الاثنين، ديسمبر 20، 2010

((من وعيّ القرآن .... أقرأ )) - 1 - . بقلم / حميد الشاكر

( توطئة )


لم تزل الكلمة القرانية - ويبدو انها سوف تبقى - كلمة تحمل بين طياتها الكثير من الافاق الفكرية والمناحي المعرفية المتجددة في كل عصر ، والمتولدة لكل زمان ، فهي الكلمة التي لم تأتي لزمان دون زمان ، او لمجتمع دون مجتمع ، او لمكان دون مكان ....، وانما هي كلمة الفطرة الانسانية والتي تتحرك مع الانسان وعلى كافة الصعد الفكرية والروحية والعملية ، في رقيها او انحطاطها ، وفي تطورها او تخلفها ، وفي انتصاراتها او هزائمها ........ ؟

.

ان الكلمة القرانية تمثل على هذا الاساس اكثر بكثير من مجرد مفردة او مفردات القيت على قارعة الطريق ليلتقطها الفكر الانساني ، ويزيل التراب من على وجهها ويحدق في مضامينها ، ليعلن اكتشافا أثريا تاريخيا يسلط الضوء المعرفي على حقبة معينة من اسطورة التاريخ الانساني ، كما انها لم تكن مجرد نغمة فنية حركت الروح الانسانية ، لتطرب على ايقاعاتها الموسيقية ، ومن ثم تغادر مع الريح كذاكرة جميلة ......، وانما كانت هذه الكلمة القرانية ولم تزل لبنة اساسية ، وزاوية حيوية في بناء أمة ، وراية اجتمعت حولها مصائر بشرية لتصنع تاريخا آخر للانسانية ، يختلف في قسماته وملامحه ، واهدافه وغاياته ، واساليبه وافكاره .....، لتحول من ثم هذه الكلمة القدسية ، وتغير وتبني وتشيّد وتقيم كيانا انسانيا بكل ابعاده الانسانية من فكرية وروحية ونفسية واسرية واجتماعية واقتصادية وسياسيا ......الخ

.

نعم الكلمة القرانية كلمة حية ، وفاعلة ومتحركة ومتجددة ....، وكذا هي كلمة ارتبطت بحياة الانسان المسلم كجزء من كينونته النفسية والروحية والعقلية ..، يشعر بها ككيان حيّ وواجب الاحترام ، ويلتفت بالنظر اليها بحنو ، ويتفكر في مقاصدها وغاياتها واهدافها ومعانيها ، وأيحاءاتها وتصوراتها ، وبناءها .....، ويحاول جاهدا هذا الانسان المعقد ان يستقصي كل مداخل ومخارج انفاس هذه الكلمة القرانية ........ ، ولم لا ؟

.

ان الكلمة القرانية ومن خلال ما طرحته هي نفسها عن نفسها كتعريف للاخر ، كلمة اتخذت الابعاد الاكثر ايحائية للفكر الانساني المستنير والباحث عن مضامين الحياة وماهية الوجود وروح الكون المحيطة به ، فهي كلمة الله ( وكلمة الله هي العليا ) ، وهي الكلمة التامة الحسنة ( وتمت كلمة ربك الحسنى ...) كما انها هي الكلمة العادلة والصادقة ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ..) وهي الكلمة الطيبة ( كلمة طيبة كشجرة طيبة ..) وهي الكلمة السابقة ( ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم ..) وهي الكلمة الفصل ( ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم ..) وهي الكلمات التي لاتنفد ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ..) وهي الكلمة الانسان ( ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ..) وهي الكلمة السواء ( تعالوا الى كلمة سواء ..) وهي الكلمة الباقية ( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ..) وهي كلمة التقوى ( وألزمهم كلمة التقوى ...) .....الخ

.

ومن هنا كان الانسان المسلم شغوفا بهذه الكلمة القرانية ومتغنيا على نغماتها ، ومفكرا في ابعادها ، ومتعبدا في محرابها ، ومترنما في فضاءاتها اللامتناهية ، ينشد البعيد للوصول والقرب منها ، ويضع العلوم ويؤسس المبادئ لخدمة هذه الكلمة ...، ولم لا ؟

.

