، وفي القانون والحقوق والواجبات ...، كما انه مشروع يؤمن بالعلم ومنتجاته الفلسفية والتجريبية مما يطرح موضوعة التصادم مع ((الخرافي والاسطوري))الشعبي والديني شيئ شبه المؤكد !.



ان اخطرماواجه مشروع الفلسفة من مناهضات وحروب علنية في تاريخها الطويل ، وحتى اليوم هو ليس تلك الاساليب التقليدية التاريخية التي كانت تتهم الفلسفة مرة باثارة القلق السياسي او بالزندقة واخرى بضررها الفادح على عقيدة الجمهور الدينية ، مع انه لم تزل هذه الاساليب تناهض مشروع الفلسفة وتحاول ابعاده حتى اليوم عن الحوزات الدينية والجامعات الرسمية السياسية ، بنفس الحجج والمنطلقات ، ولكن ما هو الاخطر هو تلك الدعوة التي اطلقت ضد مشروع الفلسفة الحديثة باسم العلم التجريبي الحديث ومفاد هذه التهمة الجديدة لمشروع الفلسفة قائمة على((ان الفلسفة باسلوب تفكيرها الارسطي الاستنباطي هي احد عوامل تجميد الفكر الانساني ، وابتعاده عن التفكير العلمي التجريبي المتطور والنافع )) !!.



والحقيقة ان هذه التهمة هي وليدة (( تيار تجريبي مادي علمي حديث)) بدأ تقريبا في نهايات القرن السابع عشر الميلادي ليتخذ من الفلسفة ومشروعها هدف جديد ، لمناهضت كل ما هو (غير تجريبي) ولا استقرائي في التفكير ومناهج العلم !.

والحقيقة نحن الان ليس بصددمناقشةهذا التيارالتجريبي المناهض للمشروع الفلسفي الحديث لان قادة (الفلسفة الارسطية الاسلامية العقلية) في العصر الحديث قد باحثواهذا التيار العلمي المادي واوضحواخطل هذا التيارباتهامه للفلسفة ومشروعها ، بكل ماهو لا يمت بصله لفن التفكير الفلسفي ومناهجه المختلفة المقاصد عن مقاصد ومناهج التفكير التجريبي العلمي !.

لكن بقيت هذه الدعوة المادية العلمية هي : من اشد الاساليب ايلاما ووجعا لمشروع الفلسفة اليوم ،ومناهضة ايضا لعودة مشروع الفلسفة ليتخذ وضعه الطبيعي في بناء الحضارة الانسانية المعاصرة بشكلها الفكري المختلف !!.



نعم ان هذه الدعوة ربما كانت هي السبب التي دفعت ( مثلا ) جامعة بغداد للاداب ، التي تاسست في 1948م ان تلغي (تدريس مادة الفلسفة) في هذه الجامعة سنة 1954م وربما هي ايضاوتحت وطأة الخداع الذي مورس ضد الفلسفة الحديثة ان تدفع بالكثير من المواقف العلمية المتشنجة لتتهم الفلسفة بانها سبب تخلف الكثير من الدراسات العلمية والاكاديمية !!.



والحقيقة انه يكفي هنا ، للرد على هذه المزاعم الباطلة القول : ان حضارة انسانية يقودها العلم التجريبي فقط اليوم بلا فلسفة ورؤية فلسفية لا تختلف كثيرا في انغلاقها الفكري عن عالم ، كانت تقوده النفعية السياسية والسلفية الدينية بلا فلسفة فكرية !.

ان مشروع الفلسفة لم يكن في يوم من الايام مشروعا نخبويا ، او فئويا او مختصا بحقل علمي دون اخر ، ليناهضه الماديون اليوم تحت ذريعة مناهج التفكيرالعلمية اوغيرالعلمية بل ان مشروع الفلسفة ومنذ ولادته وحتى اليوم هو مشروع امة وجمهور ومجتمع ، قبل ان يكون مشروع معامل تجريب وتحليل او مشروع سياسة فحسب او مشروع قوانين واجتهاد وبناء ، ولهذا ما من امة ينزوي عنهاالمشروع الفلسفي اوهي تنزوي عن مشروع التفكير الفلسفي الا كانت امة ميتة وتابعة ومنقادة ولا فعل لها في هذه الحياة !!.

هذا ما يقدمه المشروع الفلسفي اليوم ، لاي امة تحاول اعادة بناء حضارتها الانسانية الغاطسة !.

وهذا ما يقدمه المشروع الفلسفي لكل ابعاد الحياة الانسانية عقديا في امكانية مشروع الفلسفة من تجديد الوعي الديني واصلاحه ،وسياسيا بطرح حكومة الفلاسفة والمفكرين القادرين على فهم الادارة والقيادة ،وقانونيا بقدرته على وعي القانون وماهية وظائفه ومقاصده وفنيا واقتصاديا وتربويا واجتماعيا وعلميا ......الخ !!.

