السبت، نوفمبر 05، 2011

(( من التمهيد الفلسفي لفكر السيد محمد باقر الصدر )) 13 حميد الشاكر


بدأ السيد الصدر في تمهيده الفلسفي لمناقشة الفكر الاشتراكي الشيوعي بالتنبيه الى ان الاشتراكية ، كمفهوم فكري ومذهب ونظام اجتماعي ، له عدة اتجاهات مذهبية وفكرية في العالم السياسي الاوربي بالخصوص انذاك والعالم الانساني بالعموم كما ان السيد الامام الصدر ( رض ) قد نوه في تمهيده الفلسفي ايضا الى ان من اشهر المذاهب الاشتراكية المعروفة انسانيا ، هو المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية بقوله :
(( في الاشتراكية مذاهب متعددة واشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية التي هي عبارة عن فلسفة خاصة للحياة وفهم مادي لها على طريقة ديالكتيكية )) 1 .

والحقيقة ان السيد الشهيد محمد باقرالصدر رحمه الله اراد بهذه الفقرة ان يشير الى ما كان في زمنه ولم يزل حتى اليوم من تنوع في رؤى المذاهب الاشتراكية التي تفترق بصورة واضحة بين اتجاهين واسعين :
الاول:وهوالاتجاه الاشتراكي البرلماني الديمقراطي الذي كانت بريطانيا احد ممثليه في اوربا الصناعية ومعها مجموعة من النظم السياسية الغربية التي آثرت الابتعاد نهائيا عن التطرف الاشتراكي صاحب النظرية الماركسية المادية !.
الثاني: وهو الاتجاه الاشتراكي الماركسي المادي الديالكتيكي ، الذي نشأ وترعرع فكريا في المانيا وعلى يد الفيلسوف المثالي ((فردريك هيجل)) واستقر في روسيا كتجربة سياسية اولا ، قبل ان يتحول ، الى منظومة الاتحاد السوفيتي بامبراطورية كبرى تمددت بشكل استعماري كبير ونافذ على مساحة واسعة من العالم !!.

وهناك ايضا تنظيرات اشتراكية دمجت ، بين الاشتراكيتين الديمقراطية ، والمادية كالاشتراكية الفرنسية ، التي بدأت ثورية الا انها سرعان ماعادت الى الديمقراطية ليستقر قرارها على ان تكون اشتراكية ديمقراطية ، وهكذا لابد من الاشارة الى ان الاختلافات المذهبية ، والفكرية لم تقتصر فقط بين اشتراكيتين فحسب الاولى منها مادية ، والثانية منها ديمقراطية بل ان الاشتراكية الديمقراطية الغربية نفسها ايضا ولوجود المتنفس الديمقراطي بداخلها ، كان في داخلها تعدد في الرؤى للاشتراكية ونظم عملها ومذاهبها الفكرية كذالك ، فكان هناك ما اسماه ( هيو . ا . كليج ) في كتابه (( الديمقراطية الصناعية والتأميم)) ، بالاختلاف بين الديمقراطية الاشتراكية ونظم عملها السياسية وكيفية اختلافها عن الاشتراكية الديمقراطية !!2 .
يتبقى ان نشير هنا كما اشار السيد الصدر لتعدد المذاهب الاشتراكية الى ان الفكرة القومية الغربية والشرقية ايضا ، دخلت على الملعب الاشتراكي ، لتتقاسم مذهبيتها الفكرية ليصبح لدينا اشتراكيتان قوميتان في الميدان الفكري قومية غربية وشرقية متبنية للاشتراكية الثورية المادية الماركسية ، كما هو الحال مثلا في الفكر القومي الالماني وكذا العربي البعثي المتطرف ، الذي تبنى تقريبا وجهة النظر الماركسية في فلسفة حتمية الصراع 3 .، وقومية غربية وشرقية ديمقراطية ، تحترم التطور العقلائي والديمقراطية الصناعية !!.