ان من مميزات الكلمة القرانية انها كلمة ذات ابعاد عالمية لاتحدها الجغرافية الضيقة ، ولا تقيدها الاطر التاريخية ، ولا تعتقل حركتها اغلفة الكتب وجدران السجلات ، كما انها الكلمة المقدسة المرتبطة بالاهوت المطلق ، والمندرجة في اطار الحسّاس من حياة البشر ، فكان لزاما والحال هذه ان تكون العناية اكبر من جانب الانسان بهذه الكلمة المصيرية بالنسبة لحياته ، فكان للعلوم القرانية السهم الوافر من الفكر الاسلامي لخدمة الكلمة القرانية ومعرفة الكيفية المناسبة التي من خلالها نتعامل مع هذه الكلمة وحسب الاصول العلمية المطروحة ، باعتبار ان الكلمة القرانية كلمة مميزة ولابد لها من مقدمات تليق بهذه المميزات التي تحملها هذه الكلمة ليتأهل الانسان من ثم ومن خلال هذه العلوم والمبادئ العلمية ليصل الى مستوى الكلمة القرانية في التفاعل والفهم والادراك المتبادل ، وكما ان الكلمة القرانية بحاجة الى انسان واعي ومدرك ومؤهل فكريا ( وتعيها أذن واعية / قران كريم ) يستطيع الرقي لفهم الكلمة القرانية ، كذالك هو الانسان بحاجة الى مبادئ واصول وعلوم توفرّ له الاولويات التي من خلالها يصل الى مقاصد الكلمة وابعادها المعرفية ومناحيها الفكرية ...، ليميز بين شتى المفردات القرانية ، ويبوب معالمها العلمية ، بين مطلق ومقيد ، وخاص وعام ، وبين ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وبين سبب نزول وعموم عبرة ، وبين تفسير ظاهر وتأويل اكثر عمقا وانسجاما .... الى اخر هذه القائمة من المقدمات الاولية لفهم وادارك الكلمة القرانية المقدسة ....؟

.

والحقيقة ، وبما ان الكلمة القرانية موجود حي ، وكائن محترم ، ونص مقدس ...، فانه يرى ان عملية التعامل معه من قبل الكائن البشري ينبغي ان يكون تعاملا اكثر رقيا من مجرد النظر اليه على اساس انه ظرف او وسيلة فقط لايصال المقاصد والاهداف اللاهوتية فحسب ، او هي مجرد كلمة من المركبات البشرية واحرف من الصناعات الانسانية لاغير ؟

.

لا وانما تصلح هذه النظرات الانسانية القاصرة لو كنا نتعامل مع منتج فني شعري او نثري او موسيقي ...، بالامكان تطبيق الصناعات المنطقية او اللغوية النقدية ...، لتقييم الاداء الجمالي لهذه الزاوية او تلك من الكلام الشعري او النثري او الفني ، وكذالك عندما ننظر للكلمة القرانية فقط حسب الدلالات الالية الجافة للعلوم القرانية ، واعتبار ان هذه الكلمة بالامكان حصر قوانينها الفنية والعلمية ان استطعنا التمكن من القوانين العلمية تلك والموضوعة لمعالجة الكلمة القرانية وكيفية التعامل وفهم مقاصدها واهدافها المتوسعة ؟

.

بل ان الكلمة القرانية بحاجة - حقيقة - بالاضافة لادراك الاوليات العلمية المذكورة من العلوم القرانية ، كذالك هي بحاجة الى ادراك ونظرة ترى : ان الكلمة القرانية مخلوق عظيم ليس بالامكان ادراك قوانينه الفنية والعلمية بشكل مبسط او من خلال ادوات الية تسمى بعلوم القران الموضوعة من قبل العقلية البشرية فحسب ، وانما ينبغي ان يضاف الى ذالك علم اخر لايعلّم او يكون من الصناعات الانسانية هذه المرة ، وانما هو عملية ممارسة روحية ونفسية وعقلية وسلوكية ...، يقوم بها الانسان كرياضة تؤهله من جانب اخر للوصول واللحاق والادراك المنفعل بالكلمة القرانية ؟

.