هذا هو مضمون المشروع الفلسفي الذي عندما غيّب مع الاسف في العصر الحديث اصبحت الالة واذرع المصانع والرسمال ... هو المتحكم في عقل الانسان واساليب تفكيره ، بدلا من ان يكون الانسان هو سيد الالة وسيد العالم من حوله !!.



alshakerr@yahoo.com



مدونتي

http://7araa.blogspot.com/





الأحد، سبتمبر 08، 2013

((محنة الدرس الفلسفي في جامعاتنا العلمية وحوزتنا الدينية)) 1/ 2

((محنة الدرس الفلسفي في جامعاتنا العلمية وحوزتنا الدينية)) 1/ 2  حميد الشاكر


منذ تاسيس(مشروع الفلسفة) انسانيا وحتى وصوله الى شكله التقني المهني الاكاديمي يونانيا ((تقريبا من 450 ق م والى 300 ق م سقراط ، افلاطون ، ارسطوا )) ، ومرورا باتساعه وتشعباته عربيا واسلاميا (( من 170 هج 786م بريادة  فيلسوف العرب الكندي، الى 595 هج ، نهاية عصر الفلسفة عربيا اسلاميا ، ابن رشد 1198م )) ، وانتقاله الى العالم الاوربي الوسيط بقيادة (( بيكون )) حتى عصر النهضة الصناعية الحديثة .....، والى اليوم تعرض هذا المشروع لحملات مناهضة، متعددة الاشكال ومتنوعة الاسباب والاساليب والدوافع !!.

والحقيقة ان المتابع لتاريخ الفلسفة الانسانية في بداياتها وتطوراتها وتنقلاتها البشرية   .... سيكتشف الكثير والعظيم من الاشكاليات التي اعترضت هذه الفلسفة وفي محطات اجتماعية وسياسية وانسانية ودينية ...... متنوعة ولا يجمعها جامع سوى مناهضة هذا الخط العقلي الفلسفي، الذي لم ينهض  في مسيره الطويل الا ليؤكد ( كرامة الانسان )  وادميته في عقله وفكره لاغير ولكن، ومع ذالك ومع نبل اهداف المشروع ، وسمو معانيه واصالة دوافعه ونظافة وسائله ... كان نصيبه من المعاناة تأريخيا وحتى اليوم كئيبا بالفعل الى درجة ، ان كثيرا من المفاصل التاريخية المهمة  لهذا المشروع  كانت التضحيات فيه جسيمة جدا ، ابتدأت بالحكم بالاعدام (انتحارا) على مؤسس الفلسفة العقلية اليونانية (سقراط) ولم تقف عند سجن وتعذيب وقتل الفلاسفة في العصرالعربي من (ابن سينا) والى ابن طفيل ، وحرق مؤلفات ابن رشد ونفيه وفرض الاقامة الجبرية عليه والى استشهاد السهروردي وحتى حرق عظام موتى فلاسفة اوربا ، والمطالبة بدفنهم مع حظائر الخنازير في اوربا !!.

نعم عانت الفلسفة وبجميع تنوعات ((فلاسفتها العقليين)) الكبارلحقب طويلة وشنت لابادة الفلسفة ،  وكل من ينتمي لها ايمانا وفكرا وتدريسا ومناصرة ودعوة .... الخ ، حملات لم تقف حتى اليوم ، وباساليب غاية في الارهاب والظلامية والتنوع في الكيد والمكر والقسوة ، لربيبة ووليدة العقل الانساني المستنير المسماة ب (( الفلسفة )) !.

في العصر اليوناني حكم على (سقراط)  من قبل النظام السياسي والقضائي اليوناني الديمقراطي بالموت بتهمة : (افساد شباب اثينا / 1) مع ان سقراط الحكيم كان هو في اطار تاسيس مشروع مناهض للافساد  والفوضوية التي كانت تقوده (المدرسة السوفسطائية) اليونانية التي بالفعل شرذمت من روح ((الوحدة الفكرية للمجتمع الاثيني)) انذاك ،ولكن وبدلا من ان يكون ضحية هذا الافساد الفكري قادة المدرسة السوفسطائية المشككة بكل الحقائق العقلية البشرية  كان الموت والحكم به من نصيب مؤسس المدرسة الفلسفية العقلية (( سقراط )) الذي اسس تلميذ تلميذه افلاطون (ارسطو)  المنطق الارسطي لها وقعد من اصول التفكير البشري ، واوصله الى الثبات والايمان بحقائق الحياة الاساسية والذي بالنتيجة اعاد لاثينا ومجتمعها اليوناني انذاك ووحدته الفكرية والوطنية وحتى الانسانية ، ورفع من مجد الامة اليونانية لاكثر من الفي وخمسمائة سنة متواصلة  لزعامة الامة الاثينية للفكر الفلسفي العالمي البشري حتى اليوم !!.

