قليل من البشر تستهويهم رؤية ( أنفلاق الفجر ) وبداياته في كل يوم جديد ، ولعل هناك حكمة ما عندما يقف اي انسان منّا لينتظر أنفلاق الصباح ويرقب مع نفس عميق الكيفية التي ينتشر فيها ضياء الصباح بشكل عمودي الضياء حتى السماء ، ثم ليعود بعد ذالك ليلقي بكل شفافيته على اهل الارض !.
ان هذا المشهد الكوني المعبّر لايدوم الابضع دقائق من خلالها تتغير النفسية الداخلية للانسان وهو يشعر بأمان الجديد الذي تحقق بيوم تنفس وحرّك العالم بمجيئه ، عندها وفي هذه اللحظات ندرك بعمق قول القارئ :(( قل أعوذ برب الفلق )) وهو انسان يبدو انه ذاب عشقا لرؤية ظاهرة الفلق لينسبها لمعاجز الخالق العظيمة والرب الكريمة !.
ولكنها وفي نفس الوقت التي تمثل ظاهرة اعجازية كونية رائعة وجميلة ، هي ايضا آذنة ً بلحظة حراكية جديدة للاختلاط في العالم وفي العمل وفي الانسان كذالك ، أو انها ناقوس وجرس تنبيه على رنينه يهبّ العالم من رقدته التي كان فيها ليصحوا من جديد وليزاول حياته بحيوية ونشاط واحتكاك اكبر ، عندها تُنسى ظاهرة انفلاق الفجر الهادئة الجميلة ، لتتحرك بدلا عنها حركة العالم العنيفة ، فيقرأ القارئ :(( من شرّ ماخلق )) !.
ولو سألت اي انسان في صباح اي يوم من الايام حول : ماهي الضمانات التي على اساسها يخرج الانسان للحياة وملئه الثقة والاطمئنان والامان من شرور العالم ؟.
لاجابك بلا تعنت ، ولاتكبر او مناورة : لاشيئ !.
نعم الانسان مدرك انه يعيش في محيط تحت كل صخرة من بناءه ، ومع كل نسمة من نسماته ، يكمن شرّ ما يتربص بالانسان ليصل الى حياته ويقضي عليها ، ومع ذالك يبدو الانسان غير مهتم بمايحيط به من حوله من شرور فماهو السبب ؟.
السبب هو ان الانسان ومن خلال التجربة البشرية اعتمد على فكرة : ان الحقائق المزعجة التي لاسبيل لدفعها ، او لاسبيل من العيش الا معها ( كفكرة الموت وفكرة الشر في العالم وفكرة الاخر ...)لابد وحتما استخدام لغة النسيان لها كي تستمر الحياة بلا عنت ، والا لو كان الانسان ملتفتا بكل ذكائه وفطنته وذاكرا لها في كل حين لتعذرت الحياة الهانئة على الانسان في حياته على الجملة !.
ولهذا يستخدم الانسان النسيان والتجاهل وعدم ذكر حركة العالم من حوله ليتمتع بقليل من وقت هدوء الاعصاب واللذة واقتناص السعادة والاطمئنان في هذه الحياة ، أمّا غير ذالك فستصبح مغامرة كبيرة ان يخرج الانسان من بيته وهو لايملك اي ضمان يذكر يُطمئن الانسان على وجوده في صراعه مع العالم !.
ان هذه الرؤية هي الرؤية التي يصطلح عليها اهل الادراك والوعي اللاهوتي بانها رؤية الانسان السلبي الذي يحاول ان يعيش في عالم يتجاهل كل حقائقه ، أمّا بسبب عدم ادراكه لحقائق هذا العالم فهو لذالك غير ملتفت لحقيقة وشخصية العالم من حوله ، وّأمّا بسبب انه مدرك تماما لحقيقة العالم من حوله الا انه توصل الى يقين انه لايمكن العيش والاطمئنان في عالم الا من خلال نسيان حقيقة هذا العالم !.
أمّا اهل الحكمة والدراية فطريقهم طريق الانسان الايجابي الذي يدعو له القرءان الكريم كتاب الله الحكيم ، وهو طريق الذكر ومجابهة الحقائق !.
ان الكثير من الناس ربما يعلم لماذية تسمية الكتاب الالهي العظيم القرءان الكريم بأسم ( الذّكر ) فهو من منطلق انه دائم التذكير للانسان بعدم نسيان الحقائق العالمية والانسانية المزعجة والمثيرة للوجود الانساني سميّ القرءان بالذكر الحكيم ، اي الذي يذكّر الانسان دائما بحقيقته في هذا العالم وحقيقة العالم من حوله ، بل ان القرءان الكريم من معالجاته الايجابية رفضه المطلق وادانته وشجبه لفكرة استخدام النسيان في هذه الحياة الدنيا كسبيل للوصول الى السعادة والاطمئنان في هذا العالم ، ولهذا ذكر حقيقة (( من شرّ ماخلق )) ، ليظهر حقيقة ان الانسان مفروض عليه العيش في عالم مخلوق هو في قبالة خلق الانسان في حالة صراع دائمة واحتكاك مستمرة توّلد من هنا وهناك شرّاً حتميا لحياة الانسان !.