نعم للكلمة القرانية قوانينها الخاصة ، والمرتبطة بالكيفية اللاهوتية للتعامل مع هذه المنظومة من الكلمات الربانية ، فقانون مثل ( التقوى ) - ذالك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين / قران كريم - هو قانون لم يكن من ضمن القوانين الآلية للعلوم القرانية ، او الاصح القول انه قانون يندرج ضمن القوانين التي تكون في اطار العلوم القرانية المساعدة على الفهم الاكثر نضجا للكلمة القرانية ، الا انه علم ليس من ضمن القوانين المقننة بقانون مكتوب ، وانما هو ممارسة حرة منفلته من ضوابط القوانين المنطقية والالية ، يمارسها الفرد الانساني ( التقوى ) بشكل تعبد شخصي تؤهله من خلال الممارسة لأن تنفتح عليه الكلمة القرانية ببعض افاقها الفكرية والمعرفية لتنير له الجزء المظلم من حياته الروحية او الفكرية ، ولذالك تختص عندئذ هداية الكلمة القرانية - اي ارشادها وتفاعلها والتفاتها ....الخ - بطابور المهتدين اكثر بكثير من طوابير اللا متقين - ( ذالك الكتاب = الكلمات القرانية / لاريب فيه هدى = ارشاد تفاعل تجاوب احساس .../ للمتقين )- المتقون أولئك المنتفعون الاكثر قربا من هذه الكلمة القرانية ؟

.

المتقون : او التقوى ، قانون اخر للكلمة القرانية ، وكيفية ادراك مقاصدها ، او الانتفاع من ايحاءاتها العلمية ، التقوى ، بما هي تطهير للنفس والروح الانسانية من الدناءة والاحقاد الهابطة ، بما هي صدق مع الذات والاخر ، وبما هي انفتاح على الكون والحياة والانسان والله بحب ووضوح ، بما هي ابتعاد عن المادية الوسخة في الحياة الانسانية والقرب من المادية الجميلة لهذه الحياة ، التقوى بما هي ذكاء مع عّفة ، وشجاعة مع عدل ، وسخاء مع رأفة ورحمة ........الخ ؟

.

وهنا نحن امام قائمة من القوانين الاخرى التي تحتاجها الكلمة القرانية للتفاعل مع الانسان بعدما يتفاعل الانسان مع الكلمة القرانية ، قوانين ليس لها قانون ضابط ، بل هي قوانين غير مبوّبة او مرتبة ترتيبا آليا جافا ، قوانين نفسية وروحية وسلوكية واخلاقية وغير نفعية وليس لها غايات محددة مادية ...الخ ، تحكم معادلة الفهم الاكثر قربا من مقاصد واهداف الكلمة القرانية المنفلتة من قيد التراتب والروتين الكتابي ؟

.

وربما لاحظ البعض ممن يتتبع الكلمة القرانية ، انها كلمة لاتخضع للروتين او التبويب المملّ ، كأن يلاحظ من يتصفح الكلمة القرانية انها كلمة تبدأ بمنحى معرفي معين ، وفي المنتصف تنتقل لموضوع اخر ، لتنتهي عند زاوية فكرية ربما يعتقد البعض ان ليس هناك علاقة تذكر او رابط يوضح ماهية النقلات المتكررة في النص القراني من الكلمة - مثلا - تبدأ الكلمة بذكر الخالق لتنتقل الى قصة تاريخية وتتحول الى حكم تشريعي ، لتنتهي عند ذكر المستقبل وما سوف يكون عالميا ....، وهكذا يلاحظ قارئ النص او الكلمة القرانية ان هناك كسرا للتراتبية المملة احيانا ، وعدم وجود تبويب معين لهذه الكلمة ، وياترى هل لاحظ البعض ماهية هذه العملية القرانية ولمّ ولماذا هي بهذا الشكل او تلك الصيغة ؟

.