ليس الحال بافضل مما كان في العصر اليوناني على فلاسفته ، عندما تسيد العالم تاريخيا العصرالعربي الاسلامي الذي بدأبثورة تجديدية عقليه تنويرية قادها العباسيون / 132 هجرية ،على الظلامية القبلية الجاهلية الاموية التي لم تكن تحمل اي تطلعات حضارية اسلامية عقلية كبرى ، وما ان استقرت الدولة العباسية ، وفتحت ابواب نهضتها للعقل وفلاسفته ، وساهمت بادخال المنتوج الفكري الفلسفي اليوناني للعالم العربي ، والاسلامي ، وبرزت اول براعم النهوض الفكري الفلسفي العربي بولادة  فيلسوف العرب ابو يوسف يعقوب ابن اسحاق الكندي / 185 هج ، 256 هجرية / ،  حتى بدأت حالة التقهقر الحضاري تعود دورتها على الحضارة العربية ، والاسلامية لتصعد على اثرذالك نتوءات التراجع والانحطاط الفكرية ، بقيادة نفعيون لايحملون اي مشروع سياسي ، انساني عالمي كبير ، الى بروز ظواهر الذيلية  لتلك التراجعات ، من قبيل صعود التيارات السلفية التكفيرية الدينية المنغلقة التي تساهم كعادتها باعطاء الشرعية للسلطة الفاسدة القائمة من جهة ، وتبنى بيد اخرى مشروعها الظلامي الاقصائي المدمر  ضد كل ماهو فكري او عقلي او فلسفي او علمي او مجتمعي مستنير من جانب اخر !!.

بدأت مقصلة التراجعات العربية ، والاسلامية مبكرا ،  لحزّر قاب الفلاسفة وفلسفتهم العقلية في تاريخ هذه المجتمعات والدول وبدأت مطاردتهم سياسيا اولا : ((بسبب صلة الفلسفة بالتنظير السياسي للدولة الفاضلة ،  وجمهورية القانون والعدالة والفلاسفة ...)) ، لتتحول بعد ((ابن سينا))  لمطاردة دينية يحاول الساسة من خلال وعاظ سلاطينهم مطاردة الفلسفة على انها(( خطر على الدين والعقيدة في الاسلام))ليحشدوا اكبر قدر ممكن من جمهورالحشد والبساطة ، لدعم مشروع  تغييب العقل ، وادخال الامة في ظلامية الانقياد والتبعية السياسية العمياء  فانتهز (وعاظ السلاطين من الدينيين التكفيريين) هذه الفرصة للانقضاض على المشروع الفلسفي التنويري، الذي يعتقد كثير من رجال الدين الرسميين  انه المنافس الابرز ، لنفوذهم الفكري والمعنوي على الجمهور فكانت فرمانات((الغزالي/ 450 هج 505 هج)) في ((تهافت الفلاسفة)) وتكفيرهم ، ومن بعده  فتوى (( ابن الصلاح ))، التي حكمت ب (( ان الفلسفة شرّ مطلق )) ، ثم جاءت فتوى ((ابن تيمية / 728 هجرية )) التي حرّمت قراءة الفلسفة ورمي ابن سينا بالتحديد بالالحاد المطلق ....الخ !.

وهكذا دارت عجلة الارهاب الفكري ((بداية من 232 هجرية قيادة المتوكل العباسي )) في التاريخ العربي الاسلامي بملاحقة لكل ماهو فلسفي فكري ، حتى تصفيت الجيوب السرية لهذا المشروع الفلسفي الذي انتهى بالفعل مع اوعلى الادق((مقارنة)) بسقوط الحضارة العربية الاسلامية على يد المغول في عاصمة الحضارة الاسلامية بغداد في العراق انذاك !!.
والحقيقة ان ما يلفت النظر تاريخيا  بقوة في ظاهرة ولادة ونهوض وتطور .. المشروع الفلسفي العربي والاسلامي قبل اسقاط هذا المشروع  هو ليس تلك الاساليب الملتوية ، التي استخدمت سياسيا وسلفيا دينا ظلاميا للاجهاز على الفلسفة ومشروعها عربيا ، بل ما يلفت النظر الفكري ماهو اعمق من ذالك بكثير وهو (( التقارن )) الذي بدى واضحا بين بناء الحضارة العربية والاسلامية من جهة و((ولادة الفلسفة ، ومساهمتها الاصيلة)) في هذا البناء الحضاري الكبير من جانب اخر !!.