اما ماهية الاختلافات الجوهرية بين الاشتراكية الديمقراطية لاسيما البريطانية منها التي عاصرت زمن الامام الصدر والذي كتب كتابه ( فلسفتنا) ابّان وجودها الفعلي والسياسي والاشتراكية الماركسية المادية ، فيكفينا هنا ان نذكر ما ذكره (( هارولد ويلسن )) رئيس حزب العمال البريطاني ورئيس وزراء بريطانيا في 1964م في اطروحته المسماة ب (( ماهية الاشتراكية البريطانية )) عندما أكد :
ان الاشتراكية البريطانية في جوهرها ديمقراطية وتطورية فطوال تاريخها رفضت الاسلوب الثوري باستخدام القوة المسلحة او اتخاذ الاجراء الصناعي لبلوغ الغايات السياسية ولم يلقى منهج الصنف ، الذي اوحت به الثورتان الفرنسية والروسية أية استجابات من جانب الحركة العمالية البريطانية ، التي لم تكن تعني بالتدمير وانما عنيت بالبناء . 4 .
اي وبمعنى اخر اكثر وضوحا : ان المائز الرئيسي ، بين الاشتراكية الديمقراطية الغربية والاخرى الاشتراكية المادية الديالكتيكية الماركسية ان الاولى آمنت بحقوق المشاركة للعامل في الثروة الوطنية ، وامنت بان الديمقراطية الراسمالية حتما ستلد الاستغلال من قبل طبقة مستغلة صغيرة تمتلك النفوذ ووسائل الانتاج الصناعية ورؤوس الاموال الضخمةوآمنت كذالك بان يكون للعامل حق التصويت والمساهمة الفعالة في ادارة وسائل انتاجه الصناعية .....، الخ !!.
لكنها من جانب اخر لم تؤمن مطلقا بالمادية الماركسية ، كنظرية فلسفية وكذا لم تؤمن مطلقا بالديالكتيك كطريقة لفهم التطورات التاريخية والاجتماعية ، ولم تؤمن ايضا بالصراع الطبقي وحتمية وقوعه ولم تؤمن بضرورة ديكتاتورية البروليتاريا حتى تذويب او تدميرالطبقة الراسمالية والوصول الى المجتمع الشيوعي الخالي من كل تناقضات طبقية .....الخ !! .

نعم ولسوء طالعنا في الشرق بصورة عامة والعراق بصورة خاصة ، فقد اعرض اشتراكيوناعن الانتخاب الديمقراطي للاشتراكية الغربية لينتخبوا ومن ثم ليستوردوا لنا اشتراكية مادية بكل تفاصيلها الفكرية المتطرفة لتطرح امام شعوبنا على اساس انها طوق النجاة الاول والاخير وطريق التقدم والعلم والتطور النهائي !!.
أما لماذا ابتلينا نحن باشتراكية متطرفة ايدلوجية مادية ماركسية...مخادعة استغلت مسمى العلم والتقدم ، لتخدع شعوبنا المفتقرة للوعي والادراك السياسي الكافي ومن ثم لتدخلهم في نفق التشتت والانقسام والفوضوية وضياع الاستقرار الاجتماعي ؟.

فيبدو ان الجواب الواقعي على هذا السؤال هو : ان منطقة الشرق الاوسط بصورة عامة ، والعراق بصورة خاصة كان يخضع لعملية صراع وتسلل نفوذ بين الكتلة الشرقية السوفيتية الشيوعية انذاك والكتلة الغربية الاستعمارية الراسمالية مما جعل الخمسينات من القرن المنصرم ، ومابعده من حياة السياسة العراقية خاضعا بفضل مابذله الشيوعيين العراقيين من تغييرتوجه البوصلة للكتلة الشيوعية السوفيتية ولهذا راينا كيفية انتشار هذه الشيوعية الاشتراكية المادية المتطرفة في ربوع العراق في الاربعينات وحتى الخمسينات عندما عبرت الشيوعية الماركسية عن نفسها رسميا بعد انقلاب الجنرال قاسم في 1958م وتهيئة الاجواء للشيوعية العراقية الماركسية للتعبير عن ذاتها فكريا وسياسيا بكل صلف ووقاحة قبل ان تنقلب عليها الاشتراكية القومية العربية الممثلة بحزب البعث العربي الاشتراكي !!.

