الأحد، يناير 20، 2013

((الخلط الفكري بين الدين والفلسفة والعلم لدى علي الوردي ))

 
كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي / القسم الثامن عشر
حميد الشاكر
((الخلط الفكري بين الدين والفلسفة والعلم لدى علي الوردي ))
3
***********************
طبعا حسب المعطيات التي تفرض نفسها علينا من خلال قراءتنا لمنتوج وفكر ومؤلفات المرحوم علي الوردي فنحن ملزمون بالاقرار ان الوردي لم يكن في منهجه الفكري صاحب (( فصل او تخصص )) بين العلوم او منطق ومناهج الافكار الثلاثة في (( الدين ، الفلسفة ، العلم )) !.
وهذه الملاحظة في فكر ومنتوج ومؤلفات وكتب علي الوردي لاتحتاج الى كثير عناء لأي قارئ يتصفح هذا المنتوج او يقرأه بشكل عام فكتب ومؤلفات وافكار المرحوم الوردي طافحة بماهو فلسفي وماهو ديني وماهو علمي مدمج بعضه بالبعض الاخر تحت مسمى ((علم الاجتماع الحديث والنظريات الحديثة ، والمنطق الجديد ...)) ، ولعلنا هنا لانغالي ان قلنا ان بين كل ثلاثة اسطر في صفحة وفي اي كتاب من كتب المرحوم الوردي الفكرية سنجد ان بدايتها فكرة ومنطق علمي واوسطها فكرة ومنهج لاهوتي ديني ، واخرها رؤية او نظرية او فكرة فلسفية ايدلوجية ، او العكس ايضا صحيح !!.
وهذا الاسلوب في الواقع للمرحوم الوردي يكاد يكون هو السمة الاساس لمعظم كتب المرحوم الوردي حيث اذا وردت فيها اي فكرة للمناقشة ((فكرة المدنية مثلا او فكرة المنطق الارسطي او فكرة السفسطة او الادب او فكرة الاجتماع ...)) فاننا سنجد المرحوم علي الوردي وبلا شعور منه او بشعور وقصد قد ادخل قوانين علمية ، ليناقش على ضوئها افكارا فلسفية ، ومن ثم ليقارنها بفكر لاهوتي ديني .... وهكذا !!.
وهذا ان دل على شيئ فانما يدل على ماذهبنا اليه من ان علي الوردي رجل مسكون ب((اللاتخصص واللافصل)) والفوضوية بالطرح الفكري بين مناهج العلوم والافكار المتنوعة !!.
نعم ذكرنا بالقسم ((السابع عشر)) من هذه السلسلة كيف ان رواد العلم والفلسفة ومؤسسي علم التجريب الاوربي الحديث قد ناضلوا من اجل هذا (( التخصص والفصل )) بين مناهج الافكار والمعارف والعلوم المتنوعة ، وذكرنا ان عملاقي فلسفة العلم الاوربي الوسيط ، ومابعد النهضة (( روجر بيكن ، وفرنسيس بيكون )) قد دابوا على الاشارة الى ان منطق العلم مختلف في منطلقاته والياته الفكرية عن منطق الفلسفة واللاهوت وهذا لايعني ضرورة التناقض والضدية بين هذه المناهج الفكرية ، بل يعني ضرورة الفصل والتخصص فيما بينها والبين الاخر ، لنفهم اخيرا : ان الحقيقة الدينية مختلفة منطلقا ومنهجا فكريا عن الحقيقة والمنطق الفلسفي ، وكذا العلم ومنطقه التجريبي وعلى هذا الاساس ميز هؤلاء الرواد بين منطق واخر وحذروا بشدة من الدمج بين هذه المناهج والاساليب الفكرية ، وان في مثل هذا الدمج ضرر يلحق بكل المناهج ، واساليبها الفكرية من جهة وصراع لابد من الوقوع بين براثنه في حال ارادة محاكمة ما هو فلسفي ، بماهو منهج ومنطق علمي ، فضلا عن ذالك طبعا الوصول الى نتائج ((مرقعة )) لكل بحث يقوم على هذا الخلط ستكون لاهي علمية ولاهي فلسفية ولاهي لاهوتية !!.
ولكن مع ذالك وجدنا المرحوم علي الوردي في معظم طرحه الفكري رجل لاعلاقة له بكل هذا التاريخ الفكري والفلسفي وبكل مناهج التخصص العلمية او الدعوات للتخصص في مناهج التفكير الانسانية ، ويطرح رغم انف القرن التاسع عشر والعشرين المنصرم ( باعتبار انه عصر التخصصات العلمية ) كل افكاره وتصوراته وكتبه ومؤلفاته تحت وطأة محرقة الفوضى الفكرية العارمة ، حينما يطحن اي فكرة بين رحى منطق الفلسفة من جهة ومنطق العلم واللاهوت من جانب آخر !!.
فمثلا موضوعة فلسفية ، كموضوعة (( الحقيقة )) يتناولها المرحوم الوردي في كتابه (( مهزلة العقل البشري / تحت الفصل الثامن / المعنون : بمهزلة العقل البشري / ص 132 )) بشكل ما انزل الله ولا العقل الفلسفي ولا المنطق التجريبي به من سلطان ، فبينما المعروف منهجيا وفكريا ان مفهوم (( الحقيقة )) له معنى واتجاه مختلف في الفلسفة الارسطية عن اي معنى علمي ، او لاهوتي او اجتماعي او ..(( وهذا ما اشار له بيكون فرنسيس حول الحقيقة الدينية المختلفة عن الحقيقة الفلسفية / ذكرناه في القسم السابع عشر )) راينا وقرأنا للمرحوم الوردي وهو يتناول (( الحقيقة )) بمنطلقاتها الفلسفية بشكل غريب وعجيب وبعيد عن اي مسكة وعي مفاده :
(( ان من مزايا هذا العصر الذي نعيش فيه هو ان الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها واخذ يحل محلها سلطان النسبية ،فماهو حق في نظرك قد يكون باطلا في نظر غيرك وما كان جميلا بالامس قد ينقلب قبيحا عندك اليوم ، كل ذالك يجري بعقلك وانت ساه عنه كأن الامر لايعنيك /1)) .
والحقيقة ان مثل هذا الطرح ينم عن جهل مطبق بمبادئ ، ومنطلقات الفلسفة ورؤيتها وادلتها وبراهينها ... لمفهوم الحقيقة من جهة وخلط بين العلوم والاتجاهات بشكل تشمئز منه الذائقة العلمية والفكرية الواعية من جانب آخر فمعروف هنا ان علي الوردي عندما يطرح هذا المفصل من رؤيته حول ((الحقيقة )) فانه يقصد الاتي :
اولا : ان العصرالذي يتحدث عنه علي الوردي بانه عصر (فقدان الحقيقة المطلقة قيمتها) فيه هوعصر العلم وبطبيعة المنهج والمنطق العلمي (( الذي لم يدركه الوردي ليفرق بينه وبين باقي المناهج العلمية )) فانه لايؤمن (( بحقائق او قوالب فكرية جاهزة )) وذالك بسبب : ((لان هذا المنهج العلمي التجريبي يعتمد في مسيرته على الملاحظة والتجربة)) ولهذا هو علم يعتمد على المنطق الاستقرائي اولا وعلى مفهوم (الاحتمالات)ثانيا وعلى نسبية النتائج العلميةليتاح فرصة اعادة التجريب واكتشاف المزيد من العلوم والقوانين ثالثا كي لايقع العلم في الوهم العلمي كما كان يعتقد من ان الارض مركز الكون !.
ومن هذا المنطلق عندما يذكر علي الوردي نفسه نسبية ((اينشتاين)) فانها نسبية لانها قائمة على منطق العلم الاحتمالي فلا يمكن للعلم ان يجزم بنتيجة علمية لان طبيعة العلم لاتقبل الاطلاق ابدا ومن هنا كان ، ومازال المنهج العلمي لايؤمن بحقائق مطلقة وهذه هي سمة عصرنا العلمي التجريبي الحاضر الذي يتحدث عنها الوردي في بداية سطره للجملة !!.
