الدلالة والحدث : آقرأ
تعتبر العلوم القرانية ، والتي نظمّ لعناوينها وطوّر من منافذها ووسع من افاقها ...، علماء الاسلام المحترمون ، من أهم الابواب الفكرية التي من خلالها يتمكن كل مفكر او قارئ او متفلسف او متعلم ، من تدعيم فهمه وادراكه واستيعابه ، لمحاور النص القراني الكريم ( والعكس ايضا صحيح عندما تكون هذه العلوم اغلالا) ، وما يرمي اليه ذالك النص ، والكيفية التي ينبغي ان يتعامل من خلالها مع النص القراني هذا ؟.
والحقيقة ان العلوم القرانية تلك ، لاتختلف في جوهر وظائفها العلمية عن باقي العلوم الاخرى والتي تكوّن قواعد وأصولا لاي علم يراد له ان يكون علما متكاملا ، كالعلوم اللغوية والنحوية - مثلا - والتي تكون منافذا وافاقا لفهم اسرار اللغة ، والكيفية الصحية لفهمها ، وادراك ابعادها الايحائية ، او كعلم المنطق عندما يراد منه ان يكون اداة لعصمة الفكر عن الخطأ - كما يدعي المناطقة - ، فان كل تلك الاصول والقواعد والمنطلقات ....، ما هي الا مقدمات لعملية تشييد وبناء فكرية تساهم باعطاء صورة اكثر وضوحا لهذا المنحى المعرفي او العلمي او ذاك عندما نقرأ النصوص القرانية التي تبدو بظاهريتها انها متضاربة او متنافرة او غير منسجمة ...، فلابد عندئذ من فهم او معرفة القواعد والاصول العلمية التي توضح او ترفع هذا اللبس المتوهم للنصوص القرانية ، فنقرأ - مثلا - قرانيا :( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولاباليوم الاخر ولايحرّمون ماحرّم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من = تبعيضية هنا والاكثر احتمالا المقصود اليهود من اهل الكتاب - الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية = اي جزاء ومقابل دفاعكم عنهم ومساواة لدفع المسلمون لضرائب الخمس والزكاة - عن يد وهم صاغرون = وهؤلاء هم المتمردون على النظام الاسلامي العام او الذين لايراعون مشاعر ونظام المسلمين القائم من اهل الكتاب فلابد من تأديبهم حتى الاستصغار لشأنهم كما ان المسلم الذي لايحترم او ينصاع للنظام العام لاي دولة حديثة غير مسلمة يعامل بالمثل ، اما المنفتحون من اهل الكتاب والمحترمون لنظام ومشاعر المسلمين فلهم كل الخطاب المحترم والكرامة المحفوظة ؟ / قران كريم ).
فعندما نقرأ هذا النص القراني نفهم الحكم اطلاقيا ، ولكن اذا كان هذا هو النص الوحيد في موضوعة القتال والمدافعة ، فمن حقنا عندئذ واسلاميا ان نقول بأخذ الحكم اطلاقيا ، مما يترتب عليه نتائج معينة ، اما ان قرأنا نصا قرانيا آخرا وبنفس الموضوعة - كل ذالك باعتبار ان الاسلام اقام نظاما سياسيا وله جناح عسكري كوزارة الدفاع حديثا - يقول : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدو ان الله لايحب المعتدين / قران كريم / 190/ البقرة ).
فعند ذالك انا متوقف هنا بين دعوة للقتال بالمطلق ، ودعوة لعدم الاعتداء مبتدأ ( ولافرق بين المتقدم من النصوص والمتأخر زمنيا هنا ) ، او دعوة اخرى تقيّد العمليات القتالية بعملية الاعتداء ، ليكون مفهوم المنافحة والقتال عملية مقاومة لمعتدي ، فبأي الامرين انا ملزم كحكم وفهم اسلامي ، بمعنى هل أءخذ بالمطلق من الحكم الاسلامي ام بالمقيد القانوني ؟.