نعم الكلمة القرانية ليست كباقي الكلمات الانسانية والتي هي بحاجة الى قوانين التراتبية في الخطاب ، كما انها ليس كباقي كلمات الكتب التي ينبغي ان تبوّب في مواضيع محددة ، كابواب التواريح او الحكمة او التشريع او الاجتماع ...الخ لتفهم مقاصدها من ترتبها وتبويبها ، وانما للكلمة القرانية قوانينها الخاصة - المسامحة هنا باستخدام مصطلح قانون ، فربما يكون القانون هو في اللاقانون ايضا - التي ينبغي للمتعامل مع الكلمة القرانية ان يدرك اسرارها والكيفية التي يجب عليه ان يراها لهذه الكلمة ؟

. الغرض هو الوصول للقول : ان الكلمة القرانية لاتستجيب ولا تنفتح بافاقها المعرفية على من اتقن الممونات العلمية ( علوم القران ) فحسب ، ليعتقد او هكذا هو يظن ، ان التمكن من حفظ هذه الادوات الاولية ، او ممارسة هذه الاصول العلمية ، هو كاف للوصول الى ادراك الاهداف والمضامين العميقة للكلمة القرانية ، كلا ّ ، بل ان الكلمة القرانية ان لم ننظر اليها على اساس انها كائن حيّ وموجود حسّاس ، وشيئ قائم بذاته وشاعر بكينونته ...، وله قوانينه الخاصة والتي ينبغي الالتفات اليها والتعامل معها كما تذكر الكلمة القرانية نفسها عن ذالك ، فلا ننتظر من هذه الكلمة ان تستجيب وتنفتح بهدايتها بعطائها على افكارنا وعقولنا المتحجرة احيانا ؟

.

اما ان تعاملنا مع الكلمة القرانية بالصورة الحية والعقلية المنفتحة على روح الكلمة القرانية ، بالاضافة الى تعاملنا من خلال احترام كينونة الكلمة القرانية ...، فان ذالك سيفتح لنا مغاليق تلكم الكلمات ، كما سيحرك الكلمة القرانية نفسها على الانفتاح علينا وتقبل الجلوس والمناقشة مع ادوات ادراكاتنا المحدودة ، لتفيض من ثم الكلمة القرانية بهدايتها وعطائها وتصوراتها وجديدها على افاقنا المعرفية الضيقة ، والتي تتساءل ببلادة دائما عن ماهية تلك الهداية الاسطورية للكلمة القرانية ؟

.

صحيح ما تلك الهداية القرانية التي وعدتنا بها الكلمة القرانية ، وكيف لنا ان نفهم هذه الهداية للكلمة المقدسة ؟

.

ان هداية الكلمة القرانية ، ليست هي تلك الهداية الساذجة التي يتحدث حولها البعض من هداية غيبوية وليست لها اي ابعاد اجتماعية او منعكسات مادية ، لا بل هي هداية انفعالية ، وكما ذكرنا عندما يتفاعل الانسان مع الكلمة القرانية ، فلسوف تتحرك هذه الكلمة كردة فعل طبيعية لحركة الانسان لتزيد من عطاءها الفكري والروحي والنفسي ، والذي هو ممتد بالنسبة للكلمة القرانية ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) ..( ان الذين امنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم ).. ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى /76 - مريم ).... الخ ، فتلك الزيادة او هذا العطاء المتجدد للكلمة القرانية ، هو العطاء اللازماني واللامكاني واللامقيد ، الذي بشرت به الكلمة القرانية ، كما انه هو البرامج والنظرات والتي من خلالها المتجددة يتمكن المفكر والاجتماعي وصاحب العمل الجماعي ان يستنبط كل ماهو جديد في الفكر والممارسة لتطوير المجتمع والنهوض به للرقي والنهضة ، وكل ذالك لايتأتى طبعا بدون ممارسة عملية لمشروع الهداية القراني - اي - انه من الخطأ الاعتقاد ان تلك الهداية والعطاء الفكري المتجدد الذي تختزله الكلمة القرانية ، هو عطاء مجاني بالامكان ممارسته كترف فكري او تصوف روحي بعيدا عن ممارسة الحياة الاجتماعية بشكل هداية او برنامج قراني ؟

.

لا .. انما العطاء القراني المتجدد ، يتحرك نحو الانسان بالانفتاح عندما تكون حركة المجتمع والفرد خاضعة لمشروع الكلمة القرانية ، فالتجاوب هنا هو تجاوب عملي وممارسة حركية سلوكية فردية واجتماعية هي التي تؤهل الفرد والمجتمع للارتقاء لمستوى الكلمة القرانية ومن ثم انفتاح هذه الكلمة بعطاءها اللامحدود وبهدايتها اللامتوقعة لمثل هكذا فرد وهكذا مجتمع ؟

.