اي انه ومع ان اساليب اعداءالفلسفة ومشروعها كانت من الهبوط الاخلاقي بحيث كان يتم فيهااستخدام السياسة والدين من اجل ضرب مشروع الفلسفة العقلية ومحاصرة كل حركيتها التنويرية ومع ان دعوى: الخطر على الدين من قبل الفلسفة كانت مجرد دعوى فارغة ولا اساس لها من الواقعية بسبب ان معظم الفلاسفة كانوا ولم يزالوا من كباررجال الفكرالاسلامي والمؤمنين به المنافحين عن حوزته بكل اخلاص وتفان وبوعي اسلامي قراني يحترم العقلنة ويقدس من كينونتها .... على الرغم من خطرية كل ذالك وضرورة دراسته بشكل معمق لادراك ماعاناه المشروع الفلسفي من حصارات ، لكن تبقى السمة الابرز ، لظواهرمشروع الفلسفة في التاريخ العربي والاسلامي هي تلك السمة (التقارنية)  بين هذا المشروع الفكري العقلي العلمي الفلسفي من جهة وبناء دعائم الحضارة العربية الاسلامية من جانب اخر !!.      
وهذا في الحقيقة ما يدفعنا لتسليط الاضواء على هذه الظاهرة  والسؤال عن فحواها ب : لماذا ؟ ، وماهي الاسباب الواقعية  التي حتمت اقتران نهوض الحضارة العربية الاسلامية عمرانيا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وفنيا وادبيا ..... في تاريخ العرب والمسلمين بين (( التفكير الفلسفي وولادته في ذالك العالم )) من جهة ، وبروز دواميك النهضة لهذه الامة حضاريا مع ان هذه الامة للتو خرجت من التاريخ الاموي لنفس المسلمين ولكن ببنية اجتماعية قبلية بدوية اشبه بالجاهلية لعهد قريب من جانب اخر  ؟.
بمعنى آخر: كيف لنا ونحن ندرس تاريخ هذه الامة مابعد الوجود الاسلامي ان ندرك عوامل واسباب النهضة العربية الاسلامية وفي كل الاتجاهات في بدايات العهد العباسي العربي الاسلامي بالتحديد ؟.
وهل هي اسباب وعوامل سياسية في الحقيقة فقط ؟.
ام ان هناك اسباب اقتصادية واجتماعية وعقدية ايضا ؟.
او ان الاسباب ، والعوامل التي خلقت او ساهمت بصناعة مشروع النهضة الحضاري العربي الاسلامي عمرانياوسياسيا واقتصاديا وفنيا...كانت اسبابا وعوامل تتصل بالجانب الفكري وبالخصوص الجانب الفلسفي الذي غيرمن رؤية ونظرة الانسان العربي والاسلامي انذاك للحياة والعالم والانسان ؟.
هذا ما سنحاول الاجابة عليه لاحقا ...!.


