(( توطئة ))
تعلوا في عراق اليوم وتيرة الحديث السياسي حول مفهوم الدولة بكل مفردات وجزئيات هويتها وشخصيتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والامنية والعسكرية والاجتماعية ...الخ !!.
وكذا يتخطى الحديث احيانا الى الضفة الاخرى من موضوع (( الدولة )) ليبحث حول مفاهيم اعادة انتاج ماتهدم من هذه الدولة والكيفية او ما يتصل بهذه او تلك من الكيفيات الموصلة لاقامة دولة عراقية حديثة تتمتع بالمدنية والتطوروالاستمرارية والعدل والقوة والتقدم ..... الخ بعيدا طبعا عن الدكتاتورية والهيمنة وحكم العصابة او الحزب والعشيرة والعائلة والفرد !.
والحقيقة ان هذا الحديث عن (حلم بناء الدولة) من جديد وعلى لسان كبار ساسة البلد في العراق هو ليس حديثا غريبا او شاذا عن سياقات المرحلة ، التي يمر بها وطن وبلد كالعراق فهو بلد (على اي حال) بُني على اسس سياسية مختلّة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة في 1921م وتعرض بالنهاية وفي بداية الالفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين لاحتلال اجنبي اعقبه تدمير وهجمة بربرية ارهابية لبنية المجتمع العراقي ، صفرّت كل هرمية المجتمع والسلطة ومؤسساتها الدكتاتورية القمعية التي كانت قائمة في زمن نظام حكم حزب البعث المقبور ما قبل الاحتلال ليأتي من ثم على بنيان الدولة أوما تبقى منها من القواعد وليهبط بجدرانها لتسويتها مع الارض !!.
وعلى هذا الاساس وجد العراقيون انفسهم رجال دين وساسة ورجال فكر ومجتمع وقانون واقتصاد ورجال عشائر .... مرغمون ومدفوعون بمتطلبات الضرورة الانسانية والاجتماعية الحديثة للعمل والتفكير بجد بانشاء كيان سياسي جديد يعيد انتاج هيكلية الدولة وبكل مؤسساتها الداخلية للحياة ويقيموا نظامَ حكم سياسي يسدّ الفراغ الذي تركته حقبة الحكم الدكتاتوري الطائفي من جهة وما خلفه فيما بعد العبث الاحتلالي الاستعماري الامريكي والارهابي للعراق !!.
لكن هذا الحلم الذي راود العراقيين منذ قرن من الزمن في العصر الحديث (( اقامة دولة العدل والمساواة )) ومنذ الاف السنين في الازمان الغابرة ، لم يكن دائما ياتي ( كعادته ) لافي ظرفه الطبيعي ، ولا في زمنه المهيئ ولا على ايد من ضحوا من اجله بارواحهم ودمائهم وكل وجودهم من اجل اقامته !!.
وهذه مع الاسف احد مهازل تاريخ القدر الغيبي ، الذي يحرك الاشياء باصابعه الخفية في المسيرة العراقية الطويلة فلا التغيير الذي سعى من اجله اشراف ونبلاء وشهداء وقادة العراق في العصر الحديث جاء بايد عراقية صرفة ، ولا الدولة الحلم انشئت كما خطط لها المستضعفون في هذا الوطن ، ولا الحكم رسمت معالمه كما كان يتمناها المفكرون والفلاسفة والعلماء من ابناء هذا الوطن المحروم !!.
وكل ذالك كان ولم يزل لاسباب ليس في هذه التوطئة موضع الاستفاضة بالحديث عنها لكن يكفي ان نقول ان التغيير في العراق الحديث سياسيا قبل 2003م وكذا في منطقتنا العربية والاسلامية ، لثرواتها وموقعها الجيوسياسي ، وطمع الاستعمار الحديث الغربي والامريكي بالسيطرة والهيمنة عليها ... قد ارتهن بشكل تام لقوى خارجية ومصالح استعمارية كانت ولم تزل لا تسمح ابدا بالاقتراب من اي تغيير في العراق والشرق البترولي الاوسط خارج مخططاتها واراداتها الاستعمارية الكبرى ولهذا وجد من تبقى ، ونجا من محرقة الابادة الدكتاتورية من العراقيين الاحرار انفسهم داخل دائرة تتحكم فيها معادلات دولية ، هي التي تحكم شأن بلادهم الداخلي والخارجي في التغيير المنشود ، وقد فهمت القوة العراقية الحرّة التي كانت مناهضة للدكتاتورية والاستبداد هذه المعادلة وهذه القسمة التي تفرض فكرة : ان اكثر من نصف معادلة التغييرداخل بلدهم مرتهنة تماما لنفوذ قوى استعمارية غربية واميركية كبرى لايمكن ان تسمح للعراقيين الوطنيين الاحراراو لغيرهم في هذا الوطن العربي والاسلامي الكبير بالنهوض باي عمل تغييري جدي وحقيقي داخل العراق بدون الخضوع والرجوع والاتفاق ، والتنسيق مع هذه القوى الاستكبارية المهيمنة على العالم والناهبة لخيراته والمستبدة باقداره !!.
