الثلاثاء، أبريل 28، 2009

المعوذتان .... صراع الانسان مع الافاق والأنفس !-1


لسورتي المعوذتين المباركتين في القرءان الكريم شأن لايقل فنية وسردية وفكرية وكذا ادراكية عن باقي السور القرءانية الاخرى التي تعددت صورها ومواضيعها باشكال مختلفة ، واتحدّت مضامينها وافكارها في شرح حقيقة الانسان ووجوده ومن اين اتى والى اين هو ذاهب ولماذا هو الان وكيف عليه ان يكون .... وهكذا
من باقي الافكار والتصورات والحقائق التي يطرحها كتاب الله العظيم سبحانه القرءان الكريم حول الله سبحانه والانسان والعالم والكون والحياة ؟!.
ونعم مايميّز المعوذتين عن غيرهما من سور القرءان الكريم ان لهما موضوعاً ووجهة ومنحىً اختصتا به لمعالجته فكريا ونفسيا وروحيا بالنسبة لحياة الانسان في هذا الوجود ، بحيث ان مجرد تسمية هذه السورتين ب (( المعوذتين )) يكفيهما دلالة لوجهتهما الفكرية التي حاولت هاتين النافذتين القرءانيتين معالجتهما في حياة الانسان !.
**********



معنى التسمية : المعوذتين .



( العوذ الالتجاء الى الغير ، والتعلق به وطلب الالتصاق بجنابه ، وقيل : أطيب اللحم اعوذه ، اي الصقه باللحم ، ومنه اشتق العوذ والاستعاذة في قوله سبحانه :(( فاذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم )) ، فهو قريب في المعنى الى مفهوم طلب ((الاستعانة والحماية والعون والاجارة من الغير ... بالتوبة والرجوع اليه )) !.
وعلى هذا تكونان سورتي المعوذتين هما في اتجاه ووجهة : حالة ان يكون الانسان ضعيفا وهو بحاجة الى غيره ليستعين به لدفع ضرر او جلب نفع لايستطيعه الانسان ان يستحصله بنفسه !.
وهذه الحقيقة ( حقيقة الضعف الانساني ) من الحقائق الذي عالجها النص القرءاني العظيم بشكل مكثف وكثير وركز في معظم محاوره الفكرية على ابراز حقيقة ان الانسان ضعيف ، وهو دائم الحاجة الى الاستعانة بغيره لتأمين مصالحه الاجتماعية ودفع مضاره الانسانية !.
قال سبحانه :(( وخلق الانسان ضعيفا ))
فمعنى تسمية آخر سورتين في القرءان الكريم ب (( المعوذتين )) اي اللتين يعوذ الانسان بهما او من خلالهما من الشرور والكوارث التي تحيط به في حياته الدنيوية هذه !.
*************



الآستعاذة بالله سبحانه



وكعادة القرءان الكريم وتوجيه نصه العظيم في ارجاع جميع الاشياء لله سبحانه وتعالى ، فهكذا هي الحال هنا ايضا في وجوب طلب العون وضرورة العوذ بالله والالتجاء اليه سبحانه وتعالى للانسان ، ولهذا قال في مفتتح سورتي المعوذتين :(( قل اعوذ برب الفلق .... ، قل اعوذ برب الناس ))
اي ان القرءان العظيم يطلب من السامع والمتلقي لنصه الكريم ان يقول ( اعوذ برب الفلق ، اعوذ برب الناس ) باعتبار ان رب الفلق ورب الناس هو الله سبحانه وتعالى وهو المالك الحقيقي لقوّة دفع الضرر وجلب المصلحة للانسان ، بغض النظر عن باقي الاسباب الانسانية والطبيعية الاخرى التي تساهم من خلال التزاحم والاحتكاك بان لها الاصالة في مضرّة الانسان ونفعه ظاهريا !.
صحيح ان الحقيقة الثانية التي لاشك فيها هي : ان الله سبحانه وتعالى هو القوّة الفعلية المتحكمة بجميع الاسباب العالمية ، وعندما يطلب من الانسان الالتجاء اليه سبحانه فانما يطلب التوجه الى الجهة والزاوية الصحيحة في طلب الالتجاء والمعونة !.
**************