مدونتي

الأربعاء، سبتمبر 04، 2013

(( ورقة الملك فيصل الاول لانشاء الدولة العراقية الحديثة )) بعد العاشرة الاخيرة

كنت اتمنى ان استمر في تناول هذه الورقة الفيصلية اليتيمة ، وما جاء فيها من مفاهيم ، ومفردات سياسية تورخ لاهم حقبة تاريخية في تاسيس العراق الحديث ، فما زال (من وجهة نظري) الكثيرمن المحاور الفكرية والسياسية التي تختزلها هذه الورقة وعلى مستويات عدة تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية .. وغير ذالك ، بحاجة الى الابراز والجدل نحوها والكتابة في مضامينها ومناقشة فحواها ومقاصدها ... وما الى هنالك   !!.
لكن ( وهذه هي حالنا ) مشاغل الزمان وهموم العيش تقعد بهممنا لمواصلة مثل هكذا مطاردات نرى انها من الاهمية بمكان لاعادة قراءة وانتاج تاريخ هذه الامة العراقية الحديثة ، وبكل مفاصلها  الاساسية  : الفكرية والسياسية والسوسيولوجية والفلسفية .... الخ !.
نعم ربما لامسنا اساس رؤيتنا للموضوع ، وطرحنا الخط العريض لأسلوب تناولنا لمثل هكذا محاور ،  لاسيما موضوع  هذه الورقة الفيصلية السياسية المهمة ، بعشرمقالات متتالية ، بحثنا من خلالها كما نعتقد اهم المحاورالتي جاءت في هذه الورقة وهي محاور (( صناعة الدولة وبناء مواطنيتها وفكر الملك فيصل الاول ( رحمه الله )  ، وما كان يتمتع به هذا الرجل من حنكة سياسية ، وكيفية استطاعته صناعة هذا التاريخ العراقي الحديث ..... وكنا نتمنى ان نستمراكثرلنتناول ما انجزه الملك فيصل من تاسيسات اخرى وفي جميع الجوانب من قبيل الجانب العلمي والمعرفي والتربوي للعراق الحديث وكيف انه استطاع ارساء (( قواعد التعليم )) في هذا البلد حتى انتج لنا هذا التعليم عباقرة الفكر العراقي الحديث  !.
وهكذا في بناء فيصل الاول رحمه الله وتاسيسه للمؤسسة العسكرية  وتفوق هذه المؤسسة مهنيا ، وبلوغها الى مرحلة من القوة ، والصلابة بحيث بزت اقرانها ((لعقدين فقط من الانشاء)) من جيوش المنطقة العربية  والاسلامية في المهنية والتطور قبل ان تُختطف من قبل عصابات الانقلابات العسكرية وصرفها الى غيروظائفها المؤسسسية !!.
ونفس الكلام يمكن قوله في بناء فيصل الاول للاقتصاد العراقي ، والفن في العراق ..... الخ !!.
كل هذه المحاور بحاجة من القلم والفكر العراقي اليوم ان يعيد انتاج بحثها بعقلية البحث التاريخي العلمي المحايد البعيد عن العقد الايدلوجية والسياسية والانتماءات الحزبية الضيقة ، التي تمسخ من شخصية الباحث،  وتعيق من نموه الفكري والنقدي والبحثي الخلاّق والمتوازن !!.
صحيح ربما يؤاخذنا من لفتت نظره مقالاتنا هذه بانه نحن سلطنا الاضواء فقط على الجوانب الايجابية لتجربة الملك فيصل الاول رحمه الله  ولم نشر الى سلبيات تلك المرحلة السياسية التاسيسية العراقية الخطيرة ، افلا يعتبر هذا اخلال ب((التوازن البحثي العلمي )) الذي ندعوا اليه  لمرحلة سياسية مصيرية في تاريخ العراق الحديث ؟.

جوابنا : هو انه بالفعل نحن تعمدنا الحديث حول الايجابيات لمرحلة الملك فيصل الاول التاسيسية ، ولكن هذا ليس اعتباطا ، او غضا من مبدأ العدالة في البحث العلمي التاريخي العراقي الحديث ، وانما لاسباب من اهمها :

اولا : العراق اليوم ، وتحت ضغط هذه الدوامة من الفوضى السياسية التي يعيشها بعد سقوط الدولة تماما هو بحاجة الى فكر وقلم وبحث ومفردة تمهد لعقول سياسييه (( المتحجرة )) الطريق وتبّين لها الاسلوب الذي من خلاله يتمكنون من سلوك نفس التجربة السياسية العراقية الحديثة الوحيدة الناجحة في تاريخهم المعاصر ، ولهذا نحن ذهبنا لابراز اهم الخطوات التي قام بها فيصل الاول لانشاء دولة العراق الحديث وتحديث مجتمعه الممزق !.

ثانيا : هناك الكثير ممن كتبوا بايدلوجيا حزبية مفرطة ،  قد تناولوا شيطنة الحقبة الملكية نقديا وابراز انها عيب مطلق ، بل لانغالي ان قلنا ان تاريخ العراق الحديث بكتابه ومفكريه وانصاف متعلميه ينطبق عليهم النص القائل (( كلما دخلت امة لعنت اختها )) ولهذا كلما جاء حزب او تيار للسلطة في العراق عن طريق اللاشرعية ، او الانقلاب العسكري ، يجد نفسه مضطرا لشيطنة من سبقه وادمان لعنه ليلانهارا كي يبررانقلابه على الوضع السابق ولهذا ارتاينا  ان نكتفي بكل هذا النقدالذي وجه سياسياوحزبيا للحقبة الملكية لنتفرغ نحن ، وربما غيرنا ايضا ، لتسليط الاضواء على بعض الايجابيات في هذه الحقبة ، ليتوازن الفكرالعراقي السياسي الحديث المتخم ، دائما بعدم توازن كفتي الميزان الفكري العراقي الحديث  !.

وفي النهاية اشكر كل من تابع هذه المقالات التي تناولت ورقة الملك فيصل الاول ، وكل من ساهم بنشرها ، على امل ان نتناول مفردة عراقية سياسية او فلسفية او اجتماعية ...  بسلسلة اخرى   !.