اذا هي النظافة ، هي الاستقامة السلوكية والروحية الاجتماعية والفردية ...، هي التي تُفعلّ من حركة الكلمة القرانية للتحرك نحو الانسان لتعانق فكره وروحه ، ومن ثمّ لتزيده هدى ولتفتح عليه اكثر من سبيل واكثر من افق واكثر من نافذة ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) تشكل له الجديد واللامتوقع في الفكر والنجاح العملي ( وأ لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا ../ قران كريم ) ؟

.

وهذه هي هداية الكلمة القرانية التي نتساءل حولها ، فكلمة قرانية مثل ( أقرأ ) ربما تحمل بين طياتها الكثير من الرؤى الغير متوقعة عندما ندرك كيفية التعامل معها ، وكيفية التعامل مع انفسنا اولا لتتأهل لادراك المناحي المعرفية التي تختزلها (اقرا ) كبرنامج اجتماعي ، وكأجندة او مذكرة روحية ، او كبداية مشروع ، او كثورة كلمة ....الخ ، بامكانها ان تتفجر ابداعا وهداية جديدة غير نافدة العمل وغير عاجزة المحتوى للتعامل مع المجتمع اليوم او مجتمع المستقبل ؟

.

دعونا نتناول الكلمة القرانية (أقرأ) كمفردة توحي بالكثير والذي هو ليس كثيرا على عطاء الكلمة القرانية اللامتناهية العطاء ، نحاورها ، نتفاعل معها ، نعيشها ، نحترم كينونتها ، نقودها هنا ونخفق ، وتقودنا هناك فتنجح ، نستكشف بعض مناحيها الايحاء يه الفكرية ، ونحاول الرقي مع منعرجاتها الروحية ....، مع الجزم اننا نخوض في بحر الكلمة القرانية ، وربما نصادف جوهرة مكنونة ، وربما تبوء المحاولة بالفشل ولكن يكفي الاستمتاع بلذة المحاولة المفتاح الحقيقي لتجربة النجاح ؟

____________________

فهم التاريخ ووعي عبره اخطر من قراءته وكتابته !! بقلم / حميد الشاكر

منذ بدايات معرفتي بعالم القراءة والكتابة ، وانا لم ازل اشعر ان هناك في الكتب التي بين يدي شيئا ما اخر يقف خلف السطور ويشير لي بمعاني مختلفة جدا عن ماهو مكتوب وظاهر !!.


تساءلت : ما اسم هذا الشعور الذي في داخلي ؟.

ولماذا كلما اقرأ قصاصة من ورق اشعر ان فيها روحا تختلف عن ظاهرها المكتوب والمسطر للعيان ؟.

 

بعد فترة طويلة من الحياة مع القراءة والكتابة والتأمل والتفكير اكتشفت بان الوجه الاخرللتاريخ المكتوب هو مايسمونه بالعبرة والوجه الاخر لنص القرآن هو مايسمونه بالتبيين والتأويل والمعنى والوجه الاخر من الادب هو مايسمونه بالابداع .... وهكذا الفقه باعتباره الخلفية التي تقبع خلف سطور السنة النبوية المطهرة ، فتيقنت عندئذ ان شعوري الذي كان في القدم عندما اقرأ نصا قرآنيا ثم ابحث في تفسيره فلايقنعني ما اقرأه من تفاسير واشعر ان هناك وجها اخر لم يذكر بعد ، هو من الاشياء الفكرية الصحية جدا والتي هي من المميزات التي تفرق بين القارئ الذي يكتفي بالقراءة على اساس انها تراكم كمي لاغيرفحسب وبين القارء والباحث والمفكر الذي يرى في القراءة انها تراكم كمي مضافا اليه نقلة كيفية ونوعية في فهم القراءة !!.

ومنذ ذالك الحين وانا انتمي لمدرسة في القراءة والبحث والكتابة ترى : ان فهم المقروء اخطر من المقروء والمكتوب نفسه والشعور بما خلف السطور اخطر من السطور نفسها !!.