وبالفعل لم تسمح الولايات المتحدة الامريكية كمستعمر جديد للمنطقة والعالم باي تغيير داخل العراق قبل احتلالها لهذا البلد اذا لم يكن مرافقا لدباباتها وطائراتها وصواريخها ومشاريعها الشرق اوسطية الفوضوية العملاقة التي اتخذت من العراق صاعق تدمير شرق اوسطي كبير لتغيير العالم من قلب العراق الجريح !!.
في هذه الاجواء والظروف المحلية والاقليمية والدولية تمّ التغيير اخيرا داخل العراق وفي هذه المحرقة الاستعمارية الجديدة بكل ماتعني كلمة (( محرقة )) من معنى للعراق وشعبه ناضل العراقيون في الضفة الاخرى من المعركة من اجل اقامة حلمهم الكبير بانشاء دولة العدل والمساواة والمؤسسات والدستور والتقدم والقوة .......الخ وهم يخضعون لقنابل الارهاب والذبح (( المدعوم استعماريا واقليميا بتروليا خليجيا )) والمؤامرات الاقليمية والدولية وهي تحاول ايقاف عجلة بناء هذه الدولة باي ثمن !!.
نعم في ظل ظروف الاحتلال والاستعمار من جهة ، وفي ظل الارهاب والمؤامرات الداخلية والخارجية على العراق من جانب اخر يصعب الحديث عن بناء (دولة) بكل مقوماتها الطبيعية ويصعب كذالك تصور بناء حكم رشيد ، ومؤسسات صالحة وقادرة على انشاء مجتمع صحي ومتطلع للبناء والحياة والعدل !!.
وكذالك يصعب الحديث وبشكل اعمق عن بناء (مؤسسات دولة حديثة) في ظل تشرذم اجتماعي كمنتج طبيعي لمخلفات الحقبة الدكتاتورية المظلمة لحكم العراق من جهة وانقسام طائفي وعرقي وتناحرات حزبية سياسية سيطرت طوال فترة وضع اللبنات الاولى لهياكل الدولة بعد التغيير بوضع لمساتها وتناقضاتها ومصالحها على كل مفردة من مفردات الدولة العراقية مابعد التغيير في 2003م ، وفي كل مفاصل الدولة الرئيسية من الدستور وحتى مؤسسات الدولة العسكرية والامنية ، والاقتصادية والخدمية والاجتماعية ....الاساسية واخضاع كل ذالك لمسمى المحاصصة والتوافق والمشاركة وغير ذالك !!.
ان صعوبة الحديث عن بناء دولة حديثة وهي تحت وطأة كل العوامل التي ذكرناها انفا (( الاستعمار الارهاب تفكك بنية المجتمع صراعات حزبية مؤامرات داخلية وخارجية .... )) لايكمن فقط في ان للدولة كمفهوم انساني اعتباري أصيل في بنية اي مجتمع انساني مدني قائم ((فلسفتها السياسية الخاصة )) بها في النهوض والتحقق على ارض الواقع الاجتماعي تاريخيا وحتى وقتنا المعاصر بل تكمن الصعوبة كذالك في ان للدولة الحديثة مميزات ايضا تختلف في معظم ابعادها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية عن الدولة قبل الثورة الانسانية الصناعية والعلمية التي اثرت بشكل مباشر في بنية المجتمع ومن ثم بنية الدولة وبكل مفرداتها الاساسية التي تقوم عليها !!.