مدونتي فيها التفاصيل


الاثنين، سبتمبر 02، 2013

(( الحداثوية في فكر فيصل الاول ))


((ورقة الملك فيصل الاول  لانشاء الدولة العراقية الحديثة))المقالة العاشرة . حميد الشاكر


(( الحداثوية في فكر فيصل الاول ))

لم يكن لاي منجز سياسي او اقتصادي اوعمراني ، او سوسيولوجي عراقي ان يطفوا على سطح التجربة العراقية الحديثة  ( باعتباره نجاحا ) في زمن التاسيس العراقي للملك فيصل الاول وما بعده لو لم يكن  هناك وعي مسبق من قبل الملك فيصل الاول نفسه سياسيا  وسوسيولوجيا  واقتصاديا ... الخ لعصره ، او للعصر ومتطلباته وادواته وافكاره ، التي فرضت نفسها انذاك في حقبة حكم الملك فيصل الاول للعراق الحديث(كفاعل اساس)في اي بناء مجتمعي وسياسي يُراد له ان يكون منجزا ناجحا بالفعل !!.
اي انه لولا ان الملك فيصل الاول كان رجلا واعيا ، ومدركا وهاضما لكل معطيات عصره الفكرية والعلمية ، وتحولاته الصناعية ، والتقنية والثقافية والمجتمعية العالمية انذاك التي اصبحت بعد عصرالعقلنة  والعلم والصناعة والبرجوازية الفردية الحديثة ، هي المتحكمة بالفعل بصناعة  حياة الانسان الحديث ، وكيفية بنائها لما تمكن ابدا الملك فيصل الاول رحمه الله ان ينجز شيئا مذكورا على الارض العراقية الحديثة ابدا !!.
وهذا يعني  ان من اهم مميزات فكر فيصل الاول السياسي والسوسيولوجي ، الذي هيئ  لتجربته السياسية التاريخية  النجاح في تاريخ العراق الحديث انه رجل كان يدرك ويعي معنى(الحداثة في زمنه) والتي اعتقد انا شخصيا ان العقل العراقي السياسي ، منذ وفاة فيصل الاول ،  وحتى اليوم لم يتمكن من ادراك ما تعنيه هذه الحداثة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفرديا... على الواقع الانساني المعاصر  بشكل عام ، وعلى الواقع المحلي العراقي بشكل خاص !!.
طبعا الى اليوم وبعد ثمانين سنة من رحيل الملك فيصل الاول لم يزل ليس فقط العقل السياسي العراقي ، بل وحتى العقل الفكري ، والعلمي ، والثقافي والسوسيولجي العراقي ، بعيدا تماما عن فهم معادلة (( الحداثة الانسانية )) وما قامت به ، واحدثته من تحولات شبه قسرية في بناء المجتمعات الحديثة بل والانكى من ذالك انه وحتى ((السوسيولوجيا العراقية)) او ما سُمي بعلم الاجتماعي العراقي الحديث ، بمؤسسيته المزعومة في العراق ، والتي كان من (( مفروظ وظائفها العلمية ))  دراسة ظاهرة الحداثة في العالم الحديث وانعكاساتها على المجتمع العراقي انذاك  حتى هذا الحقل العلمي لم يتطرق بالبحث ، والدرس يوما لمفهوم ( الحداثة / مع انه مفهوم طرح منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم )  وما احدثته في تركيبة الاجتماع العراقي منذ تاسيسه الحديث ، وحتى تغيراته الكبرى الفكرية  والسياسية والمجتمعية في الخمسينات والى الان !.

نعم اكتفت كل الفعاليات العراقية السياسية والفكرية والمجتمعية ، بعد رحيل فيصل الاول سياسيا ،  وانزواء عصر النهضة في العراق الحديث تدريجيا  بادراك هذا المفهوم من خلال (مسخه)لاغيرومن ثم ليطرح سياسيا وفكريا ومجتمعيا في الخمسينات  والى اليوم على اساس قشرة سطحية من التمدين المفتعل للمجتمع وبدون فهم لبّ الحداثة وجوهرها ، ولهذا اصبح كل حديث عن الحداثة في الفكر السياسي العراقي  او العلمي هو حديث الانسلاخ عن جذور التقاليد الشرقية فحسب والارتماء في احضان السلوكيات  والتجارب الاخلاقية الاوربية كما يفهم الحداثة معظم العراقيين اليوم  !!.
اما الملك فيصل الاول ، ومن خلال ما قرأناه من فكره في ورقته السياسية وبرنامجه العملي ،  لانشاء الدولة العراقية الحديثة ، فانه كان يرى الحداثة على جوهرها الواقعي النقي بالتمام وانها تعني : (( دخول عصر الصناعة والتقنية والعقلنة واقتصاد السوق الحرة على العالم الانساني الجديد بما في ذالك عالم العراق الحديث ، وانعكاس هذه التقنية الصناعية وبكل مفاهيمها الحديثةعلى واقع الشعوب وقدرةهذه الحداثة الجديدة على تشكيل المجتمعات بطابعها التقني ، اكثر مما كانت المجتمعات تشكل نفسها من خلال تقليديتها الزراعية المنتمية لعصر ما قبل الصناعة والتقنية الحديثة  )) !!.