برب الفلق



الفلق صفة مشبهة بمعنى المفعول ، اي بمعنى المفلوق ، ورب الفلق تعني رب المفلوق وهو عادة مايطلق على الصباح باعتباره من شقّ وفلق الليل بضوئه قال :( فالق الاصباح ) ، وكل مشقوق منفلق مثل فالق الحبّ والنوي قال سبحانه :( ان الله فالق الحب والنوى )!.
والمعنى : قل التجأ الى رب الفلق اي المدبر لهذا الفلق !.
أمّا ماهي المناسبة او الخصوصية للفلق عن غيره ، فباعتبار ان المعوذتين ماهما الا طلب والتجاء وخشية من شرور متنوعة ، فناسب انفلاق الصباح او معنى انفتاح النور من الظلمة والامل الجديد من بعد العتمة والليل الطويل معنى ازالة ودفع الضرر والظلمة والشرور عن الانسان ، فهو مثل ايحاء ان الرب القائم المدبر للكون سبحانه وتعالى بما انه هو وحده القادر على فلق الصباح عن الظلمة واخراج النور من العتمة وشقّ الجديد عن القديم ...، هو كذالك القادر على دفع الضرر عن الانسان واخراجه من عتمة الشرّ الى فجر الخير !.
وللفلق بعد ذالك ومن منطلق انه ظاهرة كونية طبيعية صورة الكون الذي يتنفس من جديد :( والصبح اذا تنفس ) وكأنما كان العالم في ليله الهادئ مقطوع النفس ميّت الحركة هامد الاعضاء ، ولم يوهب نعمة الحياة الا عندما اتى له الصباح ليهبه نعمة التنفس ، فقارن القرءان الكريم كلام الله سبحانه رب العالمين في المعوذتين بين الفلق والفجر والصباح والنور واليسر بالنسبة للانسان من جهة ، وبين الشرّ والموت والعتمة والسكون والهمود من جهة اخرى ، فكانت حلاوة المناسبة في المعوذتين لذكر الفلق على باقي ظواهر الكون الكثيرة !.
نعم قيل ( الفلق ) بمعنى جبّ في نار جهنم طُلب للاستعاذة منه ، وقيل بمعنى الانهار ، لكنّ الاشهر الاعم هو الصبح اذا تنفس .
***********
من شرّ ماخلق .