فالدولة الحديثة اليوم مثلا ( وهذا ما سنبحثه بعمق لاحقا ) من اهم مميزاتها (( المؤسساتية = تقسيم عمل الدولة ووظائفها )) المنفصلة طبعا في بنيتها عن اي تاثيرات ايدلوجية او فئوية او حزبية او طائفية او قومية ....الخ او غير ذالك باعتبار ان هذه المؤسساتية داخل اطار الدولة الحديثة لايمكن اخضاعها لاي مفاهيم غيرمفهوم (المواطنة الاجتماعية) واي عنصر تقسيم قومي او طائفي او فئوي وتحت اي مسمى وعنوان كالتوازن والمشاركة في الحكم والقرار والادارة .... يدخل في عمل هذه المؤسسة او تلك فسيطيح حتما باحد مفاهيم قيام الدولة الحديثة ، ومؤسساتها القائمة بطبيعتها العصرية على مشاريع الخدمة الاجتماعية للمواطنين والتي لايدخل في اجندة اعمالها النظر لهذا المكون او ذاك من باقي المكونات الاجتماعية !!.
وبالتأكيد هذا لايعني ابدا (كما لايفهمه بعض المنظرين) ان الدولة الحديثة دولة ميتة اودولة آلية اودولة لاتنبض بحياة المجتمع وتوجهاته وطموحاته ومشاعره ... ولهذا هي دولة بلا فكر او عقيدة اوايدلوجيا او توجيه بل ايضا من ((مميزات الدولة الحديثة والقديمة كذالك )) ان تكون لها هوية وشخصية وتوجه وايدلوجيا وحياة وتفاعل وروح اجتماعية وغير ذالك لكن كل مافي الامر ان الدولة الحديثة اليوم نضجت ، ووصلت الى مرحلة الرشد الكامل في العمل الوظيفي ، وكما ان للمؤسسات داخل اطار الدولة الحديثة مميزاتها ، واستقلالها في العمل عن بعضها والبعض الاخر في جانب وتنسيقها مع بعضها والبعض الاخرمن جانب آخر كذالك في الجانب الايدلوجي لهذه الدولة الحديثة يوجد هناك القسم او المؤسسة الخاصة ب((فكر الدولة )) وحياتها وتوجهاتها وايدلوجيتها وعقلها المدبر والمفكر...مستقل في عمله وتوجيهه للدولة الحديثة عن باقي المؤسسات ومختلف ايضا عن عقلية الدولة القديمة التي كان يحكمها الفرد ، اوتحكمها الجماعة والمؤسسة باخضاعها بالمطلق لهذه الايدلوجيا ، او تلك من العقائد الفكرية لتتماهى المؤسساتية مع الايدلوجيا بدمج كامل !.
وعلى هذا الاساس قلنا بصعوبة الحديث حول تجربتنا العراقية السياسية وهي تتحرك لبناء الدولة العصرية وهي داخل كل هذه الاشكاليات والازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاقليمية والدولية ، فبناء دولة المؤسسات الحديثة من مميزاتها ان تبنى بفكر ووعي تام ، وفلسفة ناضجة ودراسة معمقة لكل مفردة من مفردات لبناتها التأسيسية ، والحال ان تجربتنا السياسية لبناء دولة العراق بعد التغييروبغض النظرعن عشرات العوامل المعيقة لنهوضها والمؤثرة في بنائهافان نشأتها ورسم خطوطها العامة ايضا لم تكن على الاسس والاصول التي توفر للدولة الحديثة قيامها الطبيعي وولادتها الحقيقية !!.
ان الدول التي قرأنا تجربتها بدقة والتي صُلحت لان تكون لبنات اولى لتجربة ولادة الدولة الحديثة في العصر الصناعي ، والتي هي اليوم مثار نقاش وجدل وتطور سياسي مستمر ، وجدناها تلك الدول التي بنيت أسسها الاولية تحت اشراف ورعاية وتعمق ودراسة مجموعة متنوعة من رجال الفكر والفلسفة اولا ورجال القانون والسياسة والدين ثانيا ورجال الاقتصاد والمجتمع ثالثا ومثل هذه الدول الحديثة التي مرت بمراحل دراسة وتعمق وهدوء وجدل وتأسيس حقيقي هي التي ادركنا من خلالها كيفية بناء وقيام الدولة الحديثة بكل ماتعنيه هذه الحداثة للدولة !!.
