الثلاثاء، أبريل 28، 2009

المعوذتان .... صراع الانسان مع الافاق والأنفس-3

بين الفجر والليل يوم كامل ، وفي خلال هذا اليوم الطويل يقطع الانسان رحلة شاقة وصعبة جدا مع الكون في شمسه وصباحها وظهره وحرّه وعصره ومشقته وغروب شمسه وفلول قوى الانسان وتعبه ، وليله وعتمة ضوئه واسترخاء البشر وحاجته الى النوم والراحة !.
وفي خلال هذه الرحلة يحتّك الانسان بصراعه مع الحياة من اجل القوت ليجاهد بضغط عضلي وحركة جسدية من جهة ، ومع الانسان الاخر بصغره وكبره ونسائه ورجاله واصحاءه ومرضاه ، وخبثائه وطيبيه وشريريه وخيريه ...... حتى الليل عندما يؤوب الانسان الى جنته الاّمنه ليوّدع يوم كامل بكل مافيه من كوارث من جهة اخرى !.
طبعا لايستطيع الانسان خلال هذا اليوم الطويل ان يدرك كم هي دقات قلبه التي حملته في يوم صعب ومتعب !.
ولايدرك او يفهم كيف عمل جهازه التنفسي ليؤّمن له الحركة في الحياة ، وكم هي الانفاس التي دخلت وخرجت في هذا اليوم !.
ولايستطيع ان يحسب كم هي الخطوات التي خطاها في هذا اليوم من اول خروجه في الفجر وحتى عودته في الليل اذا وقب !.
وربما الانسان لايلتفت اصلا لهذه الروتينيات الجسدية والعضلية والفسلجية اليومية التي يمارسها بلا ادنى تأمل منه او هي لاتدخل في حساباته المهمة كحسابات المواعيد والتجارة والعمل والحرب ... وباقي الشؤون الانسانية الاخرى !.
امّا القرءان الكريم فهو يهتم كثيرا بلحظات الانسان الزمانية والمكانية ، وبما فيها اليومية والوقتية !.
يفتتح القرءان الكريم سورة الفلق من ثنائية المعوذتين بقوله :( قل اعوذ برب الفلق ) وهو آخذٌ بالحسبان تماما ان الفلق هو بداية يوم جديد للانسان وللحياة وللعالم عندما تبدأ مسيرته كل نهار من حركة الانسان على وجه الكرة الارضية هذه ، فهو فلق لصباح كوني وقيام انساني ، وهو فلق لحبات نبات تخرج وتتحرك مع اول اطلالة لضوء شمس تندلع بلسانها على افاق الارض .....،وما ان تستمر الحياة والحركة بهذه الصورة لبداية يوم جديد حتى يلتفت القرءان الى حركة عمق الصراع الحياتية الكونية هذه ليقول :(( من شرّ ماخلق )) وهو واضعا بحساباته ان هناك الكثير من الاخطار تحيط من بداية كل فجر بهذا الانسان الضعيف والمسكين وحتى ليله ، وعلى هذا لابد من تنبيهه الى خطوط اللعبة وانها لعبة مليئة بالشرور والاخطار الدنيوية ، وما ان ينتهي اليوم بغروب شمسه ومغيب افقه ودخول ليله حتى نفاجأ بأن القرءان العظيم لم يزل مواكبا لحركة الانسان في يومه من طلوع فجره حتى دخول ليله في قوله سبحانه :(( ومن شرّ غاسق اذا وقب )) !.
أذن نحن امام نص قراني ثلاثي تحرّك مع الانسان في اوقات ثلاثة :
الاول : اخذ فترة انفلاق الفجر على الانسان في قوله :(( قل اعوذ برب الفلق )).
الثاني : سار مع الانسان في يومه ليدفع عنه شرور اللحظات والدقائق والساعات وما احاط بها في قوله :(( من شرّ ماخلق )).
الثالث : الذي ختم فيه النص القرءاني يوم الانسان الطويل والصعب باسدال الستار على عرض النهار بقوله :(( ومن شرّ غاسق اذا وقب )).
الغاسق هذه اللمسة الاخيرة التي اثارها القرءان الكريم لقصة حياة انسان في يوم كامل هي عبارة عن ( ظلمة الليل ) اذا دخلت او وقبت على حياة الانسان ، قال سبحانه :(( الى غسق الليل )).
وهنا نحن لانعلم من ارشادات القرءان الكريم هل شرور النهار والحركة والاحتكاك والانسان .... هي الاشدّ قسوة على الانسان ؟.
أمّ ان شرور الليل ومافيه ومايخفيه بظواهره الهادئه واصواته المختنقة وانفاسه الصامتة هي الاشد رعبا وشرورا على الانسان ؟.
يبدو من خلال الخطاب القرءاني : ان الانسان ليس له فسحة وقت لافي ليل ولافي نهار بامكانه الاعتماد عليها كمساحة زمن تهب الهدنة في صراع الانسان مع العالم ، ويبدو ان هذه الحرب هي موجهة ضد الانسان في كل لحظة من لحظات وجوده في هذه الحياة ، ومنذ الفجر بانفلاقه وحتى غسق الليل بوقوبه !.
نعم تساءل اهل التبيين والتفسير القرءاني حول : سببية نزول او تنازل النص القرءاني الكريم من العام في قوله :(( من شرّ ماخلق )) الى التخصيص في قوله :(( ومن شرّ غاسق اذا وقب )) ليتساءلوا : ماهي الخاصية التي افرد من خلالها النص القرءاني غسق الليل بالذات لينبه من شروره ؟.
فقال احدهم : بسبب ان الظلمة تعين اهل الشرور على تنفيذ شرورهم وهذا صحيح !.
وقال اخر : تعلمون ان اللصوص والجرائم والرذائل كثيرا ماتحدث تحت جنح الظلام الليلي ، ولهذا كان الليل حامل شرور عظيمة والاستعاذة من وقته امر ضروري وهذا صحيح ايضا !.
لكن مافات علماءنا الابرار في فهم هذه النصوص الكريمة شيئين :
الاول : هو انهم فصلوا بلا مبرر بين بداية السورة في :(( قل اعوذ برب الفلق )) ونهاية النص المتمم لخطاب القرءان في :(( ومن شر غاسق اذا وقب )) وعلى هذا ذهبوا للتركيز والسؤال على لماذية تخصيص الليل بالشر كظاهرة كونية جميلة بعد التعميم في ( من شرّ ماخلق )؟.
والحقيقة انه ليس هناك تخصيص بعد تعميم في النص القرءاني المذكور ، وانما هناك سلسلة زمنية متكاملة بدأت ب (( قل اعوذ برب الفلق )) الذي يشير الى بداية يوم من جهة ، واستعاذة من الشرور التي تبدأ معه ضد الانسان ، واستمرارا مع يوم فيه الكثير من الشرّ للانسان في (( من شرّ ماخلق )) ونهاية حتى الوصول لختام اليوم في :(( ومن شرّ غاسق اذا وقب )) باعتباره نهاية الدورة الزمنية من جهة اخرى ، ولكن ليس على اساس ان شرّ الليل هو اكثر خطرا من شرّ النهار او العكس ليخصص الليل من دون النهار !.
لا .. ولكن على اساس ان الانسان يعيش في كل دورة حياته اليومية بحلبة خطرة جدا من الاحتكاك مع العالم منذ الفجر حتى غسق الليل المظلم هذا ، لكن لااعلم لماذا بدأ اهل التفسير من قوله سبحانه :( من شر ماخلق ) بدلا من النظر من البداية الاولى في :(( قل اعوذ برب الفلق )) لتتم لديهم الدائرة ولايكون هناك عام وخاص في الحركة النصية للقرءان !.
الثاني : هو ان اهل التفسير والتبيين حتى مع انهم ذهبوا الى ان هناك خصوصية ما لغسق الليل في ذكره عن باقي الاوقات الانسانية والكونية ، فهم حتى مع ذالك لم يدركوا لماذا يكون غسق الليل اذا وقب فيه شرّا عظيما للانسان ؟.
صحيح ان اهل اللغة والتفسير قالوا : بأن معنى (( غاسق اذا وقب )) اي الليل الحالك الظلمة ، ولكنهم مع الاسف لم ينتبهوا الى ان هذا الليل المشار له في النص القرءاني في سورة الفلق انما هو ليل يتمتع بمواصفات معينة ، وليس هو الليل الطبيعي والذي يعيشه الانسان كل يوم في حياته الانسانية ، والذي يتعوذ منه الانسان مع طلعة كل فجر جديد ، والذي فيه شرور طبيعية ذكرها اهل التفسير على الجملة !.
ان قول اهل اللغة واهل التفسير في بيان قوله (( غاسق اذا وقب )) فيه اشارة واضحة على ان هذا الليل هو ليل حالك الظلمة ، ودخوله على الانسان يشكل هاجسا نفسيا لهذا الانسان الطبيعي !.
ومن هنا نحن فهمنا ان قوله سبحانه :(( ومن شرّ غاسق اذا وقب )) هو ليلة ان اخذنا برأي اهل التفسير على اساس انها نقله قرءانية من العام في (( من شرّ ماخلق )) الى الخاص في (( ومن شرّ غاسق اذا وقب )) نكون أمام ليلة فعلا مخصوصة ، ولكنها ليس ليلة طبيعية في حياة الانسان ، بل هي اسم لليلة خاصة جدّا تسمى ليلة ( الغسق )!.
اي انها الليلة التي تكون شديدة الظلمة وآذنة بشر ما قادم من اعلى السماء !.
نعم متى يكون الليل شديد الظلمة وحالك السواد ؟.
انه السؤال الذي لو تنبه له اهل البيان لادركوا معنى :(( ومن شرّ غاسق اذا وقب )) !.
يكون الليل شديد الظلمة وحالك السواد ان غاب عنه القمر تماما ، وهذه ظاهرة كونية طبيعية جدا ، فالقمر في كل شهر قمري يمحق ليوم في دورته الكونية ليعود ولادته من جديد ، والى هنا لايشعر الانسان بكبير قلق من ليلة المحاق الاسود ، وان كان فيها الكثير من الروايات الاسلامية انها ليلة مقلقة دينيا ، ولكن كيف بنا اذا صادف ان الليل بلا نجوم متلألئة في سمائه ؟.
ورد عن الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه واله وسلم قوله :(( النجوم أمان لاهل الارض من الغرق ، واهل بيتي امان لامتي من الاختلاف ....))
وقال ص :(( النجوم امان لاهل السماء فان طمست النجوم اتى السماء مايوعدون ...))
وعلى هذا نفهم ان ليلةً ليس فيها نجوم هي ليلة شديدة السواد على حياة الانسان ، وهي الليلة التي نخشى شرّها الكوني والعالمي الانساني ايضا ، فقد ثبت علميا ان للنجوم وظيفة التوازن الكونية العظيمة التي ان اختلت موازينها فان الارض ومن عليها سيكون في اختلال بالتوازن كونيا وعالميا ايضا ، وهذا هو مايشير له القرءان العظيم بقوله :(( ومن شرّ غاسق اذا وقب )) وما اشار له في موضع اخر بقوله :(( فاذا النجوم طمست ))!.
الخلاصة : هي انه لوكان هناك تخصيص بعد التعميم في قوله سبحانه :(( من شرّ ماخلق ، ومن شرّ غاسق اذا وقب )) فمعناه ان هناك ليلة من الليالي تسمة بليلة ( الغسق ) ووقوبها سيكون فيه شرّ عظيم للانسان بحاجة هذا الانسان المسكين للاستعاذة بالله من اهوالها الكونية !.
وكيف لا اذا مررنا بفلق فجر هادئ ومتحرك وحيوي ، واحتككنا بعالم ومخلوقات طبيعية غريبة عجيبة في نهار يوم عادي ، ودخلنا على ليل او دخل علينا ليلٌ بلا قمر منير ولانجوم متلألئة لترتفع البحار كظاهرة لاطبيعية وتخسف الارض كردة فعل كونية لغياب التوازن ، وقلب ظهر الارض لبطنها وفارت البراكين وانتهى العالم وهدمت الجبال فكانت كالعهن المنفوش .... أليس هي ليلة خطيرة جدّا بالنسبة للانسان ؟.
هذه الليلة تسمى ليلة القيامة وليس يومها !.




al_shaker@maktoob.com