وهذا هو متعلق الطلب في : قل اعوذ برب الفلق .
وواضح من هذه الرؤية ان الانسان يعيش في بحر متلاطم من الشرور الكونية والعالمية والانسانية والطبيعية .... التي تحيط بوجوده الصغير جدا في هذا الوجود ، فمجرد الاطلاق او العموم في نص الاية الشريفة ينبأنا بحقيقتين او يشير لنا لموضوعتين او يلفت انظارنا لزاويتين :
الاولى : هي حقيقة ان الانسان يشعر في صميم ذاته انه كائن موجود في عالم لايدرك من اسراره الا الشيئ القليل جدا ، وعالمٌ يعيش الانسان في وسطه ولايفهم من قوانينه او اسراره او شخصيته الا النزر اليسير جدا حتما سيدفع للانسان شعورا بالريبة من هذا العالم الغريب الذي يحيط بالانسان كسجن كبير او هو يحمل الانسان بين ذراعية كطفل رضيع !.
فبالنسبة للكون بمجراته التي لاتعد ولاتحصى مَن يكون الانسان ليدرك قوانين واسرار وزواية وشرور وخيرات وجهات هذا الكون العميق والغريب ؟.
واما بالنسبة للعالم ماهي معرفة الانسان بدواخل وخوارج هذا الكائن المجهول ليدرك الانسان مداخل الشرور فيتقيها ومخارج الخيرات في هذا العالم ليذهب اليها ؟.
وهكذا بالنسبة لعالم الانسان الذي يحيط بافراده بشكل شبكة معقدة من الكائنات الحيّة المسماة بشرا ، فهو عالم في كل فرد منه عالم داخل عالم !.
في ظاهره مرّة تصادف قبرا على شكل انسان ومرة تصادف ملك من الملائكة المقربين وهم هم كليهما يملك نفس الهيئة والصورة في الخارج الظاهري لصورة الانسان ، ومرّة تصادف قردا واخر تصادف ثعبان وهكذا عندما تصادف انسان وانت لاتدرك كل ذالك وليس لك به معرفة مباشرة لتميز بين انسان وانسان !.
أمّا عالم الحيوان والجماد ومالانعلم من عوالم وافاق ساعة ً تحيط بالانسان واخرى تحتضنه ، فكل هذا الكون والعالم ماهو في نظر الانسان الانسان الا عالم مليئ بالالغاز غامض الشخصية صعب الفهم ، ومعقد التركيبة على الحقيقة والواقع ، وفي مثل هذه الحالة يشعر الانسان من العمق انه كائن يعيش في متاهة لايدرك اولها من اخرها ، ولايفهم اتجاهات الشرور فيها من الخيرات !.
والثانية : هي زاوية ان الانسان عندما شعر بمتاهته في هذا العالم الفسيح والكبير ، وادرك عجزه عن فهم لعبة الحياة والكون ، شعر بالخوف بعمق من كل مايحيط به او يعيش في داخله ، فطلب زاوية الامن وبحث عن ملجأ الحماية والامان !.
ان من الطبيعي جدّا ان يشعر الانسان بالقلق من عالم لايستطيع فهم مساره وقوانينه ، او لايحيط بكل حركاته وسكناته ، فكل حركة وسكون في هذا العالم تعتبر شيئا ما بالنسبة للانسان أمّا خيرا ينعكس عليه ، وأما شرّا يزحف نحوه ،وفي حال عدم ادراكه واحاطته بحركة هذا الوجود فحتما هو انسان قلق من وجود يعيش فيه فرضا ولايدرك كيفية حركته التفصيلية حكما ، ومن يعتقد ان ليس هناك صلة ما بين الانسان وحركة وسكون الكون من حوله في الشرّ والخير ، فهذا الصنف من الناس لانعتقد انه تطوّر بعد لعنوان الانسانية المدركة !.
وعليه فشعور الانسان بالقلق من كل شيئ لايعتبر من الاعراض المرضية الخطيرة ان فهمنا حقيقة ان الانسان من طبيعته الشعور بالقلق من كل شيئ لايحيط بقوانينه وشخصيته وكيفية نمطية حركته في هذه الحياة ، والحقيقة انه لم يزل الانسان كلما تأمل في شيئ من الاشياء الكونية والعالمية يزداد حيرة على حيرته :(( وفوق كل ذي علم عليم )) ، فهذا العالم في جزئياته وكلّياته هو سرّ من الاسرار العلمية للانسان المفكر ، ومادم هو لم يزل سرّا ولم تزل معرفة الانسان بقوانين وخفايا هذه الاسرار العالمية حاضرة في حياة البشر ، فستبقى ظاهرة القلق والخوف من قبل الانسان فاعلة في قبالة عالم متحرك يرى الانسان حركته ولكنه لايدرك هل هذه الحركة هي في صالح وجود الانسان وحياته ام هي بالضد وعلى الشرّ من وجوده وحياته ؟.
عندها يتدخل النص القرءاني ليرصد هذه الحالة الطبيعية والفكرية والشعورية والوجدانية للانسان تجاه الكون والعالم والطبيعة ، وليقرر هذه الحقيقة الانسانية وليضع لها الحلّ النهائي والاوحد لظاهرة صراع الانسان مع الافاق المحيطة به والمربكة لتفكيره ووجوده الانساني ، فيقول :(( قل اعوذ برب الفلق من شرّ ماخلق )) !.
فالعموم في لفظ النص القرءاني (( من شرّ ماخلق )) كأنما هو اشارة لتلك الحالة النفسية والفكرية التي يدركها الانسان عند تأمله لهذا الكون الغريب ، وشعوره انه يعيش في بحر لايدرك من اين ياتيه الخير ومن اين سياتيه الشرّ لامحالة في خضم بحر كوني هائج ومتحرك ومتدافع من كل الجهات ، عندها من حق الانسان ان يتسائل عن الملجأ بعدما ايقن ضعفه وعجزه عن الادراك والدفع ؟.
فمن للانسان في خضم عالم ان ترك له الخيار لكان فضلّ عدم دخوله بهذه الطريقة ؟.
والى اين يلتجأ وهو في عمق بحر لامنجاة من الهروب منه الا اليه ؟.
وكيف السبيل للانتصار على الكون والعالم والانسان في هذه الحياة ؟.
قل : اعوذ برب الفلق !.
قل : اعوذ من شر هذا الخلق بخالق هذا الخلق والعالم باسرار وحركات وسكون وتدافعات هذا الخلق !.
قل : اعوذ بالله الذي احاط بكل شيئ علما !.
قل : اعوذ بالقائم على كل ذرّة من ذرات هذا الوجود في حركتها وسكونها !.
قل : اعوذ برب الفلق من شرّ ماخلق !.
ان في الخلق شرّ ظاهر وخفي لامحالة ، أما ظاهر الشرّ في العالم فبامكان الانسان ان يحتاط له مع ادراكه وتسليمه ان الاحتياط له لايحكم بدفعه على الحقيقة ، واما مابطن من شرور العالم فهو الاعظم الذي يقلق الانسان ويضرب بكل كيانه الى اللااستقرار في هذه الحياة ، ولادواء ومسكن لالام القلق وعذابات الخوف من الشرور في العالم الا الاستعاذة والالتجاء والالتصاق بالله سبحانه وتعالى :(( الا بذكر الله تكمئن القلوب )) صدق الله العظيم