يقول الرسول العظيم محمد ص وهو يشير بدوره كمذكر ثاني مع القرءان للبشرية جمعاء حول الحقائق العالمية المزعجة للوجود البشري ، وكيفية ان يتعامل الانسان الايجابي مع هذه الحقائق من منطلق عدم النسيان لها بل الذكر الدائم لمضمونها :(( أعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا )) اي : ان العظيم محمد ص يدعو الى عدم نسيان حقيقة ان الانسان لايعلم هل هو سيعيش لغد او ان كارثة من الكوارث ستحلّ به لتقضي عليه قبل الغد ، وعليه يجب على الانسان الايجابي ان لاتوقفه حقيقة القلق على وجوده ، وليستمر في الحركة والعمل والامل على اي حال بكيفية ان عمله وحركته تكون متوازنة بين انه سيعيش ابد الدهر او انه سيموت بعد لحظات !.
وهكذا عندما نريد ان نستوحي قصة الانسان مع العالم ، فاننا على الرغم من ادراكنا قرءانيا للمخاطر العظيمة التي تحيط بالانسان في هذا العالم ، وان العالم ماهو الا مجموعة من الخلق معقدة وفيها الكثير من انعكاسات الشرور على الانسان ، لكنّ رغم ذالك يكفينا الاستعاذة برب الفلق لشق طريق يوم جديد نتوكل فيه على الله سبحانه بدفع الشرور الكبيرة والصغيرة ايضا :(( قل اعوذ برب الفلق من شرّ ماخلق )) !.
ان ابدال حقيقة النسيان السلبية التي يستخدمها الانسان السلبي بالهروب من مرض القلق والخوف الشديد من العالم ، بحقيقة الذكر والانتباه للحقائق العالمية مصاحبا معها ذكر رب الفلق القائم على ادارة هذا العالم برمته لهي الوصفة الطبية الفريدة التي تتمكن من خلق انسان متوازن بين ادراكه لحقيقة ( شرّ ماخلق ) وحقيقة الاطمئنان التام والشجاعة الكبيرة لمواجهة الحياة بشجاعة ووجهاً لوجه ، أما دعوتنا لمواجهة حقيقة العالم المزعجة ولكن مع عدم الرجوع لفكرة ذكر الخالق والرب العظيم سبحانه وتعالى فهي وصفة مدمرة للانسان ودافعة له للتشاؤم ومن ثم للقلق والانتحار وباقي الفلسفات التي واجهة الانسان بحقيقة الكون واخرجته من سلبية النسيان تلك ولكن لالتهبه الاطمئنان والامان ، بل لتضعه ليكون ورقة تحترق غيضا على وجوده في هذا العالم ومن ثم ليقرر اي انسان في مكان حاله الخروج من هذا العالم الشرير ، وهذه هي فلسفة الوجودية التشاؤمية في هذه الحياة !.
لا ... للقرءان الكريم فلسفة اخرى في صناعة الانسان الايجابي ، ومع انها فلسفة تذكّر الانسان بحقيقة وجوده العالمي ،ولاترحب بفلسفة النسيان والغفلة لهذا العالم من قبل باقي البشر ، وانه وجود محفوف بالمخاطر والشرور الكثيرة ، الا انها ومع ذالك وضعت قبة الميزان الاخرى التي تعين هذا الانسان على مواجهة العالم بقوة في حالة صراعه معه ، وهي قبة ذكر ( رب الفلق ) الذي بامكانها ان تهب الانسان القدرة والشعور على انه بامكانه الانتصار على العالم من حوله بمساعدة رب الفلق الذي يقوم بالفعل على ادارة العالم هذا ، كما انها الجهة الوحيدة التي تضمن للانسان شعوريا وروحيا وحتى فكريا ، انها القادرة على دفع شرور (ماخلق ) كلها ، وارساء قواعد الاطمئنان لحياة الانسان من جهة اخرى :( الا بذكر الله تطمئن القلوب ) !.
أذن : قل اعوذ برب الفلق ، ضرورة انسانية طبيعية لايجاد وخلق الانسان الايجابي المتوازن في هذه الحياة الذي يعيش بين ذكر الله وذكر الانسان !.
ومن شرّ ماخلق ، ضرورة كونية وعالمية يعيشها الانسان بوجوده ، وعليه ان يعيشها بفكره وروحه ومشاعره ايضا ، ليشعر ويدرك حقيقة العالم الذي يعيش في داخله بواقعية ، وكيفية معالجة تغوّل هذا العالم من حوله ، وحاجة الانسان الى قوّة تساند الانسان في نضاله ضد العالم هذا !.
يتبقى : هل من العدالة ان يخلق الله سبحانه خلقا فيه هذه الكمية الكبيرة من الشرّ في العالم والكون ضد الانسان ؟.
وكيف يدعونا القرءان الكريم للاستعاذة من خلق الله سبحانه وتعالى ، اذا كان كل الخلق لله وهو لايخلق الشرّ سبحانه وتعالى ؟.
ثم ماهذه النظرة التي توحي للانسان انه ماهو الا ذرّة صغيرة في فرن يغلي من الحقد عليه ؟.
وكيف يتسنى لنا فهم الانسان صاحب السيادة على هذا العالم ، وعالم هو شرّ للانسان وندّ له وبامكانه القضاء على البشر ان سهى عن حفظ نفسه منه لحظة واحدة ؟.
al_shaker@maktoob.com