ثانيا : هذا المنطق العلمي النسبي الاستقرائي الاحتمالي مختلف عن منطق الفلسفة ، وسير فكرها الارسطي والاسلامي حول مفهوم ((الحقيقة )) وكيف انها مطلقة ؟ ، فالحقيقة في المفاهيم الفلسفية هي (( مطابقة الادراك الانساني للواقع الخارجي )) وهذا المفهوم الفلسفي نوقش بكثافة معمقة عند الفلاسفة الارسطيين ، بحيث انهم قد ردّوا بفكرية عملاقة على شبهة الماديين المعاصرة التي تقول : بكيفية ان يكون الواقع الخارجي الانساني متغيرا مع بقاء مفاهيم الادراك البشري كحقائق مطلقة وغير متغيرة وثابتة ؟.
والحق ان الفلاسفة الارسطيين قد شرحوا براهينهم على ان (عمل الادراك والذهن البشري) ليس بالضرورة ان يكون بصياغة مفاهيمه تابعا للواقع الخارجي المادي المتغيربل ان من مميزات وخصائص الادراك الانساني وصياغة مفاهيمه انه يكون ثابتا ليقرر الحقائق وبكل اعتباراتها الواقعية والتاريخية وغير ذالك فمثلا حقيقة مثل (( ارسطو كان تلميذا لافلاطون )) تعتبر من ضمن الحقائق التاريخية المطلقة التي وان يكن الواقع الخارجي لها كان يتحدث عن اربعمئة سنة قبل الميلاد لكن هذه الحقيقة لم تبلى ولن تبلى ابدا وهي حقيقة فكرية ثابتة مهما تغير الواقع الخارجي تاريخيا من حولها !!.
وهكذا حتى ان اردنا مجارات الماديين في فكرهم القاصر واعتبار ان ((الفكروالادراك الانساني ماهو الا انعكاس لواقع الانسان الخارجي )) وان هذا الواقع هو متغير بطبيعته فقد اجاب الفلاسفة الارسطيون ايضا على ذالك بان في نفس هذا الواقع مفاهيم ثابتة وغير متغيرة مطلقا كمفوم (( الحركة والتغيير )) الذي تؤمن به المادية الحديثة ، فهذا المفهوم لايمكن طروء النسبية على حقيقته او حركته بحيث يكون اليوم هو حقيقة وغدا يتبين انه ليس بحقيقة بل هو وهم وخرافة وكذب !!.
وهكذا تعتبر الفلسفة ان هناك مفاهيم فكرية وواقعية تعتبر (( حقائق )) لايطرأ التغيير عليها ، لانها غير مرتبطة في صياغة ادراكاتها بالواقع الخارجي الذي ايضا تؤمن الفلسفة بحركته وتغيره في كل لحظة ،كما تؤمن الفلسفة ان هذه الحقائق الفكرية يجب ان تكون ثابتة لاستنادكل المعرفة البشريةعليها فبغيرثبات هذه الحقائق لايتمكن الانسان من صياغة اي معرفة لاتاريخية ولا واقعية ولاغير ذالك في ادراكاته البشري !.
ثالثا : الغريب العجيب ان علي الوردي لم يكتفي بدمج منطق الفلسفة ، مع منطق العلم في مقطوعته الفكرية تلك فحسب بل هو كذالك ادخل ايضا ودمج كذالك المفاهيم ((الاعتبارية الاجتماعية))على الخط ليستشهد بها على صواب فكرته المهترئة التي يريد ان يؤكد بها (( نسبية الحقائق المطلقة )) فختم بقوله :(( فما هو حق في نظرك قد يكون باطلا في نظر غيرك وما كان جميلا امس قد ينقلب قبيحا عندك اليوم ...)) !!.
وطبعا الوردي هنا يتحدث حول (( المفاهيم الاجتماعية الاعتبارية )) التي عادة يقال في تناولها انها من الاساس لاتخضع لا لقانون المنطق العلمي ، ولا لقانون المنطق الفلسفي بل هي ((اعراف اجتماعية )) يخلقها المجتمع حسب متطلباته الروحية والفكرية والاسرية والاجتماعية ... وهي متغيرة بطبيعتها بين مجتمع واخر في نفس الزمن فضلا عن انها متغيرة من تاريخ لاخر ، وعلى هذا الاساس فان هذه الاعتباريات الاجتماعية في تذوق الجمال والحسن ، وفي الرؤية للصواب والخطا الاخلاقي الاجتماعي لايمكن اتخاذها قانونا او دليلا على عدم (ثبات الحقيقة واطلاقها) في المفاهيم الفلسفية فمفهوم الفلسفة للحقيقة ليس فضاءه الاعتباريات الاجتماعية ولا فضاءه الاحتمالات العلمية لينسب لها المرحوم الوردي كل هذه المهزلة الفكرية التي يطرحها المرحوم الوردي تحت مسمى ((مهزلة العقل البشري)) وهو غافلا ان ما يطرحه هو المهزلة بالفعل وليس ما تطرحه الفلسفة او العلم او الاجتماع /2 ...من افكار وتصورات بنيت على التخصص الفكري الذي يدرك التمييز بين المفاهيم الفكرية ويدرك كيفية التناول العلمي الدقيق لهذه المصطلحات والافكار بدون خلط ولاخبط عشواء كالذي يقوم به المرحوم الوردي في طرحه الفكري الذي لايستند على منهج علمي متخصص في بابه !!.
اذا نعود ونسأل لتعميق الفكرة اكثر حول فوضوية المرحوم الوردي الفكرية : بلماذا طرح رجل اكاديمي ( حسب ما يقدم لنا ) كان المفروض انه يدرك تماما معنى التخصص العلمي ، والمنهجي كل هذا الكم الهائل من الافكار ، بشكل لاعلاقة له باي فكر متخصص او مناهج علم واعية لمعنى المنهج العلمي المميز عن الاخر الفلسفي واللاهوتي او الاجتماعي ؟.
هذا سؤال يثير جوابه الحيرة فعلا ، فإما ان يكون علي الوردي رجل ليس له صلة باي اكاديمية وعلمية واعية لمعنى وتاريخ ومناهج التخصص العلمية التي دعى لها روجر بيكون حتى فرنسيس بيكون الى اوجست كونت !!.
او ان يكون المرحوم علي الوردي واعيا لمعنى التخصص العلمي ، ولكنه اراد استغفال العقل العلمي والثقافي العراقي بطرح خليط غير متجانس من الايدلوجي والعلمي والديني ليدخل هذا الفكر العراقي في متاهة لها اول ولكن ليس لها اخر ؟.
من وجهة نظرنا الشخصية نحن نميل الى جواب الفرض الاول وهوكون المرحوم علي الوردي بالفعل كان رجلا ((اميًّا)) تماما في موضوعة ((التخصص والفصل)) العلمية في مناهج التفكير الانسانية ،بل ويمكننا هنا الاضافة ايضا : ان المرحوم الوردي ومن خلال قراءتنا لمنتجه الفكري ، والعلمي رجل لايمتلك (( القدرات والقابليات الذهنية المعرفية )) التي تؤهله لادراك معنى الفصل بين ماهو علمي وبين ماهو فلسفي على التحديد !!.
اي وبمعنى اخر : يلاحظ كل من ادرك مفهوم المنطق العلمي واختلافه عن المنطق الفلسفي :ان اشكالية الوردي الفكرية قبالة تخصص المناهج المعرفية انه مثقف لم يستطع التمييز بين ما تعنيه مناهج البحث العلمية ، وماتهدف اليه في عملها العلمي الاستقرائي التجريبي ، وبين مايعنيه المنطق الفلسفي الايدلوجي ، واهداف وغايات عمله للوصول الى حقائقه الفلسفية الكلية !!.
وعدم الادراك ، والمعرفة هذه عند المرحوم الوردي لاختلاف انماط المناهج الفكرية للعلم والفلسفة هو الذي دفعه لتناول علم الاجتماع (( الكونتي الوضعي التجريبي )) بمنطلقات وعلى اسس ايدلوجية فلسفية (هيجلية) وهوكذالك الذي دفعه نقد المنطق الارسطي من خلال منطق الاستقراء التجريبي العلمي الحديث ليخرج بنتيجة تسفيه المنطق الارسطي اخيرا ، وهو الذي دفعه لمحاكمة الفلسفة وفلاسفتها العقليين الاسلاميين من خلال النظريات العلمية الحديثة .... ليصل الى نتائج ليس لها اي مسكة علم او منطق او نتائج واقعية !.
والان ما هوالفرق الذي لم يدركه علي الوردي بين منطق ومنهج الفلسفة من جهة ومنطق ومنهج العلم من جانب اخر والذي جعل من افكار المرحوم الوردي واطروحاته النظرية اطروحات هشة وهزيلة ولم تستطع الصمود امام التطور والزمن ؟.
الحقيقة ان الفرق بين منطق ومنهج العلم الاستقرائي الحديث ، وبين منطق ومنهج الفلسفة الارسطي القديم الجديد هو :
اولا : في المسارات والمنطلقات الفكرية .
ثانيا : في الاهداف والمواضيع والغايات العملية .
ففي المسار الفكري العلمي التجريبي ينتهج الفكر العلمي ((المسار الاستقرائي)) الصاعد من الجزئيات الوجودية الى اكتشاف القوانين العملية ، فعمل العلم تجاه الطبيعة (مثلا) هو الملاحظة ، التي تقود العلم العلمي الى رصد الظواهر الطبيعية اولا ، ثم اخضاع هذه الظاهرة الطبيعية للعملية التجريبية المتكررة للوصول الى عللها ، واسبابها القانونية ، التي تنتج هذه الظاهرة ، فظاهرة سقوط التفاحة الى الارض وملاحظتها هي التي دفعت للسؤال عن : السبب ؟ ، وهي التي اوصلتنا من خلال التجربة ان قانون الجاذبية هوالعلة الاصيلة والواقعية وراء سقوط الاشياء الى الارض وليس الثقل اوكثافته المادية هو السبب لسقوط الاشياء الطبيعية الى الارض ، كما كان يعتقده علماء الطبيعة التقليديون ، وعلى هذا الاساس (رتب المنطق العلمي) على هذا القانون الكثير من الاكتشافات الكونية ومن اهمها كيفية التخلص من الجاذبية للصعود الى فضاء لايحكمه قانون الجاذبية !!.
القصد هو القول : ان منطق وقانون العلم التجريبي يسير في مناهجه الفكرية من ملاحظات جزئية منفصلة عن باقي الاجزاء واخضاعها تجريبيا لربط بين سبب ومسبب او علة ومعلول للوصول الى القانون الذي يقبع خلف هذه الظاهرة او في عمقها ليهبها هذا التكرار والحتمية في التراتبية ،ومن ثم يتم اكتشاف القوانين الكونية والطبيعية والاجتماعية من خلال هذا المنطق والمنهج الفكري العلمي السليم ، باعتبار ان هذه الاكتشافات لهذه القوانين هي الهدف وهي الغاية التي يسير نحوها المنطق العلمي التجريبي والاستقرائي الحديث ليترك اخيرا باب الاحتمالات العلمية مفتوحا ولايجزم باكتشاف حقيقة مطلقة !.
طبعا القارئ الكريم يدرك لماذا ينتهج المنطق العلمي التجريبي (منهج الاحتمالات) وعدم اصدار الاحكام القطعية الثابتة عندما يكتشف اسرار قانون جديد ، فهو لايريد ان يقع في نفس اخطاء العلماء التجريبيين الذين سبقوا عندما كانوا يقطعون بقانون ما ( مثل قانون الارض مركز الحركة الكونية او قانون البصريات .......الخ )) ثم يتبين لهم عوار المقدمات التي انتجت هذه القوانين ، ولهذا من مميزات المنطق العلمي الحديث اعتماده على الباب المفتوحة في قضايا اكتشاف القوانين واسبابها !.
اما في المسار الفكري والمنطق الفلسفي فالامر معكوس تماما عما كان عليه مسار الفكر العلمي الاستقرائي التجريبي فبينما كان المنطق العلمي يسيرمن الجزئي المفكك كونيا وطبيعيا واجتماعيا ليصل الى القوانين واكتشافها ومن ثم البناء عليها يبدأ الفلسفي دائما من الكلي الفكري العام ، لينزل بنتائجه الى الجزئي ليطبق عليه احكامه الكلية ، وهذا لالشيئ خاطئ في تركيبة مسار الفكر والمنطق الفلسفي عن العلمي ، بل لكون (( الموضوع ، والغاية )) للمسار الفكري والمنطقي الفلسفي اختلفت في المنطق والفكر الفلسفي عن موضوع وفكر ومنطق العلم ، فتغير اسلوب التفكير بين العلمين لتغير الغايات والاهداف !!.
بمعنى اخر : ان الفلسفة ومنطقها لاتبحث وليس غايتها اكتشاف قوانين الكون والطبيعة والانسان الجزئية لتفهم كيفية عمل قوانين الفسلجة العضوية داخل الانسان مثلا ، بل هي تبحث عن القوانين (( الذهنية )) والعقلية العامة التي تطرح او تبتغي او تهدف للوصول الى ( قوانين وجودية مختلفة ) عن قوانين الطبيعة والكون الجزئية ، بل انها قوانين ولها احكام صارمة ويمكن البناء عليها معرفيا ايضا ، لكنها قوانين بطبيعتها وغاياتها واهدافها وموضوعها ، مختلفة عن قوانين العلم التجريبية الاستقرائية !!.
فمثلا عندما تدرس الفلسفة ، وكذا منطقها الارسطي العام ومدرستها الفلسفية الممتدة حتى اليوم مفاهيم من قبيل (( الوجوب والامكان والامتناع )) فان هذه المفاهيم لايمكن دراستها حسب المنطق العلمي الاستقرائي التجريبي ، لانها مختلفة الموضوع والفضاء عن مواضيع العلم التجريبي الحديث بل انها مواضيع وفضاءات معرفية مختصة بالمنطق والفكرالفلسفي لاغير وهي نفسها بعد تعريفها وبحثها تعطي لنا الكليات المعرفية التي من خلالها ندرك : لماذا هناك واجب للوجود ؟ وهناك ماهو ممتنع الوجود ؟ ، وماهو ممكن الوجود ؟،ولهذا لايمكن ان تصل الفلسفة ومنطقها لحكم كلي يفرض (مثلا) امتناع وجود ما ثم ياتي علم اخر بخلاف ذالك ، لان هذه المفاهيم من مواضيع الفلسفة ومنطقها الخالص ، وليست هي مفاهيم مادية او طبيعية ليفتي فيها المنهج والمنطق العلمي التجريبي الذي فضاءه وساحته وموضوعة هو هذا العالم المادي لاغير ،اما عالم الذهن والوجود الكلي والمفاهيم التي لاسبيل لاذرع التجريب عليها والتي لاتخضع بطبيعتها لادوات الملاحظة والتجريب العلمي ، فالفلسفة ومنطقها كفيل بمناقشتها وبحثها والبت في احكامها العقلية والفلسفية !!.
عندئذ ندرك ما هو القصد عندما نقول ان غايات الفلسفة وقوانينها هي مختلفة بطبيعتها عن غايات العلم ومنطقه وقوانينه !!.
ان ما لم يدركها المرحوم ((علي الوردي)) بالفعل قبل ان يكتب مؤلفاته ، ومن ثم ليطرحها باسم العلم والفكر والاجتماع هي هذه المنهجيات العلمية ، التي ينبغي لاي كاتب او مفكر او عالم او مثقف ان يدرسها ويدركها ويستوعبها قبل ان يطرح كلمة واحدة باسم العلم والفلسفة واللاهوت كي لايصيبه ما اصاب المرحوم علي الوردي عندما كتب كثيرا لكنه لم يثمر زهرة حتى اليوم !!.
______________________
المصادر
1 : علي الوردي / مهزلة العقل البشري / ص 134/ بلا طبعة .
2 : انظر اسس الفلسفة والمذهب الواقعي / محمد حسين الطباطبائي / تعليق مرتضى مطهري / دار التعارف / المقالة الرابعة / ص 159 / ج 1 .
alshakerr@yahoo,com
مدونتي ( حراء ) تتشرف بزيارتكم للمزيد
http://7araa.blogspot.com/
 

الأربعاء، يناير 16، 2013

كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي / القسم السابع عشر / مثلث : الدين ، الفلسفة ، العلم

كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي / القسم السابع عشر
حميد الشاكر
(( القصور المعرفي الفلسفي لعلي الوردي / مثلث : الدين ، الفلسفة ، العلم ))
2
***********************************
يذهب (اوجست كونت) مؤسس علم الاجتماع الحديث في نظريته الفلسفية الوضعية الى ان الفكرالانساني هو المحرك الحقيقي لكل تقلبات وتطورات التاريخ البشري القديم والحديث ، ودراسة تاريخ هذا الفكر وتقلباته وتطوراته والعوامل التي اثرت في نموه وتكاملاته ...الخ هي الكفيلة بالمعرفة الحقيقية ورسم الصورة الواقعية التي تطورت فيها الحياة الانسانية بمجملها من عصر تفكير اللاهوت والغيب الى عصر تفكير التجريد والفلسفة الى عهد تفكير العلم والتجربة !!.
وعلى هذا الاساس بنى (كونت) رؤيته حول (( قانون الاداوار الثلاثة )) التي سار فيها العقل والفكر الانساني من :
اولا : الدور اللاهوتي الديني الغيبي .
ثانيا : الدور الميتافيزيقي التجريدي / الفلسفي .
ثالثا : الدور الوضعي والعلمي / التجريبي .
ويعرّف بطبيعة الحال ( كونت ) هذه الادوار التاريخية وماهية عمل العقل والفكر الانساني فيها على اساس :
اولا : الدور اللاهوتي حيث ساد نمط التفكير الديني الغيبي الذي يفسر جميع الظواهر الكونية والانسانية والطبيعية والحيوانية والنباتية ..... الخ من منطلقات ومبادئ وقواعد ( حسب رؤية كونت ) اللاهوت والارواح والشياطين والجن وعالم ماوراء الطبيعيات .. وبهذا فعندما كانت الانسانية تحاول معرفة اي ظاهرة من ظواهرالكون والحياة او معرفة ظاهرة نمو النبات مثلا ، فانها كانت ترجع هذه الظواهر النباتية الى روح الله او الى روح الالهة او الى النجوم .... التي تمكن النبات من النمو !.
ثانيا : وهكذا في الدوروالمرحلة التاريخية والزمنية الميتافيزيقية التجريدية التي عاش فيها الانسان مع حياته العقلية الجديدة حيث ساد النمط الفكري والعقلي التجريدي على تفسير جميع هذه الظواهر الكونية والانسانية الاجتماعية وغيرالانسانية بنمط مختلف قليلا عن نمط التفكير اللاهوتي وهو نمط التفكير الميتافيزيقي العقلي التجريدي بدلا من ذالك ، ليذهب في تفسير هذه الظواهر على اساس (معاني تجريدية ) وخيالية او علل اولية ( فوق طبيعية ) لايمكن اثبات براهينها وادلتها واقعيا !.
ثالثا : وهو الدور ، الذي جاء بعد دوري اللاهوت ، والميتافيزيقا ليستمر حتى عصرنا الحاضر ، وهو (( دور التفكير العلمي والوضعي )) الذي غير من نمط واساليب التفكير الانسانية ليقلبها راسا على عقب من منطقها التجريدي القياسي الاستنباطي الفلسفي المشغول بالكليات التجريدية ، التي لاتخضع بطبيعتها لاي مقياس تجريبي ، او ملاحظاتي الى منطق استقرائي يعتمد التجربة والحس والملاحظة كاحد دعائم التفكير الانساني السليم ، والقابل للتجريب والمؤدي الى حقائق علمية لالبس في فهم علل ظواهر الكون والحياة والانسان والعالم فيها !!.
فظاهرة طبيعية ، كظاهرة النمو النباتي اليوم تدرس حسب انماط واساليب التفكير العلمية من منطلق عللها المادية والطبيعية الواقعية وقوانينها النباتية لندرك ان سبب نمو النبات وقوانينه الطبيعية ترجع الى عوامل التربة الطبيعية والكيميائية المؤلفة لها ولا دخل لعلل كلية او ارواح غيبية في عمل هذا النمو !!.
وبهذا بين او رتب (كونت) التاريخ الانساني الطويل نسبيا من خلال انماط واساليب الفكر الانساني ، وليجعل من ثم هذا الفكر وعمله على انه القانون الاعمق لمعرفة تقلبات وتطورات الحياة الانسانية العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغير ذالك !!.
طبعا الى هنا لاينتهي موضوع مثلث (( الدين ، الفلسفة ، العلم )) باعتبار ان رؤية (الادوار الثلاثة) قد حسمت العلاقة نهائيا بين زوايا هذا المثلث الانساني الغريب والعجيب في انماط التفكير البشرية ، بل بقيت هناك الاسألة الكبيرة التي تتولد من هذه الرؤية الفلسفية الوضعية لتاريخ العقل والفكر البشري ، والتي هي بالفعل موجودة فكريا واوربيا حتى قبل ان يطرح (( كونت )) فلسفته الوضعية في تاريخ اوربا الحديث ومن اهمها :
اولا : هل تعني رؤية قوانين الادوار الثلاثة التي يطرحها ((كونت)) ان هناك ضرورة ((قطيعة عقلية وفكرية )) بين كل دور وما تلاه من ادوار فكرية وعقلية مختلفة ؟.
أم ان فكرة ورؤية (( الادوار الثلاثة الكونتية )) لم تهدف الى ابراز حالة او ضرورة حالة القطيعة الفكرية والعقلية هذه بقدر ما كانت تهدف الى القول ان هناك حالة تكامل وتخصصية ينبغي ان تؤخذ بنظر الاعتبار عندما نقسم العلوم ونمط التفكير في داخلها كي لايخلط نمط التفكير العلمي مع موضوع نمط التفكير الفلسفي او اللاهوتي ؟.
بمعنى اخر هل يمكننا كباحثين ودارسين للفكرالانساني بصورة عامة ولموضوع بحثنا هنا في الفكر الاوربي الوسيط والحديث بصورة خاصة ان نستلهم من رؤية (( اوجست كونت )) في ادوارها الثلاثة تلك : ان كونت والفكر الفلسفي والعقلي والعلمي الاوربي من عصورها الوسطى حتى عصرالنهضة الى العصرالحديث الصناعي كان يرى ضرورة القطع بين نمط تفكير لاهوتي كان يصلح فقط للعصور القديمة والحجرية ، وينبغي ان يطرد ويدفن ويمحى من ذاكرة التفكير البشرية اليوم ، وكذا بالنسبة لنمطية التفكير التجريدية الميتافيزيقية الفلسفية التي نهضت على اعقاب الفكر اللاهوتي التي كانت ايضا تصلح لفترة تاريخية انسانية يونانية واسلامية فيما بعد ، ينبغي ايضا ان نمارس القطيعة ، والالغاء والدفن والتدمير لكل اساليب انماطها الفكرية والعقلية لترسوا اخيرا انماطنا الفكرية والعقلية على مرساة ونمط التفكير العلمي والتجريبي فقط لاغير ؟؟.
أم ان ((كونت)) وماقبله من فلاسفة العصور الاوربية الوسطى حتى عصر النهضة صاحب التاسيس للثورة الفرنسية الحديثة كانوا يطرحون الاشكالية بين مثلث (( الدين ، الفلسفة ، العلم ))على اساس ضرورة ((التخصص)) لكل مجال فكري او علمي في موضوعاته المحددة بحيث ان للدين موضوع الايمان والعقيدة ، وللفلسفة موضوع الوجود الكلي والذهن البشري ، وللعلم اكتشاف قوانين الكون والحياة والمجتمع والانسان .. واقامة التجربة وممارسة الملاحظة الفكرية بداخلها بعيدا عن موضوعة صناعة الحرب بين الدين والفلسفة والعلم ؟؟!.
يبدو من القراءة التاريخية المتأنية لمسار تاريخ اللاهوت والفلسفة والعلم في الفكر والعقل الانساني ان الرعيل الاول ولاسيما رعيل فلاسفة وعلماء ومفكري (القرون الاوربية الوسطى) ، باعتبارهم نواة وبذرة الفكر العلمي التجريبي الحديث (كما يعتقده بعض من نقلوا لنا التاريخ الاوربي الوسيط ) كانوا على اعتقاد راسخ ، وايمان كبير بأنه لابد من اعادة انتاج (معادلة فكرية) جديدة (تفصل) بين نمط واسلوب ومنطق تفكير لاهوتي يختص بالايمان والعقيدة ، ونمط واسلوب ومنطق تفكير فلسفي يعمل على الكليات والوجود واسلوب ومنطق تفكيرعلمي يقوم على الملاحظة والتجريب المادي ولم يكن في وارد اؤلئك الرواد من ((روجر بيكن / 1214م / 1294م )) الى ((فرنسيس بيكون / 1561م / 1626م)) ما بعد عصر النهضة وحتى (( اوجست كونت / 1798م/1857م)) من منطلق كونه وريث فكر النهضة الاوربية الحديثة ،ان تكون هناك حالة قطيعة وصدام او حرب والغاء بين هذه الادوار النمطية الفكرية والعقلية الانسانية !!.
بل ما تؤكده لنا هذه الاطلالة التاريخية على تاريخ (الدين والفلسفة والعلم) في اوربا الوسطى هو: ان هناك دعوات مبكرة في هذا العالم الى ضرورة اللجوء (للتخصص او الفصل) الفكري والعقلي في هذه المجالات وضرورة الالتفات الى ان نمط ومنطق واسلوب التفكير اللاهوتي ، لايصلح مطلقا للفلسفة ، وكذا اسلوب ومنطق تفكير الفلسفة لايصلح بتاتا للاسلوب الجديد (انذاك ) العلمي الذي ينتهج الاسلوب الاستقرائي التجريبي ،الذي يلاحظ الكون والعالم والطبيعة والانسان بمنظاره العلمي والتجريبي الخاص ، والمختلف بطبيعته عن اسلوب ومنطق تفكير الفلسفة الكلي والعقلي ، وهذا لا يعني بالضرورة ان ليس هناك تلاقي في بعض موارد انماط هذه الافكار والعلوم العقلية والعقدية تتقاطع فيها مرة مع بعضها البعض وتتلاقي فيها مرة اخرى !!.
نعم انتقد بشدة ((روجر بيكن )) المنطق الارسطي الاستنباطي القياسي وفلسفة ارسطو في زمنه بل واعلن صراحة (( انه لو أوتي السلطة الكافية لأحرق جميع كتب هذا الفيلسوف / 1)) لكنه لم يعلن ذالك لصناعة حرب بين الفلسفة والعلم ، او منطق الفلسفة ومنطق العلم في زمنه ،بل بسبب ان في هذه العصور الاوربية الوسطى بالذات وبعد ان دخلت كتب ارسطو بشروحها الاسلامية الرشدية ((نسبة الى ابن رشد )) للعالم الاوربي ، وما احدثته هذه الكتب والافكار والمنطق الارسطي والاسلامي من هزة فكرية عنيفة للعالم الاوربي وما اخذته من سطوة وهيبة في قلوب المفكرين الاوربيين آنذاك حتى ان اي مسألة عقدية او فلسفية فكرية او علمية .... كانت اذا لم توافق منطق وفلسفة ارسطوا وشروح ابن رشد فانها كانت ترفض على اساس انها خاطئة بالقطع وفي هذه الاجواء الفكرية التقديسية لارسطو ومنطقه كان يناضل ((روجربيكن)) من اجل وضع منطق واسلوب تفكير جديد للعلم ، اعتبره الكثير من فلاسفة ومفكري اوربا الوسطى المنتمين والمؤمنين بمنطق وفلسفة ارسطو على اساس انه النقيض لمنطق ارسطوا والمناهض لمساراته وقوانينه الاستنباطية المحكمة !!.
وهنا يمكننا فهم ما كان يعانيه (( بيكن )) وما يعنيه حرفياعندما يرى هذه القداسية لفكر وفلسفة ومنطق ارسطوا على عقول معظم فلاسفة وعلماء اوربا الوسطى باسرها وعدم سماحهم بوجود اي منطق ،واسلوب تفكير يخالف اسلوب ومنطق ارسطوا الفلسفي ، عندئذ لاسبيل امام (( روجر )) وغيره من العلماء الذين يدركون معنى ان ينفتح العقل والفكر الانساني على منطق واساليب تفكير جديدة لايصلح العلم التجريبي بغيرها وهو المنطق الاستقرائي !!.
ولهذا كان ( روجر بيكن ) فضلا عن انه رجل دين ملتزم ومدافع متحمس لايمانه وعقائده ، هو ايضا فيلسوفا ارسطيا بامتياز وكانت كتبه (( بل بين كل سطرين منها اسم او فكرة لارسطوا مجال بحث ومناقشة فيها / 2)) ،وهكذا فان ((بيكن )) لايخفي ما للفلسفة الارسطية ، والاسلامية بالخصوص من فضل على الفلسفة والعلم في اوربا الوسطى كلها ، وبما في ذالك المنطق الاستقرائي العلمي الذي آمن به (( بيكن )) ودعا وتحمس له واعلن ثورة من اجل تقديمه كمنهج فكر ومنطق تفكير وتقديسة ايضا ، ف( بيكن) يعترف بلا لبس : (( ان التجربة في العلوم الطبيعية هي البرهان الذي لابرهان غيره وان هذه الفكرة ليست جديدة اتى بها من عنده بل يعتقد ان ارسطوا وجالينوس وبطليموس والعلماء المسلمين .. قاموا بالتجارب العلمية وامتدحوها / 3 )) .
وهذا ان دلّ على شيئ فانما يدل ان اكبر فلاسفة العلم في العصور الاوربية الوسطى (روجر بيكن ) ، وغيره كانوا على وعي لموضوعة ((الفصل والتخصص)) بين مجالات التفكير اللاهوتية والفلسفية والعلمية ولم تكن دعوتهم في يوم من الايام قائمة لوضع العلم ومناهجه في مناهضة الفلسفة ومنطقها او الدين ومعتقداته !!.
اما ((فرنسيس بيكون)) سمي رفيقه الانجليزي (روجر بيكون) فهو الاخر ممن يعدون من دعاة واكابر فلاسفة العلم في عصر ما بعد النهضة الاوربية الذين دعوا والفوا وكتبوا ... من اجل ايجاد واتباع اسلوب ونظام ومنطق جديد للفكر الانساني يكون فيه الاستقراء العلمي التجريبي للطبيعة ذاتها وعن طريق الخبرة والتجربة فحسب !!.
ومعروف بهذا الصدد موقف (( فرنسيس بيكون )) من اللاهوت ومنطق تفكيره ، ومن الفلسفة ومنطقها الارسطي الاستنباطي ومع ان بيكون يواخذ الفلسفة الارسطية ومنطقها على اساس انها فلسفة يغلب على منطقها الانحياز للمنطق الاستنباطي ، الا انه مع ذالك يعترف (( بيكون الثاني )) :(( ان ارسطوا عرف الاستقراء ايضا / 4 )) .
نعم في موقف ((بيكون)) نحو الدين واعلانه :(( ان الدين يحد من كل الوان المعرفة /5)) فان هذا الموقف ايضا لايمكن اخذه وسلخه من سياقاته التاريخية والاجتماعية التي كان يعيش بداخلها بيكون ،والتي هي محيطات اجتماعية وفكرية كانت غارقة في الخرافيات والاساطير باسم الدين والعقيدة ، والتي كانت ترى اي نظرة علمية او اي نظرية كونية او اي تجربة طبية .... او اي عملية كيميائية تتمكن من تحويل العناصر ، او صناعة التفاعلات الطبيعية بين مواد هذه الطبيعة على اساس انها من اساليب السحر والشعبذة والدجل ... ، والى ما هنالك ومثل هذه الافكار والتصورات والعقائد المتحجرة اذا نسبت للدين فعندئذ من حق ((بيكون)) وغيره من باقي عقلاء البشرية ان يعلنوا على رؤوس الاشهاد:(( ان الدين يحد بطبيعته ومنطقه واسلوب تفكيره من كل لون من الوان العلم والمعرفة )) !!.
ومع ذالك وجدنا (( فرنسيس بيكون )) وفي اكثر من موضع من مواضع فكره الفلسفي والاجتماعي والعلمي والسياسي .... يؤكد على ان منهجه الفكري العلمي الجديد قائم على : ((ضرورة التمييز بين الحقيقة الللاهوتية والحقيقة الفلسفية فقد يمسك الدين بمعتقدات لايجد العلم والفلسفة عليهما دليلا ولكن الفلسفة يجب ان تعتمد على العقل فقط كما ان العلم ينبغي ان يلتمس تفسيرات دنيوية صرفة على اساس سبب ونتيجة ماديتين / 6 )) .
والى هذا المستوى من الفكر والفصل والتخصص في العلوم والافكار والعقائد.. في مجالاتها المتنوعة لايوجد خلاف ابدا حتى بين اللاهوتيين والفلاسفة وعلماء التجريب !!.
جاء بعد اولئك الفلاسفة والعلماء (( اوجست كونت )) ليواصل مسيرة العلم ومنطقه ومنهجه الفكري المميز ، وليعلن هو من جانبه كوريث لهذا الارث الفكري والعلمي الذي لم يزل بحاجة الى امداد ثوري ليستمر ويثمر وينتصر ... في النهاية او ليأخذ حيزه الطبيعي ضمن اساليب الفكر البشري الحديث ، ليعلن رؤيته ونظريته في (( قانون الادوار الثلاثة )) وليتزعم هو بدوره (( تأسيس علم انساني جديد اسماه علم الاجتماع الحديث / سيسولوجي )) حسب رؤيته الوضعية المادية !!.
اوجست كونت ( في الحقيقة ) كان فيلسوفا ، قبل ان يكون عالما من علماء الاجتماع التجريبي من جهة ، وكان ايضا منطقيا ارسطيا وداعيا الى تأسيس منهجية علمية ،وضعية حسية مادية من جهة اخرى مئة بالمئة تتعامل مع العلوم ومناهجها بهذه الوضعية التجريبية لاغير ، واخذ على عاتقه بهذا الصدد ((صناعة علم)) يتناول المجتمع بظواهره وقوانينه وسننه وتطوراته وحركته وركوده وسكناته .... من هذه المنطلقات العلمية الوضعية !!.
نعم واضح ان الاسلوب والمنطق الفكري الذي اعتمده كونت لصناعة ((علم الاجتماع )) كان هو المنطق الارسطي الاستنباطي الاستقرائي التام فلهذا المنطق الفضل في صناعة كل العلوم البشرية وليس اخيراعلم الاجتماع فحسب ولكنه في علم الاجتماع بدى واضحا جدا حيث اقام (( اوجست كونت )) المعادلة في فهمه للظواهر الاجتماعية التي هي موضوع العلم بهذا الشكل :
(( يشترط في الظاهرة الاجتماعية ، كي تكون مادة لدراسة المنهج الوضعي ان تكون هذه الظواهر خاضعة لقوانين ثابتة وهذا شرط متوفر في الظاهرة الاجتماعية ، /كون المجتمع جزء من الطبيعة الكلية / والطبيعة خاضعة بدورها لقوانين ثابتة يمكن الوصول اليها / ، وعلى هذا الاساس يمكن الجزم ايضا ان للمجتمع قوانين ثابتة يمكن الوصول لاكتشلفها / 7 )).
وهذا الترتيب القانوني والطبيعي للمجتمع وظواهره من جهة وللطبيعة وقوانينها من جانب اخر يمكن ببساطة اعادته للمنطق الاستنباطي الارسطي ،والفلسفي الاسلامي الذي هاجمه كونت ايضا بعنف وشراسة ، فمعادلة (كونت) التي استنبط منها علمه الاجتماعي تترتب على المقدمات الاستنباطية والارسطية التي تكون عادة النتيجة فيها اصغر من المقدمات او مساوية لها في المنطق الاستقرائي الارسطي التام / 8 / كالتالي :
المجتمع جزء من الطبيعة / حد اكبر .
والطبيعة خاضعة للقانون / حد اوسط .
اذا المجتمع ايضا يخضع للطبيعة وقانونها / حد اصغر !.
اي ان المحمول ثبت للموضوع (( حسب المصطلحات المنطقية الارسطية )) او ان الحد الاكبر (( المجتمع جزء من الطبيعة )) ثبت للحد الاصغر (( المجتمع خاضع لقانون الطبيعة )) من خلال الحد الاوسط والذي هو (( والطبيعة خاضعة للقانون )) فبهذا المنطق الارسطي اشاد (اوجست كونت) علمه الاجتماعي الجديد الذي فرض اولا انه من ضمن الطبيعة وموادها المادية ليصل ثانيا الى حد اوسط يثبت له اويفرض عليه القول ان الطبيعة خاضعة للقانون ، لينتهي الى نتيجة ان المجتمع الانساني بالضرورة تحكمه قوانين الطبيعة !!.
وبهذا ندرك ماهية الفلسفة ومنطقها الاستنباطي ، او الاستقرائي التام في عملية صناعة العلوم ولماذا لايمكن لكونت او غيره نسيان فضل الفلسفة وفكرها على العلم من جهة ، ولماذا حتى من اسس للمناهج الاستقرائية العلمية التجريبية الجديدة كانوا يحترمون ويذهبون الى فكرة التخصص والفصل فقط بين مناهج العلم المادية والفلسفية والعقدية الدينية ، ولم يرد في ذهنهم صناعة حرب مناهج فكرية بين الدين والفلسفة والعلم ؟.
يتبقى مع ذالك جواب سؤال : اذا من اين جاءت هذه الافكار التي تدعوا الى مناهضة الفكر والمنطق الفلسفي من جهة والفكر والمنطق الديني اللاهوتي من جانب آخر باسم منطق العلم ومناهجه الفكرية ؟؟.
بمعنى اخر نحن نقرأ اليوم الكثير من المفكرين ، سواء كانوا مفكرين ايدلوجيين او اجتماعيين او علماء تجريب ...الخ الذين يطرحون موضوع العلم والفلسفة والدين ، ومناهج واساليب التفكير لكل منها على اساس الصراع والجدلية الطاردة للمناهج والمنطق الاخر في التفكير والاستنتاج وليس ببعيد عنا اؤلئك الذين يطرحون بوضوح وحتمية اقصائية : (( بان نهاية عصر المنطق والتفكيرالديني ينبغي ان تكون هي بداية عصرالمنطق والتفكير الفلسفي وكذا ينبغي ان تكون نهاية الفلسفة والمنطق الارسطي والاسلامي ببداية منطق العلم والتجريب والحس والوضعية ، ليصبح اليوم العالم فقط يحكمه منطق العلم والتجريب والمادية والوضعية لاغير ؟؟.
بشكل اوضح من اعادة صياغة السؤال ليعيدنا الى موضوعنا الام لنقول : من اين استقى (مثلا ) المرحوم علي الوردي رؤيته الاقصائية لمناهج الفلسفة من جهة ومناهج المنطق والتفكير اللاهوتي من جانب اخرفي كل كتبه ومؤلفاته وتصوراته ودعواه ... ، ليطرح لنا ((مشروع الكراهية )) والحرب وضرورة الصراع والابادة بين المناهج الثلاثة البشرية المتوارثة ؟.
ومن اين استقى هذا المرحوم الذي كتب كل ما كتبه باسم العلم ، ومناهجه هذه الرؤية الاحادية الجانب ، التي لم تدع منهجية او منطق لارسطو او للفلسفة بصورة عامة او للاهوت وانماط تفكيره لم يستهزء بها هذا الكاتب المسكين ؟.
ومن الذي اوحى له بضرورة ان يقود العقل البشري كله منطق فكري علمي واحد ،ويطاح من ثم بباقي مناهج العلوم الفلسفية واللاهوتية وغير ذالك ؟.
هل اعتمد المرحوم علي الوردي على ما اسسه رواد العلم التجريبي القديم قبل ((روجر بيكون)) حتى ((فرنسيس بيكون))فيما بعد عصر النهضة العقلية والعلمية الى عصر اوجست كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث ؟.
ام انه ليس له اي علاقة بهذه السلسلة العظيمة من تاريخ الفلسفة والدين والعلم ، وليس له اي علاقة بروجر ولا بفرنسيس ولا باوجست كونت .... وما كانوا يسعون له من تاسيس منظومة تخصص فقط لمناهج التفكير الانساني ، تدعم موقف العلم وانجازاته الهائلة التي توصلت لها الانسانية اليوم من اختراعات ، بل اكتفى فقط على اراء فئة شاذة وطارئة حتى على العلم ومشروعه الانساني الكبير ،ليتخذ منها المرحوم الوردي كل منطلقاته الفكرية الهزيلة في مهاجمة ومناهضة المنطق والفلسفة الارسطية والاسلامية ؟؟.
الحقيقة ان الجواب على مثل هذه الاسألة بصورة عامة وعلى المرحوم ((علي الوردي)) ومنهجه الاقصائي اللاعلمي بصورة خاصة ، نترك اجابته ل((ول ديورانت / صاحب قصة الحضارة )) ليجيب عليها من جهة ، وعلى لسان رائد النهضة العلمية التجريبية الحديثة والمؤسس للثورة الفرنسية ومن ثم العلمية الحديثة لاوربا (( فرنسيس بيكون )) من جانب اخر ، ليقولوا لنا من اين اتت هذه النزعات اللاعلمية واللاعقلية واللافكرية التي حاولت صناعة الحرب لاغير بين الفلسفة والعلم والدين او حاولت استغلال مسمى العلم ومناهجه ومنطقه لابادة العقل والروح الانسانية المتوازنة او مناهضة الايمان والتفكير لاغير ؟.
يقول (( ول ديورانت )) :(( كما ان بيكون لم يقل مثل فلاسفة القرن الثامن عشر ، بان العقل عدو الدين او انه بديل عنه انه افسح لكل منهما مجالا في الفلسفة وفي الحياة .../ 9 )).
اذا هم اؤلئك الفلاسفة المتأخرون من فلاسفة القرن الثامن عشر وما بعده هم الذين اسسوا فعليا لهذه الصراعات الفكرية التي اتخذت من مناهج اللاهوت والفلسفة والعلم مادة لصراعاتها الايدلوجية البعيدة عن روح العلم وتخصصاته الفكرية والمنهجية والمنطقية !!.
وهذه الحقيقة ايضا يؤكد عليها اصحاب (( الموسوعة الفلسفية المختصرة )) حيث يذكرون ان مفهوم ومصطلح ( التجريبية ) العلمية لم يبقى على نقائه الفكري والعلمي الذي اسس له رواد العلم الحديث ، بل تحول الى اتجاهات مادية متطرفة كانت تنظر للفسلفة خصوصا على انها : (( تحليل للمدركات العقلية والقضايا فقط )) ، مما زاد في العداء المتزايد للفلسفة التأملية الميتافيزيقية بصفة خاصة ، وهو عداء لقي اقصى تعبير عنه في (( الوضعية المنطقية )) وهي الحركة التي دعا اليها بصفة خاصة في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن لفيف من الفلاسفة يعرفون باسم جماعة فينا / 10)) !.
اذاً مفهوم (الصراع بين المنطق الارسطي الفلسفي ومناهج ومنطق العلم التجريبي ) لم تكن قديمة قدم التاسيس لمناهج العلم وانفتاح مناهج ومنطق الفلسفة عليها ، بل هو صراع افتعلته قوى ايدلوجية مادية متطرفة كتبت ودعت ونظّرت الى حالة من العداء والكراهية لمنطق الفلسفة من جهة ومنطق اللاهوت من جانب اخر !!.
وهذا في المحصلة هو ما يضع اناملنا على الموارد التي استقى منها المرحوم (( علي الوردي )) كل اصوله الفكرية والنقدية التي اعتمد عليها في رؤيته للفلسفة الاسلامية بصورة عامة وللمنطق الارسطي الاستنباطي بصورة خاصة ؟!.
__________________________
المصادر :
1 : ول ديورانت / قصة الحضارة / ج 17 / 209 ص / دار الجيل بيروت / ترجمة محمد بدران .
2 : نفس المصدر /ص 209.
3 : نفس المصدر / ص 212.
4 : نفس المصدر / ج 28 / بداية عصر العلم / ترجمة محمد علي ابو درة / مراجعة علي أدهم .
5 : نفس المصدر / ج28 / ص 266.
6 : نفس المصدر / 266.
7 : انظر الموجز في النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة / د . اكرم حجازي / ج 1 .
8 : الاسس المنطقية للاستقراء / محمد باقر الصدر / ص 15 / دار التعارف للمطبوعات / ط الثالثة .
9 : ول ديورانت / قصة الحضارة / ج 28/ مصدر سابق / ص 275.
10 : الموسوعة الفلسفية المختصرة / لفيف من المختصين / راجعها زكي نجيب محمود / ص 153/ ت.
**************
alshakerr@yahoo,com
مدونتي ( حراء ) تتشرف بزيارتكم للمزيد
http://7araa.blogspot.com/

الخميس، يناير 10، 2013

كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي / القسم السادس عشر

كذبة علم الاجتماع العراقي ومؤسسه علي الوردي / القسم السادس عشر


حميد الشاكر



(( القصور المعرفي الفلسفي لعلي الوردي ))

1



***********************



(( رجائي من النقاد أن يبحثوا عما في كتبي من اخطاء تاريخية واجتماعية / علي الوردي /لمحات من تاريخ العراق الحديث / مقدمة ج 4 ص 5 ))

من الاخطاء الاجتماعية التي تتصل بمنهجية علم الاجتماع الحديث بصورة عامة لدى المرحوم علي الوردي هي دمجه بصورة قصدية ، او لاقصدية ((اي عن جهل)) بين ماهو فلسفي ايدلوجي ، ويدخل في العلم الفلسفي من مصطلحات ورؤى وتوجهات وافكار .. ، وبين ما هو اجتماعي وينتمي لعلم الاجتماع او الذي ينبغي ان ينتمي لهذا العلم بصورة خاصة وبعملية تخصصية اكتسبها العلم الاجتماعي الحديث بعد تاسيسه على يد صاحب الفلسفة الحسية المادية الوضعية اوجست كونت !!.

وهذا الدمج ، او الخلط في فكر المرحوم علي الوردي هو ما سلطنا الاضواء عليه من خلال الاقسام البحثية المكثفة وابرزناه على اساس انه عورة من عورات الفكر الوردي المطروح باسم علم الاجتماع من جهة والذي يتكئ وينطلق من اسس وقواعد فلسفية وايدلوجية (( فكرة الصراع الهيجلية مثلا / او فكرة المنفعة الراسمالية لوليم جيمس او ..... الخ )) ليس لها علاقة بمنطلقات علم الاجتماع الحديث من جانب آخر !.



نعم ماهو اعمق اشكالية ايضا من هذا الدمج المنهجي اوالخلط الفكري للمرحوم علي الوردي بين ماهو اجتماعي او ينبغي ان ينتمي لعلم الاجتماع وبين ماهو بعيدا عن علم الاجتماع وهو الايدلوجي الفلسفي كان (القصور المعرفي الاجتماعي) للمرحوم الوردي في مفاهيم ومصطلحات واهداف وغايات .. العلم الاجتماعي الحديث ، مما اورثه تحليلات اجتماعية غاية في السذاجة والتصنع ( = اي صناعة التحليلات وتركيب مصطلحاتها ) للمجتمع العراقي بصورة خاصة ، والمجتمع العربي بصورة عامة والبعد عن اي منهج علمي اجتماعي معروف وهذا ما اسميناه في كل بحوثنا السابقة ب (( الفوضوية الفكرية )) التي اعتمد عليها المرحوم الوردي في كل رؤاه وتصوراته الشخصية المطروحة في مؤلفاته ومدوناته !!.



طبعا لايشكل على قارئنا المحترم اننا هنا وفي هذه البحوث المطولة تناولنا فكر المرحوم (علي الوردي ) فقط من زاوية العلم الاجتماعي الحديث ، ولم نتناوله كمؤرخ تاريخي كي نسلط الاضواء على كتبه ومنهجيته التاريخية في تناول الحدث وقراءته وتحليله وهكذا نحن لم نتناول المرحوم الوردي من زاوية (علم النفس الحديث) ليكون لنا وقفات وجولات حول كتبه النفسية او التي كتبت في علم النفس الحديث كمنطلقات وقواعد في فهم ((شخصية الفرد والمجتمع في العراق)) بل اكدنا ومنذ البداية اننا نتناول الوردي اجتماعيا باعتبار انه يطرح نفسه كعالم ومتخصص من متخصصي العلم الاجتماعي الحديث ، ولهذا قارنا بين افكار المرحوم علي الوردي ، التي ينسبها لعلم الاجتماع وبين علم الاجتماع الحديث نفسه بمؤسسيه الفعليين (( كونت ، دوركايم ، سبنسر ...)) ومناهجه وتاسيساته ومنطلقاته ومصطلحاته وافكاره فقط لنصل الى نتائج غاية في الخطورة الفكرية من جهة وغاية في الامتهان للفكر والثقافة العراقية الحديثة ، التي كان يحاورها الوردي باسم العلم الاجتماعي الحديث من جانب اخر بينما لاعلاقة حقيقية للعلم الاجتماعي الحديث بكل طرح المرحوم علي الوردي ، الذي اسماه بالاجتماعي ، وهذا اذا كان يعني شيئا فكريا وعلميا واخلاقيا انما يعني احد امرين :

اولا : اما ان يكون حدود فهم وادراك المرحوم علي الوردي للعلم الاجتماعي الحديث قاصرا تماما ولذا هوانطلق من منطلقات ليست لها علاقة بالعلم الاجتماعي واتكئ على قواعد غاية في البعد عن كل ما التزم به واسس له العلم الاجتماعي الحديث !.

ثانيا : واما ان يكون المرحوم الوردي صاحب مشروع ايدلوجي فلسفي اراد اقناع او خداع الثقافة والفكر العراقي الحديث به فاستغل او جيّر او استخدم...اسم العلم الاجتماعي الحديث ليمرر انتمائه الايدلوجي ويطرحه على اساس انه الممثل وصاحب الاسس والمنطلقات العلمية للعلم الاجتماعي الحديث !!.



في الاحتمال الاول طرحنا ماتقدم من اقسام تثبت (القصور المعرفي الاجتماعي لعلي الوردي ) وانه رجل بالفعل ليس له علاقة علمية اكاديمية مختصة بالعلم الاجتماعي الحديث وتاريخ تاسيسه وقواعده ومنطلقاته ومناهجه التطبيقية او تعريفاته الفكرية وهذا ما قدمناه للقارئ المحترم بالادلةالواقعية العلمية من افتقاركل اطروحات الوردي ومؤلفاته لمجرد تعريف للعلم الاجتماعي او للمجتمع .... ، حتى غياب المنهج من هذه المؤلفات الى غياب المنطلقات ... الخ !!.

اما حول المحور الثاني وهو : الايدلوجي الفلسفي في منطلقات علي الوردي الفكرية فنقول :

ان الباحث فيما طرحه المرحوم الوردي حول الفكر الفلسفي والايدلوجي في كتبه ومدوناته ومخطوطاته سيلحظ بلا ادنى ريب او غموض كثافة الافكاروالرؤى والتصورات الفلسفية والايدلوجية التي طرحها وتناولها المرحوم الوردي بالنقد مرات ومرات وبالاشادة ايضا مرات ومرات ، لاسيما ماطرحه في كتابه ((مهزلة العقل البشري)) ، وكتاب ((منطق ابن خلدون)) لكن ماهو بارز في نقد المرحوم الوردي للفكر الفلسفي بصورة خاصة هو ميله وايمانه ودفاعه المستميت عن كل ماهو ايدلوجي فلسفي مادي ، او حسي غربي بالخصوص باعتبار انه هو العلمي لا غير من وجهة نظر المرحوم الوردي ، وانتقاصه من كل ماهو فلسفي عقلي وفكري وارسطي وعربي واسلامي بالخصوص من جانب اخر باعتبار انه هو الخرافي ، وغير النافع والطوبائي والعاجي ... الخ !!.

والحقيقة ان هذه الملاحظة لمتناولات علي الوردي الفلسفية والايدلوجية لاتدلل بالضرورة ان منهج المرحوم علي الوردي كان منهجا ماديا او حسيا او وضعيا وينتمي لهذه الفلسفة سواء كانت ماركسية او غير ماركسية مادية تاريخية ، وهذا في الواقع ما تناولناه في قسم (( تركيبة الشخصية الفكرية لعلي الوردي )) ، فالمرحوم الوردي لم يكن صاحب منهجية علمية ثابتة في كل متناولاته الفكرية وعلى تنوعها الغريب والعجيب ، بل كان (وهذا ما اثبتناه علميا ) صاحب (( شخصية فكرية مزدوجة )) تدمج بين ماهو مادي علمي فلسفي من جهة وبين ماهو خرافي ميتافيزيكي واسطوري من جانب اخر وهذا ما اشرنا اليه في كتابه (( خوارق اللاشعور )) ، الذي هو عبارة عن سباحة في عالم الخيال ، والاسطورة والخرافة وارجاع كل حركة الانسان ووعيه ووجوده وابداعه وطاقته ... لهذا العالم الغارق بالدروشة والتصوف وباقي الغيبيات ولكن ايضا على عادة الوردي في الباس افكاره وتصوره رداء او صورة العلمي والمنطقي والجديد والمنتمي للعلم الاجتماعي الحديث ....الخ !!.



والآن : لماذا كان المرحوم الوردي في مؤلفاته وكتبه ورؤاه غارقا بين ماهو ايدلوجي فلسفي وينتمي لعلم ومصطلحات عالم الفلسفة والادلجة ، وبين ماهو علمي والذي كان ينبغي ومن الضروري ان يكون صاحب الية تفكير ومنهجية عمل وموضوع مختلف تماما عن الفلسفي واتجاهاته العقلية ؟.

بمعنى آخر هذا الخلط او الدمج في فكر المرحوم الوردي بين ماهو فلسفي ايدلوجي كالانتماء مثلا لنظرية (( الصراع الهيجلية )) كمنطلق لتحليل المجتمع ، ومعرفة تراكيبه وحركته وتعقيداته ، او كالانتماء للنظرية (( النفعية الجيمسية / كما اشرنا اليه في القسم الثالث عشر )) ، وبين ماهو علمي او ينبغي ان ينتمي للعلم تخصصا وموضوعا ومناهج كالعلم الاجتماعي الحديث هل كان من خلال ((وعي علمي)) تام من قبل المرحوم الوردي بحيث انه كان مدركا لماهو فلسفي وما هو علمي في العصر الحديث ، ولذالك اخترع منهجية جديدة تسمح بالدمج بين ماهو فلسفي ايدلوجي وآخر علمي وتخصصي ؟.

أم ان المرحوم علي الوردي اصلا ومن الاساس والقواعد الفكرية التي كان يملكها كان لايدرك ماهو الفرق المنهجي والعلمي بين مواضيع الفلسفة وابوابها المعقدة ، وبين العلوم ومواضيعها وتخصصاتها الدقيقة ،فلذالك اعتقد هذا المرحوم انه بامكانه استخدام الافكار والنظريات الفلسفية المعقدة داخل اطر العلوم الطبيعية او الفيزيائية او الاجتماعية ؟.

هذا اولا !!.



ثانيا : عندما دمج المرحوم الوردي في فكره ومناهجه ورؤاه وكتبه ومؤلفاته بين ماهوعلمي وماهو فلسفي فهل كان المرحوم الوردي مستوعبا وواعيا وملما ومحيطا ... فعلا بما تعنيه افكار وتصورات عالم الفلسفة ، وما تعنيه وتهدف اليه افكار علم الاجتماع الحديث ، ولهذا هو طرح هذا الدمج بعد وعي والمام واحاطة حقيقية بكلا هذين العلمين ؟.

أم ان المرحوم الوردي كان قاصرا تماما في فهم المفردات الاولية في عالم الفلسفة العميق ، كما رايناه واكدنا عليه وبحثناه واستدللنا حوله في عالم ((علم الاجتماع )) الذي كان القصور المعرفي الاجتماعي للمرحوم الوردي فاضحا في ساحته وعالمه ومصطلحاته ومفرداته كما ادركناه سابقا ؟.



ثالثا : لو فرضنا ان المرحوم الوردي ومن خلال ما طرحه فكريا وتصوريا تاليفا وكتابة ، ومن خلال ما سوف ندرسه ونبحثه من فكره حول الفلسفة ومناهجها وغاياتها واهدافها ...، انه رجل ليس له علاقة علمية او تخصصية حقيقية لا بالفلسفة ولا بعلومها ولا بتعقيداتها التاريخية او مفاهيمها الفكرية او انعكاس اطروحاتها على المجتمع والفكر الانساني بصورة عامة فهل يعني هذا ان المرحوم الوردي كان مجرد قشري وانسان بسيط وسطحي بالنسبة للفلسفة فضلا عن نقده لها او نقده لاساطين مفكريها وقادتها ومؤسسيها منذ سقراط وافلاطون وارسطوا حتى الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد .... الخ ؟.

أم ان المرحوم الوردي عندما ينتقد ((المنطق الاستنباطي الارسطي/ تقريبا لايخلوا كتاب من كتب الوردي الفكرية لايشير فيه الى المنطق الاستنباطي وخرافيته من مهزلة العقل البشري حتى منطق ابن خلدون الى اسطورة الادب الرفيع ..الخ )) بصورة لايصدقها عقل انسان ((متزن علميا )) وعندما ينتقد الفارابي في (( المدينة الفاضلة )) وعندما يستهزء بابن طفيل الفيلسوف والطبيب والرياضي والفيزيائي والفلكي والمجتهد والقاضي وصاحب نظرية (( التربية الطبيعية )) والذي عرف غربيا برائعته ((حي بن بقظان )) التي سبقت (( روبنسن كروز )) ويعتبرها منتج خرافي لاغير وعندما ينتقد ابن رشد .... الخ اقول عندما ينتقد المرحوم علي الوردي كل هذا التراث الفلسفي العقلي التاريخي الضخم بصورة اقرب للاستهزاء منها للمنهج العلمي فهل هذا رجل احاط فعلا بكل هذا التراث ، وادرك معانيه وغاياته وناقش ادلته وبراهينه ..... ولهذا هو توصل الى نتيجة ضرورة هي صرّ كل هذا التراث الفلسفي ورميه في سلة المهملات لعدم جدواه او نفعه للبشرية والعلم الحديث ؟.

أم ان هذا الرجل بالفعل مهووس بكل ما طرحه الغربيون حول هذه الفلسفة ومنطقها الاستنباطي ،وهو ببغائيا تماما ونقل نقدا غربيا لهذه الفلسفة ومنطقها لاعلم له بمنطلقاته ، ولا اختصاص له بماهيته ولا اطلاع علمي كافي له على موضوعاته ؟.



رابعا : ماذا يعني هجوم المرحوم علي الوردي الغيرمسبوق عراقيا / باعتبار ان الفكرالعراقي في الحضارة العباسية هو اول من اعاد انتاج الفلسفة الارسطية وصنعهاعقليا عربيا واسلاميا وانشأ قواعدها للحضارة والعالم العربي والاسلامي والانساني كذالك في القرون السالفة وحتى اليوم / اقول ماذا يعني هذا الهجوم من قبل الوردي وفي معظم مؤلفاته على الفلسفة وخاصة منها الفلسفة العقلية الارسطية العربية والاسلامية ، ودفاعه في المقابل عن محاور واتجاهات فكرية اسلامية صوفية وسلفية حجرية ورجعية دينية مشهورة في التاريخ العربي والاسلامي القديم والحديث بانها هي من دمر الحضارة العربية والاسلامية في النتيجة وجعلها فكريا وحضاريا وانتاجيا وحتى اليوم في خلفيات الامم والشعوب المتحضرة ؟.

بمعنى اخر كيف يعجب المرحوم الوردي ، ويدافع بشراسة عن (( ابن تيمية)) مثلا ومنهجه الفكري السلفي التكفيري الحجري المنغلق والطارد لكل فكر حر ومنفتح ومستقبليوبناء ... وكذا يدافع بعمق عن (( الغزالي )) ومنهجه الصوفي الباطني الغيبي والانعزالي والفردي .. (( انظر الفصل الثاني / من منطق ابن خلدون / المنطق الارسطي في الاسلام )) بينما هو يشن حملة شعواء على كل الفلاسفة العقليين من الفارابي الى ابن سينا الى ابن طفيل الى ابن رشد .....الخ الذين بنوا الحضارة العربية والاسلامية فكريا وبنيويا ونفسيا واخلاقيا وروحيا وانفتاحا عقليا من الداخل على الاخر المختلف وبنوها وبنوا معها الانسان من الخارج ، بل وملؤوها طبا وفلكا وفيزياءا وهندسة وبناءا وعمرانا وكيمياءا ورياضيات وقضاءا واجتهادا وقانونا وسياسة .... الخ حتى وصلت الى ما نحن اليوم نفتخر به حتى اللحظة امام جميع الامم ؟؟!.

اقول كانت الهندسة والرياضيات والطب والقانون والكيمياء والعمارة والاجتهاد والسياسة ... الخ منتج من منتجات الفلسفة العقلية ، وفلاسفتها العقليون الارسطيون في حضارتنا العربية والاسلامية ، فما من فيلسوف الا وكان برفسورا في عدة علوم طبيعية او طبية او هندسية او رياضية او قانونية .. ومن ثم العلوم الطبيعية والمادية والحسية ، فابن باجة وابن طفيل وابن رشد في الاندلس لهم الفضل في تطور الفلك والهندسة والطب والرياضيات والقانون والاجتهاد.. وحتى قضايا حقوق الانسان والمراءة في العالم والحضارة العربية والاسلامية بصورة خاصة والعالم الغربي فيما بعد بصورة عامة بل ان هؤلاء الفلاسفة لهم الفضل حتى في بناء وتطور وتقدم الحضارة العربية والاسلامية التي امتد تطورها وتقدمها لتستفاد اليوم الحضارة والعقل الغربي منه ، فكيف وعلى اي اسس فكرية او منطقية او علمية فرضت على المرحوم علي الوردي ان يقدم على هؤلاء (( ابن تيمية والغزالي )) في منهجية التفكير واصابة الحقيقة ليصبح من لم يقدم للبشرية والعلم غير الدمار ، والخراب والانطوائية والرجعية والانغلاق والدعوة الى السلفية والرجوع الى الخلف ورؤية العقل والعلم على اساس انهما الزندقة لاغير يقدم هؤلاء على الفلاسفة والبنائين والمعماريين والقانونيين والاطباء والعقليين ........ واعتبارهم ما هم الا طوبائيون وساكنون ولا متحركون ولا متحررون ولا مفكرون ؟.



هذا ما سنتناول الاجابة عليه فلسفيا هذه المرّة في القسم القادم انشاء الله باعتبار ان الحيز الفلسفي في فكر ومؤلفات وكتب المرحوم الوردي اكثر بكثير من الحيز الاجتماعي العلمي !!.

__________________________________________



alshakerr@yahoo,com

مدونتي ( حراء ) تتشرف بزيارتكم للمزيد

http://7araa.blogspot.com/