او بصيغة اخرى ان فهم التفسير اخطر من قراءة النص القراني نفسه ، وان استخلاص العبرة من التاريخ اخطر من كتابة التاريخ وقراءته نفسه ، وان تذوق الابداع اعظم من ماهو مكتوب باسم الابداع والادب ، وان تلمس روح القانون اشرف بكثير من تدوينه وتطبيقه وحفظه !!.

أقول ذالك وانا ازعم ان هذه هي منهجية ربما لاتصلح للكثيرين لعدم ادراكهم او فقدانهم لموهبة قراءة واكتشاف ما هو قابع خلف السطور من المكتوب والمقروء البشري وبكل الوانه !!.

عندما يكتب بعض كتابنا الذين قضوا جلّ اعمارهم في قراءة ، وحفظ التاريخ والكتابة حوله ينتابني شعور بالاسى لما ال اليه مصير هؤلاء العباقرة من حفّاظ التاريخ ، كما ينتابني شعور بالملل عندما أقرأ مطولات التفاسير الاسلامية وهي تكتب النص القراني بكثافة لكنها ومع الاسف عندما تريد ان تفهم معاني هذه النصوص تنفصل تلقائيا بين ماهو نص ومايشير اليه وبين ماهو حشو قارئ لمعاني ليس لها علاقة لا بالنص ولا باهدافه ولا بتوجهاته ولا بما اراد ايصاله من معنى ابدا !!.

قرأت لاحدهم وهو يتحدث عن واقعة حرب الجمل وموقف الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب في التهامل مع هذه الواقعة فوجدته بالنهاية يستنتج الاتي :(( ونظرة واحدة على احداث الجمل نجد ان الامام قد طوى تلك الصفحة باحسن مايكون ولم يدع المجال لاحد مهما كان ان يعيد محاكمة اصحاب الجمل والنيل منهم باي صورة كانت ...)) !!.

 

هنا انا امام نص تاريخي معروف ومتوافق عليه ولاخلاف حوله وليس فيه اي جديد خطر بامكانه ان يجعل من النص ثورة او نفاق ، لكن عندما اتحول الى فهم النص لهذا الكاتب استشعر الكارثة التي ربما اعذر الكاتب لها نفسه لانه اخذ هذا الفهم تقليديا وبدون ان يفكر بداخل النص بشكل مستقل واخر ومختلف ولذالك هو ناقل لفهم النص وليس مجتهد فيه ، مع انني لااعذر اسقاط الكاتب لهذا المعني والفهم واخضاعه ايدلوجيا لمصالح سياسية قائمة يريد الترويج لها لادرك :

اولا : ان الكاتب يريد من هذا النص ان يتخذه حجة لرايه السياسي القائم الذي يرى عدم وجوب محاكمة المجرمين السابقين في النظم السياسية التي ترتكب جرائم بحق مواطنيهم ( مثل حزب البعث في العراق ) ولهذا راى الكاتب في عمل علي بن ابي طالب ع مع قادة الجمل انه قمة بالتجاوزوعدم الرجوع للماضي وما اقترفه هؤلاء القادة من اجرام بحق الاخرين والمعنى الصريح للكاتب:انه تاسوا بعلي بن ابي طالب وتجاوزه ياعراقيون واتركوامحاكمة البعثيين القتلة وعفى الله عما سلف ولنبني لحياة سلمية ( كما تروج له قناة الفيحاء هذه الايام ) مع القدماء البعثيين وينتهي الامر !!.

ثانيا : لماذا نحن نقول فهم التاريخ ونصوصه اخطرمن كتابته وقراءته لأن عظمة التاريخ واخذه لصفة الابوة للعلوم البشرية كلها ليس لسرده للاحداث ،وانما بالوصول للعبرة من هذه الاحداث والقوانين التي تسيرها في كل زمان ومكان ، ولهذا عندما يطرح اي كاتب العبرة والمعنى من التاريخ فانه يطرح روح التاريخ التي تحرك المجتمع وتسيطر على ذهنه وفكره بالحقيقة ومن هناك كان الجرم عظيما في تحريف الكلم عن مواضعه في النصوص القرانية ، وتحريف التاريخ عن اهدافه وغاياته في هذا الحيز ايضا !.