فليس هي دولة حديثة من يقوم بتأسيسها مجموعة احزاب سياسية لها مصالح ضيقة تحاول استقطاب الدولة لرؤيتها الحزبية الضيقة ، وليس كذالك هي دولة حديثة من كان بنائها ك(سلق البيض السريع ) الذي يحاول حرق المراحل للاستيلاء على الحكم والسلطة فحسب وكيفما اتفق ، وهكذا ليست هي الدولة الحديثة من مزقت اشلائها التقسيمات والمحاصصات العرقية والقومية والطائفية ، وليس هي الدولة الحديثة التي بُنيت لبناتها تحت قنابل الارهاب والاحتلال والمؤامرات والمكائد الداخلية والاقليمية والدولية ، ولا ننسى انها ليست الدولة الحديثة التي بني دستورها تحت ارهاب الماضي والرعب من عودته ، وليس هي الدولة التي تعاور على مؤسساتها الامنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية ...الخ الف طائفة وطائفة والف مكون واخر والف قومية وجنسية والف لغة وقوم تحت بند المشاركة في الحكم ديمقراطيا !!,
الدولة الحديثة تبدأ بذرتها من رؤية فكرية فلسفية تفهم ((معنى الدولة الحديثة )) بكل تاريخها ، ومفاصلها ونشاتها ووظائفها وشرعيتها ، وغاياتها واهدافها بعمق ، واختلافها عن معنى الدولة التاريخية او القديمة التي كانت في زمن من الازمان تتحرك بشكل او اخر وتنظر (( هذه الرؤية الفكرية والفلسفية الاولى )) للدولة باعتبارها دولة مجتمع وليس تحت اي اعتبار اخر ، اي تنظر وتنظرّ للدولة فحسب ولنجاحها ولقيامها بوظائفها على اكمل وجه لاغير ثم يأتي دور اهل القانون لكتابة دستور يستوحي كل مفرداته القانونية ويصيغها لخدمة اهداف هذه الدولة الحديثة ومشاريع نهوضها ونجاح فكرها وفلسفتها في هذه الحياة وبعد ذاك يكون لرجال الدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد .... دورهم الذي ينبغي ان يطلع على ماهية وهوية وشخصية هذه الدولة الحديثة ليتفاعلوا مع مشاريعا ويفعّلوا من تنظيرها وتحويل هذه الافكار الى واقع متحرك داخل المجتمع والحياة والناس !!.
اما بغير ذالك فلا يمكن لنا الادعاء اننا نقوم ببناء دولة حديثة او نتوقع ان تاتي الدولة بثمار الدولة الحديثة للمجتمع بينما نجد من يتحدث وينظر ويؤسس ويقيم .... بناء هذه الدولة هو لايستطيع التمييز الفكري اصلا بين معنى الدولة ومفهومها الحديث من سياسيين او غير ذالك !!.
نعم النوايا الطيبة بحلم اقامة دولة العدل والمساواة لاتكفي لصناعة الدولة الحديثة بكل ملابساتها الفكرية والسياسية والقانونية ولايمكن لاي حزبي او فئوي او قانوني او عرقي او سياسي ان يضع التصورات والخطوات التامة لبناء هذه الدولة وهو لايدرك ان للدولة الحديثة خطواتها البدائية الطبيعية التي تبدأ منها لتنتهي عند مشروع قيام هرم الدولة الحديثة المتكاملة التي تدوم وتستمر وتتطور وتنموا وتتفاعل وتستحق احترام مواطنيها والدفاع عنها !!.
اما اقامة ((حكم )) فلكل عصابة وحزب اجرامي ومجموعة من الهمج والبرابرة ان تقيم تسلطا وحكما يحكم الناس باسم الدولة ولكن ليضع في بالهم اؤلئك الذين يحاولون اقامة حكم بلا دولة حديثة :ان العصر الانساني اليوم لم يعد بامكانه استيعاب مفهوم حكم العصبة الخلدونية القديم ، كما ان روح العصر الانساني تتجه الى التطلع لمعرفة حكم الدولة الحقيقية التي تتمكن من تقديم خدماتها بالشكل الافضل مع توفير العدل والمساواة بين رعاياها وبغير ذالك لايمكن لنا ان ندعي اننا انتقلنا من زمن حكم الدولة الى دولة الحكم !!.
____________________________________________________
alshakerr@yahoo.com
myblog
http://7araa.blogspot.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق