السبت، فبراير 07، 2009

أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب - 4

ثانيا : - رسول المدينة اذا مارجعنا بعملية استقصاء وبحث في النص الاسلامي ، قرءانيا ، وسيريا نبويا ، فسوف نلاحظ ظاهرة انسانية من أهم الظواهر التي اكد عليها النص الاسلامي ورصد حركيتها بعمق ، وهي ظاهرة (( التقارن بين الرسول والمدينة )) !. فهناك شبه اجماع نصي قرءاني في التأريخ البشري ، وسيري نبوي يدلل على ان الرسول والرسالة ماهما الا وليدا المدينة والتمدين ، كما ان المدنية ماهي الا نهاية العمل الرسالي النبوي حسب رؤية ترى ان أصول المدنية القديمة والحديثة ماهي الا نتاج نضال واسع لحركة النبوة في التاريخ وحتى اليوم ، ولذالك ومما جاء على لسان الوحي القرءاني الكريم مؤكدا لهذه الحقيقة الانسانية قوله سبحانه وتعالى :(( وما أرسلنا قبلك الا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى ../ 109 / يوسف )) . فأهل القرى حسب التعبير التقني للقرءان الكريم ، هو وجه من وجوه المدينة ، او هو
الوجه الاخر لعملة الاجتماع المتمدين ، ولهذا ايضا جاء على لسان أهل التفسير والعلم في معرض تناول هذا النص القرءاني قولهم :(( يريد أهل المدائن ، ولم يبعث الله نبيا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو ، ولأن أهل الامصار أعقل وأحلم وأفضل واعلم .!))وروي عن الحسن قوله :(( لم يبعث الله نبيا من اهل البادية قط )) وقال البعض :(( من شرط الرسول ان يكون رجلا آدميا مدنيا .../ راجع تفسير القرطبي /ج9/ ص 274)).فالمدينة في حياة الرسالة الالهية ، وكذا الرسالة والرسول في حياة المدن ظاهرة تكاد تكون متأصلة في هذا الباب ، بحيث ان ليس هناك انفصال بالامكان ايجاده من خلال البحث الا من منطلق الاستثناءات المبررة واقعيا وانسانيا تأريخيا من قبيل خروج نبي او رسول من طغيان وفساد المدن الى رحابة الارض ليصنع هو بدوره مجتمعا مدنيا آخر ُيؤسس على اساس من قواعد النظافة وثقافة العدل بين الناس والتمدن في المعاشرة الاجتماعية !.وهذا جانب من معادلة التقارن بين المدينة والرسول ؟!.أما الجانب الاخر من المعادلة المدنية والرسالية فهي معادلة : ان المدنية والرسالة شنّت حملة قوية جدا ضد التعرب والبدوية بعتبارها النقيض المميت لروح التمدن والرسالية ، فهناك نص رسالي واضح قرءانيا ونبويا ، يشير بعنف الى مناهضة الاعرابية من منطلق انها الحياة التي لاتصلح تماما لحياة الرسالة !.او هي وبخطاب آخر ، ظاهرة جتماعية ( اعني التعرب والبدوية ) لم تخلقها الا قواعد الاجتماع المنفلت من عقال التمدن والقانون والحضارة والذي هو بدوره الاطار الطبيعي لمنشأ وتحرك الرسالات الالهية المتعددة !.يقول النص القرءاني المقدس :(( الأعراب أشدّ كفرا ونفاقا وأجدر الآّ يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم / 97/ التوبة )) !.وقد تحيّر بعض الباحثين في ادراك مضمون هذ النص القرءاني الكريم ، ولماذية منع الاعراب والبدو من تعلم الحدود الالهية الاسلامية المقدسة ، مع ان الحكم الشرعي يجب ايصاله الى جميع افراد الاجتماع الاسلامي وغير الاسلامي لمجرد المعرفة والعلم على اي حال ؟.وكذا باقي منافذ الحكم في الاسلام في السيرة النبوية ، حتى الوصول للعرف الفقهي الذي لايجيز امامة المتمدن باصحاب البادية والتعرب في الصلاة وغيرها ، وكأنما هناك قصد شرعي واضح وحرب مفتوحة وواضحة بين الاهداف الرسالية الالهية والتمدين كبنية اجتماعية من جهة ، وبين التعرب والبدوية والبربرية من جهة اخرى !.ان قول الرسول الاعظم محمد ص :(( انا مدينة ...)) هو التعبير الاصيل لجانبي الاشكالية المدنية والغير المدنية ، فيكفي كدليل على شدّة الملازمة والتقارن الازلي بين المدنية والرسالة هو ان نقرأ قول الرسول الاعظم محمد ص وهو يؤكذ كينونته المدنية من خلال الاخبار عن وجوده الرسالي بانه :(( مدينة العلم )) وان المدينة على هذا الاساس لاتشكل في مخيلة الرسول الاعظم محمد ص مجرد تشبيه فحسب ، وألاّ لأشار باعتبار انتماءه ص الى مجتمع تغلب عليه الظاهرة القبلية والتي هي الاقرب لروح الاجتماع العربي ب (( انا قبيلة العلم )) فكان اوفق للتشبيه واقرب لروح الاجتماع العربي بصورة عامة ولكن القبلية ومن الاساس وحسب التصور الرسالي والمدني هي بالنقيض لروح العلم والتعلم ، وما ظاهرة العلم والتعلم حسب العرف الاجتماعي الا ثمرة لايمكن لها ان تنمو وتزدهر بغير ارض بنية الاجتماع المدني ، فلايمكن للرسول الاعظم محمد ص ان يشبه كيانه العلمي بغير المدينة من منطلق ذاك التلازم وهذه التقارنية الازلية بين المدينة والرسول من جهة ، وبين الرسالة كعلم والمدينة من جانب اخر !.نعم : من مميزات الاسلام الدينية والفكرية والعملية انه الرسالة التي لاتنمو ولاتنتعش الا في حياة المدن وحركة الاجتماع المتمدين ، وهذا لسبب أصيل داخل في بنية الاسلام الفكرية التي بنيت بالاساس على حركة الاجتماع المدني ، فللمدينة طابعها المختلف تماما عن طابع غير المدينة وقوانينها المعقدة تنسجم تماما مع روح الاسلام التي بنيت واسست على اساس القوانين المدنية ، ومن هنا جاءت الاحكام والحدود الاسلامية متطابقة مع حركة ومعاملات واداب واخلاقيات الاجتماع المدني ، فمن التجارة ومضاربات الرأسمال ، الى الفن وادوات اللهو ، الى تبرج النساء في المدن والتغنج بالزينة ، الى تعدد الافكار واختلاف المصالح ، الى سطوة الدولة ورجال السلطان ، الى الاداب والى ...... الخ ، كل ذالك مظهر من مظاهر التمدن الانساني الذي تناولته الاطروحة الاسلامية على اساس انها ادواتها القانونية المدنية التي بنت عليها روح الاحكام الاسلامية المتنوعة ، ولذالك جاء النص القرءاني مشيرا الى هذه الحقيقة ولكن من الجانب الاخر عندما قرر :(( وأجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله على رسوله )) في شأن الاعراب واهل البوادي ، من منطلق ان هذه الاحكام والحدود الالهية المنزلة على الرسول الاعظم ص من قبل الله سبحانه لاتصلح بالمطلق للاعراب باعتبار انها نزلت لواقع متمدن غير واقعهم المتعرب ، وبدلا من تعليمهم الاحكام القانونية التي نزلت لمعالجة مشاكل التمدن او المشاكل الناتجة من حياة المدينة ، بدلا من ذالك ، يجب العمل على نقل هؤلاء الاعراب من واقعهم المنفلت الى واقع المدينة او من واقعهم الفكري المتحجر والمتعرب الى واقع الاسلام الفكري المتمدن لينخرطوا في حياة التمدن من جهة ويخضعوا لقانون الحضارة بدلا من قانون الصحراء من جهة اخرى !.كذالك الحال عندما نقول : ان الانسان المتمدن هو فحسب من بامكانه الارتفاع بالاسلام فهما وعملا وتطبيقا ، فهذا ايضا من ضمن التجانس الطبيعي بين الاسلام صاحب المشروع المدني من جهة ، والانسان المتمدن الذي يعتبر من انتاج المدن وحياة المدنية ، والعكس صحيح ايضا عندما نقرر : ان الانسان الاعرابي والاخر القبلي هو من ابعد الناس عن فهم روح الشريعة الاسلامية والقدرة على النهوض بواقع الاسلام الاجتماعي والفكري والعلمي ، وهذا من منطلق ان انسان القبيلة وابن التعرّب لم تهيئه المدنية ليتلقى الاسلام المدني بنوع من التلقائية الطبيعية ، وانما بالعكس صقلته القبلية وطغت عليه روح التعرّب لدرجة حولته من انسان بالامكان التفاعل منه مع روح التمدن الاسلامية ، الى كائن نافر من روح التحّضر وناقم على حياة المدن ومتربص بابناء المدينة للانقضاض على مدنيتهم ومن ثم تدميرها ان امكنه ذالك ، باعتبار انها الملمح الذي يعبر عن انسان المدينة والهوية المدنية !.ان انسانا اعرابيا بدويا لم تخلقه روح المدينة ومشاريع التحضّر ، ليس بامكانه بطبيعة الحال ان يتفاعل مع اسلام هو اساسا وليد الروح المدنية ونظامها القانوني المعقد ، كما ان انسانا نشأ وترعرع داخل اسوار المدينة وشرب من مياهها الاجتماعية لاريب سوف يكون الاقرب لروح الحكم الاسلامي وفهم مقاصده والتفاعل مع تعقيداته المدنية !.بل ان انسانا اعرابيا شملته تربية القبيلة وغذته ثمرة التعصب ليس فحسب هو ليس صالحا لحياة الاسلام المدنية ، او انه غير قادر على خدمتها بصورة صحية فحسب ، بل انه الانسان الذي ينبغي حماية الاسلام المدني من عبثيته العقلية والسلوكية الاخلاقية ايضا ، فهذا انسان يحمل الضد النوعي التربوي والفكري والاخلاقي والاجتماعي البدوي لحياة الاسلام المدني نفسه ، ولهذا كله جاء النص القرءاني مشيرا الى وجوب الحذر من تعليم ابن القبلية الفكرية احكام وحدود الاسلام التي انزلها الله سبحانه على رسول المدينة بقوله :(( واجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله على رسوله ..)) ليس من منطلق البخل بتعليم جاهل ، وانما حماية لحكم أسلامي اراد الله توظيفه لبناء المجتمع وليس لتدميره ، ويبدوا ان ابن القبلية الاعرابية بدلا من توظيف الحكم الاسلامي ببناء المدن وانشاء الحضارة والدفع نحو التقدم الانساني ، هو من سوف يوظف الحكم الشرعي لتدمير المدينة وتهشيم الحضارة وجرّ الاجتماع الانساني من التقدم الى التخلف ، وهذا بالفعل ما حصل تاريخيا وحتى اليوم عندما تعلم الاعراب حدود ما انزل الله سبحانه على رسول المدينة محمد ص ، فعاثوا في الارض فسادا بأسم الدين وتطبيق حدود الشريعة ، وبدلا من التطلع الى المستقبل والبحث في ادوات تطويره وتقدمه ، وجدنا انفسنا حسب الفهم البدوي للدين مرغمين على الرجوع لحياة الاسلاف الصالحين من الاباء والاجداد كنموذج رأى ابن التعرّب والقبلية انه الاصلح لحياة الاسلام والانسان في هذه الحياة !.ان محمدا رسول الله ص لم يكن عابثا مطلقا عندما قرر انه (( مدينة علم )) وانما كان واعيا تماما لأختلاف الاسلام المدني عن غيره الاعرابي ، لذا أكد بكل قوة على مصطلح (( المدينة )) ليقرر لنا قاعدة اجتماعية اسلامية الاهية مهمة جدا تقول : اعرض المدينة على الاسلام ، واعرض الاسلام على المدينة ، فما توافق منهما فخذ به كشريعة الاهية ، وما تخالف او تناقض بينهما فاتركه فانه زبد من عمل الاعراب والبداوة الشيطانيةف (( أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن اراد العلم فليأت الباب )) او كما الحديث في رواية اخرى باختلاف في :(( انا مدينة العلم وعلي بابها فمن اراد المدينة فليأت الباب )) والحقيقة انا ممن يميل الى رواية (( فمن اراد المدينة فليأت الباب )) فهنا الرسول المدينة وعليّ باب هذا التمدن والرقي الحضاري للاسلام المحمدي العلوي المختلف بطبيعته عن اسلام القبيلة والتعرب اليوم !.
al_shaker@maktoob.com