الان نعود لكاتبنا ذاك الذي اقتنص مشهدا من التاريخ ((لنجعله فأر تجاربنا)) وليحرف مضمونه تماما لنسأل : هل فعلا نظرة واحدة تكفي لكل متأمل في التاريخ واحداثه لادراك وفهم ان عليًّ بن ابي طالب قد طوى صفحة اصحاب الجمل باحسن مايكون ليضرب لنا العبرة بكيفية العفو عن المجرمين وليذهب الفقراء والمظلومين الى الجحيم ؟.

أم ان عليَّ بن ابي طالب او نص الحادثة التاريخية برمتها اصلا لم تكن في وارد ايصال عبرة وفهم تنازل علي بن ابي طالب عن حق المظلومين في محاسبة الظلمة والفاسدين ؟.

طبعا وللرؤية الاولى من تناول النص التاريخي لحرب الجمل الذي قادها الامام علي ضد الناكثين والمنافقين بما فيهم عائشة زوج الرسول وطلحة والزبير ندرك ان اهداف النص التاريخي ذاهبة الى التنكيل باعداء الامام من قادة الجمل وليس بالعفو عنهم !!.

وما مقولة طوي الصفحة باحسن مايكون بعد انتهاء الحرب الا حول فكري لكاتب هذه السطور ، والا اي حسن في طوي الصفحة بعد ابادة معسكر وقادة انصار حرب الجمل كلهم !!.

المفروض ان يكون طوي الصفاح قبل رفع السيوف وهويها على الرقاب ، ولو كان الامام يريد طوي الصفاح بهذا الاسلوب النفعي لما قام اصلا بحرب تريد ان تعيد مشروعا اسلاميا قد انقلب عليه اصحاب محمد بعد ساعة من وفاته ، ولما عزل معاوية بالشام وهو يدرك انه سوف يتمرد ويعلن العصيان ولما قطع الهبات التي كانت تدرها السلطة على اتباعها للتحصل على ولائهم وتشتري قبولهم للامر الواقع !!.

لو كان الامام في وارد طوي الصفاح باحسن مايكون لكان علي لم يدخل حربا طاحنة حتى استسلام اخر امراة في المعسكر وهي تولول وتنوح وتطلب العفو والصفح والبقاء على الحياة !!.

ذاك هو طوي الصفاح الحسن وليس بعد الطحن ودفن العظام !!.

نعم علي بن ابي طالب ع لم يصفح ابدا عن من بارزوه بمعركة الجمل بل لم يترك لهم باقية تذكرالا من هرب منهم واستلسلم الاخرين منهم !.

ثالثا :هذا الكاتب ومايرّوج له من فهم معوج لمسيرة علي بن ابي طالب الثورية بغض النظر عن دوافعه السياسية الايدلوجية القائمة اليوم والتي تريد الاخذ من رقبة علي مطية لعودة البعثيين القتلة وغيرهم ، وبغض النظر هل هو مهيئ للحديث فكريا عن عبر التاريخ وسننه وقوانينه اولا نقول بغض النظر عن ذالك ولكن الا يعلم هذا النمط من الكتّاب ان قراءة التاريخ وفهمه اذا كانت بهذا الشكل المشوه هي ليس فقط تعد جريمة فكرية وادبية ، وانما هي اعتداء سافر على مشروع علي بن ابي طالب الذي ضحى بكل شيئ من اجله وتزييف لاهداف هذا الامل الوحيد للاسلام !!.

بمعنى اخرعندما ياتيني كاتب مسيس ليتحدث عن الثورة الحسينية على اساس انها اختلاف سياسي وليس عقدي ديني مرتبط بمشروع الاهي بين الحسين بن علي بن ابي طالب وبين يزيد بن معاوية بن صخر قلعة الكفر والنفاق في الاسلام فهل ينبغي عليّ معاملة هذا الكاتب على اساس انه مغيّب فكريا او جاهل تاريخيا او مجرم محترف اخلاقيا ؟؟؟!.

لاريب انني ساتعامل معه بكل هذه المواصفات قطعا ، لانه لايعذر من جهل قراءة التاريخ ان يكتب حول عبره ، ولايعذر من حظه تافه في العلم ان يكون مجرما ومجترئا على الحسين واهداف ثورته وما قدمته للاسلام من تضحية ؟..