هذه هي الحداثة التي ادركها فكر فيصل الاول السياسي ، ولم يستطع بعده سياسي عراقي ان يفهمها بشكلها الواقعي حتى اليوم !!.

تحدث الفكر الغربي الصناعي  منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن اشكاليات الحداثة الصناعية وعصر العقلنة وانعكاساته الكبرى على بنى الاجتماع الانساني مابعدالصناعة ومفاهيمها !!.
ومن خلال هذا الجدل الحداثوي الصناعي برزت الحاجة اوفرضت الحاجة نفسها لانشاء((علم اجتماع حديث))يبحث ويدرس و... تاثيرات هذه الحداثة على المجتمعات الاوربية والانسانية مابعدالتقنية وطرح ((اوجست كونت)) ملامح هذا العلم واسس ((دوركايم)) لقواعده ومناهجه العلمية ، باعتبار انه لايمكن لخطة سياسية ولالبرنامج اقتصادي ولالبناء عمراني اولهيكل ثقافي ....... ان يقوم بدون الاستعانة بمنتجات هذا العلم الجديد الذي يرسم معالم الطريق لفهم المجتمعات الصناعية الحديثة  وادراك تقلباتها المتسارعة التي تحركها السوق الاقتصادية والصناعة اكثرمن محركاتها التقليدية السابقة!!.

وبهذا الفهم الحداثوي(الصناعوي والاقتصادوي والتقنوي والعقلانوي) دخل العالم الانساني بصورةعامة لعالم اجتماعي وانساني جديدلايمكن بناء حجر في اساسه بدون ادراك :  ان هذا البناء اصبح بعد الحداثة بيد الفكر الخلاق والصناعة ومفردات السوق الاقتصادية الحرة ، والتخطيط التقني  والتطور الاعلامي المهول والبرمجة المعلوماتية ....الخ ، وليس بيد شيئ اخر !!.

فهم الملك فيصل الاول رحمه الله : ان(عصر الاقتصاد الزراعي) قد انتهى بالفعل ثقافيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا ، ليبدأ عصر التقنية  والصناعة في هيمنته عليه ، ولهذا اشار في ورقته الى :
(( اقول بكل اسف ، ان الزراعة افلست في بلادنا  بالنظر لبعد مملكتنا عن الاسواق لقد وضعنا الملايين لانشاء الري لكن ماذا نريد ان نعمل ..... هل القصدتشكيل اهرامات من تلك المحاصيل والتفرج عليها؟ ماذا تكون فائدتنا منها اذا لم نتمكن من اخراجه االى الاسواق الاجنبيةاواستهلاكها في الداخل على الاقل ؟!...  اعتقد انه من الضروري اعادة النظر من جديد في موقفنا الاقتصادي ...علينا ان نقلع عن السياسة الخاطئة التي اتتنا على سبيل تقييد الامم المتشبثة علينا ، ان نعاون المنتسبين من ابناء الوطن ، بصورة عملية فعالة وان نعطي الانحصارات لابناء البلاد الى مدد معينة، الذين فيهم روح التشبث ، واذا لم يظهر طالب راغب لانشاء (عمل صناعي) ترى الحكومة انه مربح فعليها ان تقوم هي به ومن مالها الخاص اوبالاشتراك مع رؤوس اموال وطنية اذا امكن ، والا فاجنبية او كلاهما معا / الفقرة الحادية عشرة من الورقة )) .
ان هذا الفهم لروح العصرالجديد من قبل الملك فيصل (رحمه الله) وانه هو بالفعل عصر الصناعة ، اكثر منه عصر الزراعة المولي يدلل بلا لبس ان الملك فيصل كان يعيش ويدرك معنى (( روح الحداثة الحقيقية)) في عصر مابعدالزراعة والفلاحة وانه عصرتتحكم فيه مفاهيم وثقافة الصناعة وقوتها اكثر بكثير من مفاهيم الزراعة وثقافتها ، وبالفعل ادخل الملك فيصل الاول بعملية تحديثية صناعية (( بدائية)) للعراق الحديث مفهوم الصناعة وادواتها الابتدائية اولا .
لتصنع من ثم ،وتلقائيا هذه البذرة الاقتصادية الصناعية مجتمع المدينة الذي يستقطب بدورة الصناعيين الصغار والراسماليين الطموحين  والهاربين من عبودية عصر الزراعة والاقطاع من باقي المدن العراقية ، وحتى الوصول الى صناعة ( المدينة ) بمفهومها السوسيولوجي الحديث ، الذي يصهر هذه التنوعات البشرية الصناعية الحديثة ،  بقالب من الطبقة الوسطى الطموحة والمثقفة والواعية والمدركة لكل مزايا عصر الحداثة القائم ثانيا  !!.

نعم بهذا الفهم ندرك كيف استطاع الملك فيصل ان يدفع بتجربته السياسية العراقية الحديثة للنجاح ، وندرك ان نجاح فيصل الاول يرجع باساسه الى ادراك هذا الرجل لمفاهيم عصره وادوات ومفردات ذالك العصر الفاعلة واستخدام مفاهيم الحداثة من صناعة وتقنية وتطور بوسائل الاتصال ... الحديثة ليجعل منها المنطلق ببناء العراق الحديث انذاك والذي ما ان دارت عجلة التحديث (الفيصلية العراقية) تلك ، حتى اصبحت لدينا في الاربعينات وحتى الخمسينات طبقة سياسية واعية ومهنية  ومكون فكري وعلمي ناهظ وسوسيولوجيا عراقية متحررة ، ومتطلعة لبناء اكثر راديكالية  وثورية مما كان متوقعا !!.
ولعل ظاهرة الخمسينات الثورية الراديكاليةللمكونات العراقيةالمتعلمة والتي كانت مستغرقة الى حد العبادة لمنتجات العلم والصناعة الحديثة ، كانت هي ثمرة تلك البذرة الحداثية الصناعية ، التي اسس لها فيصل داخل المجتمعية العراقية الحديثة ، التي مع الاسف فلتت من عقالها لتدخل في دوامة الثوري الراديكالي السياسي القشري بدلامن ان تستمر بالثوري الراديكالي التحديثي الصناعي والعمراني للعراق كماكان مخططا له من قبل فيصل الاول رحمه الله !!.
ان فيصل الاول كان يدرك تماماان التقدم والتطورالاتي من البناء الصناعي والتخطيط السياسي السليم ، وليس القادم من اليوتوبيا والايدلوجيا الغيبية او المادية الخرافية هوحليف عصره السياسي العراقي الجديد ولهذا خطط لبناء عراق كان لايشك للحظة انه سيقوم بالمهمة المطلوبة منه ، وذالك لان فكر فيصل الاول البنائي والحداثوي لم يكن (فكرا رجعيا ) يدرس التاريخ بعقلية منغلقةليخطط لكيفية حكم هذا العراق فحسب بل كان فكرا يدرك ان صناعة الشعوب في العصرالحديث مختلفة بالكليةعن ماوعيناه تراثيامن حكم وقيادة تغيير للشعوب العربية والاسلامية تاريخيا ، بل انها صناعة ، وتغيير يقوده التحديث في الصناعة والعمران والتقنية والتخطيط ، اكثر من قيادة الابطال الاسطوريين والملهمين الجلادين التاريخيين والايدلوجيين الماديين .. وغير ذالك !!.
ومن هنا كان حكم فيصل الاول رحمه الله ديمقراطيا قائماعلى الانفتاح على الشعب العراقي ، لا لأن الديمقراطية هي منتجا فيصليا ، لكن لان الفيصلية هي منتجا حداثيا صناعيا اولا وقبل ان تكون ديمقراطية ثانيا !!.
آن الاوان لفكرنا العراقي اليوم ان يدرك ولو هذه المفردة البسيطة جدا من نجاح التجربة الفيصلية السياسية للعراق الحديث وهي ان الديمقراطية منتجا من متجات العصر الصناعي والعقلنة العلمية والتقنية الحديثة ، وليست هي ابتكارا ، لاخلاق هذا الحاكم ، او ذاك الملك العطوف ، مع ان وعي الحاكم وادراكه واخلاصه ، وسلامة تخطيطه .... جزءً مهما من معادلة المشروع السياسي الديمقراطي الناجح في اي مكان في هذا العالم ، لكن تبقى المعادلة اليوم ، هي كما كانت بالامس القريب ، للعراق الحديث (فهم الحداثة)  اولا بمفرداتها  ببنيتها الصناعية والتقنية والعلمية هي البوابة لكل صاحب سلطة او حاكم ومدير للشروع باقامة بناء مثمر وواعد ومتطلع وكبير !.
اما بغيرذالك فسيعيش المجتمع والدولة اوالسلطة في دوامة التيه الذي دخلنا فيه كعراقيين منذ الخمسينات وحتى اليوم لاندرك كيف دخلنا وكيف السبيل للخروج منه !.                                     
 ________________________

مدونتي