وعلى هذا الاساس ناقش الامام الصدر الاشتراكية الماركسية باعتبار انها الحاضر الاوفر حظا من الاشتراكيات ، التي انتمى لها الشعب العراقي ، ولتصبح الشيوعية الاشتراكية الماركسية المادية الديالكتيكية هي طريق الشعب العراقي الذي قدمه لهم مجموعة من المنتمين يساريا وسياسيا للكتلة الشرقية السوفيتية انذاك !!.
هذا مايتعلق بالاشتراكية من وجهة النظر السياسية بصورة عامة !!.
أما مايتعلق بالجانب الفكري للاشتراكية المادية الماركسية الديالكتيكية ، فقد تناولها الامام الصدررض بكل تفاصيلها الفلسفية والمذهبية من خلال اطروحتيه (( فلسفتنا واقتصادنا )) بحيث انه لاحق مقومات الفلسفة المادية وبكل عناصرها الفكرية في الحلقة الاولى من اطروحته الفلسفية ليفند في (نظرية المعرفة) مقولة مادية الفكر الانساني ، وليهدم في الجزء الثاني من كتاب فلسفتنا المفهوم الفلسفي المادي للعالم ليناقش الديالكتيك وكيفية صياغةاوهامه الماركسية الغيرقائمة على العلم والمناقضة لابسط القواعدالعلمية التي يقوم عليها العالم بمجمله من قبيل مبدأ العلية الذي يتحكم في العالم ككل !!.
اما في كتاب اقتصادنا فناقش الامام الصدر ، مذهبية النظام الاشتراكي واساسيات اطروحته الاقتصادية ، ليبين بالادلة الفكرية الواضحة ، للقاصي والتداني المستوى الفكري الهابط ، والمخادع للاطروحة الماركسية المادية ، التي بنت كل تدميرها لمقومات الاجتماع البشرية على اساس فكرة الديالكتيك اللاعلمية ، التي اسمتها (( حتمية الصراع الطبقي))وضرورةالوصول الى المجتمع الشيوعي اللاطبقي باعتبار انه اعظم قانون وسنة من سنن التاريخ ، والحياة والكون والعالم .....، واذا بالامام الصدر يعري هذا التنظير اللاعلمي ، ليعيد بوصلة التفسيرات العلمية الى نصابها الدقيق قبل ان يعبث بها الفكر الماركسي المسيس !!.
ومع ذالك لم يخلوا تمهيد الفيلسوف الصدر لكتابه ( فلسفتنا ) من الاشارات الفكرية العميقة التي تناولت الفكر الاشتراكي الماركسي بلمسات اضافية ، هي بحاجة فعلا لتناولها واعادة قراءتها فكريا ، فهو رضي الله عنه قد اشار في تمهيده الفلسفي الى ثلاث مستويات فكرية للاشتراكية الماركسية :
الاول : وهو المستوى المادي للفلسفة الماركسية الاشتراكية .
الثاني : وهو المستوى الديالكتيكي لهذه الفلسفة .
الثالث : وهو المستوى الشخصي ل( ماركس) وكيف انه مقلد في كلا الاطروحتين المادية والديالكتيكية لفيلسوف المانيا الخطير ( فرديش هيجل) الذي طرح ديالكتيكه بمثالية قبل ان يحوره ماركس لمادية غائرة في التطرف والتدمير !!.
وهذا ماسوف نتناوله ( انشاء الله) في الحلقة القادمة من هذه السلسلة المعرفية لفكر الامام الصدر الفلسفي في تمهيده لكتاب فلسفتنا !!.
1: فلسفتنا / السيد الصدر / مصدر سابق / ص 24.
2: للتوسع بنظرية الاشتراكية الديمقراطية انظر / الديمقراطية الصناعية والتاميم / هيو .ا . كليج / ترجمة ابراهيم لطفي عمر / الجمهورية العربية المتحدة .
3: لمعرفة علاقة الفكر القومي البعثي بالفلسفة المادية الماركسية راجع : الدكتور منيف الرزاز / فلسفة الحركة القومية العربية التحدي الاستعماري / ج2/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر / الطبعة الاولى 1977م / ص 121.
4 : ماهية الاشتراكية البريطانية / هارولد ويلسون / الدار القومية للطباعة والنشر
http://7araa.blogspot.com/
alshakerr@yahoo.com