 

كذالك هنا الاخ فأر تجاربنا الفكرية لكتّاب التاريخ وعبره وفهمه على الصورة الصحيحة ، عندما يحاول تمييع الثورة العلوية التي قادها علي بن ابي طالب بحرب الجمل وغيرها من حروبه الثورية الشريفة ضد كل الوضع القائم انذاك سلطانيا من زمن وفاة الرسول محمد ص ...حتى انتخاب الشعب له عليه السلام ، فمن حقنا ان نصفه بكل مواصفات الجهل والخيانة والتزوير والاجرام الاخلاقي عندما يقتل ثورة علي بن ابي طالب مع اعدائه ليقول انها حرب كانت على اختلاف وجهات نظر سياسية فحسب وليس للدين والعقيدة بها اي دخل وخلفية مونتها بالحركة والاستمرار !!.

 

لابل مثل هؤلاء المعاتيه في قراءة التاريخ يجب ان يحاسبوا لتحريفهم وتزويرهم لكل تراث علي بن ابي طالب والغائهم كل تضحيات هذا الامام المعصوم عندما يصوروا لنا اليوم علي بن ابي طالب انه رجل سلطة ومنافع وسياسة اباد مئات الالاف من البشر في سبيل بقاءه بالسلطة او تسلطه على رقاب الناس لاغير ؟.

كيف يمكن لانسان يرتبط بعلي عقائديا ولايرفع سيفا الا عندما يتيقن انه رفع في سبيل مرضاة الله سبحانه ، يقبل من كاتب غرّ ان يقول ان حروب علي كانت مجرد لعب سياسي وان من قتلهم في حروبه ذهبت دمائهم ودماء اعدائهم ادراج الرياح والمنافع السياسية لاغير ؟؟.

هذه هي الكارثة في فهم التاريخ وليس بنقله او كتابته او قراءته !!.

وهذه هي الكارثة التي لم تجن فقط على التاريخ كعلم يجب اخذ العبرة منه كما يريده لنا التاريخ نفسه وليس كما حرفناه عن غاياته واهدافه وحتى سننه وقوانينه فحسب بل هو تجنى على مشروع علي ع عندما اراد ان يترك لنا وثيقة تاريخية صاغها لنا بدمائه ودماء اهل بيته الاطهار ، وخاطر بخلافته .... الخ ،لتبلغنا رسالة الانحراف الكبير عن الاسلام الذي حاول معالجته علي بقطع رؤوس المنافقين والكافرين والمارقين والقتلة ليكونوا لعنة للاعنين الى يوم الدين ، ويأتي الاخ الكاتب ليقول لنا : احذروا حتى ذكر المنافقين بسوء ، وتأسوا بعلي الذي قطع رؤوسهم من جانب ولم يذكرهم ابدا بسوء بعد نهايتهم من جانب اخر متناقض ؟.

عجيب كيف يكون من طحنهم علي بن ابي طالب بسفه طحنا في حياتهم يريد منا ان نقدسهم بعد وفاتهم ؟.

هل هذا معقول بالفكر والفهم الصحيح ؟.

أم انه ضلالة مابعدها ضلالة والعياذ بالله !!!.

فهمنا من النموذج الذي ناقشناه انفا : ان فهمنا لما خلف سطور نصوص التاريخ وعبره واستيعاب اهدافه ومضامينه بالشكل الذي ارادته هذه النصوص وليس بالشكل الذي نريده نحن بتوجيه النص ايدلوجيا سياسيا نفعيا اوكما نشاء فهذا اخطر بكثير من قراءتنا لهذا التاريخ او الكتابة بداخله ، بل اننا يجب علينا اذا لم نكن مهيئين لوعي التاريخ ، وعبره الحقيقية ان لانكتب بالتاريخ ، ولاحتى نحاول نقله للاخرين اصلا ، فعملية النقل عندئذ وبوجهة النظر الفاسدة والقاصرة هذه ستكون كارثة فكرية وثقافية اعظم اثرا من تزوير نصوص التاريخ نفسها !!.

______________________________