هنا لامناص من فهم مدرك وواعي لأصول وقواعد وفن العلوم القرانية كي توضّح لي المنهج وتسلط الاضواء على الغاية ، فتأتي مفردة من مفردات العلوم القرانية والتي تسمى قاعدة (حمل المطلق على المقيد ) ، ومفادها : انه اذا كان لدينا مطلق في الحكم ومقيد بنفس الموضوع ، يجب عندئذ العمل بالمقيد وحمل المطلق عليه ، وعليه تكون الفكرة القائلة : لاتعتدوا على احد حتى يعتدي عليكم ، هي الفكرة التي توضح المراد من مقولة قاتلوا الذين لايؤمنون بالله واليوم الاخر...، واعتبارانه لافوضوية في هذا الامر وانما هناك حق طبيعي للانسان عندما يعتدى عليه فيجب ان يدافع عن نفسه وكفى .....، وهكذا تتبين معالم واهداف الفكرة القتالية في منظومة الفكر الاسلامي السياسي ، كما بينت القواعد القرانية هذه المناحي المعرفية وعلى كافة الاصعدة من معادلة العلوم القرانية ؟.
وكذالك هناك بالاضافة لمصطلح ( المطلق والمقيد ) ، ايضا هناك مصطلحات الناسخ والمنسوخ في العلوم القرانية ، كما ان هناك الخاص والعام ......الخ ، من هذه المصطلحات العلمية القابلة للفهم الاوسع والادراك الاشمل حسب أفق هذا المفكر او ذاك ، وهذا العالم او ذاك ، او هذا المتعلم او ذاك ....؟.
وهذه العلوم التي تتصل بالنص القراني - حقيقة - لها مفاعيل حاسمة بفهم وادراك النص القراني في الواقع ، فعدم ادراك واعي لهذه المصطلحات الاسلامية بأمكانها ان تقلب الحقائق القرانية رأسا على عقب ، مما يعطي مداليل مشوهة تماما للنص القراني واهدافه السامية لبناء الحياة الانسانية ، وعليه كان لابد - في الفكر الاسلامي - من اتقان عملية الادراك والفهم والقواعد والعلوم للنص القراني المقدس والخطر جدا في الحياة الانسانية ، وكمثال مقرب لاهمية بناء فهم واعي ودقيق لتطبيق العلوم القرانية على مصاديقها النصية ( وهنا لنأخذ مصطلح الناسخ والمنسوخ كمثال ) ، نأخذ مثلا قرانيا ، وهو قوله سبحانه :(ودّ كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم ( طبيعة بشرية عامة ) من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ../ 109 / البقرة )
فقد ذكر ان هذا الحكم الاسلامي ( بالعفوا والصفح ) قد نسخ بآية تسمى آية السيف ( ولهذه الاية الاعاجيب المستعجبة تكاد تكون ناسخة لثلث القران عند من يعتقد بانها ناسخة لما قبلها من احكام العفو والتسامح والتعايش السلمي بين باقي الاديان ........ وهي اساسا مقيدة الاطلاق كما ذكرنا ؟) القائلة :( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولايحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون / قران كريم ).
والحقيقة انه لانسخ بين النصين مطلقا ، وكل ماذهب اليه بعض المفسرين فاسد تماما ( انظر : الخوئي / البيان في تفسير القران /ط الثالثة / ص 288 ) ، من ايحاء التوقيت مثلا في النص الاول ، وعليه كانت مقولة النسخ هذه ولعدم ادراك مصطلح النسخ بصورته العلمية الواقعية ، قد افضت بنا الى شريحة واسعة تحمل الفكر الظلامي في التاريخ وحتى اليوم ، ولاتنظر للاطروحة الاسلامية على اساس انها اطروحة عفو وتسامح مطلقا، وذالك كله بسبب من فهم خاطئ جعل من اجتهاد فكري بشري ( آية السيف = اجتهاد وسياسة بدوية ) هو الحاكم على كل الاسلام ، مما انتج اثار فكرية ونفسية واجتماعية كارثية على الفكر الاسلامي ، فالاشكال الحقيقي عندئذ - ومن وجهة نظرنا الخاصة - هو ليس ان فكرا انسانيا اجتهد فأخطأ في تطبيق القاعدة القرانية ( الناسخ والمنسوخ ) على المصاديق النصية للقران الكريم ، ولكن الكارثة هي : ان خطأ تطبيق القاعدة افضى الى رفع كل العناوين الاسلامية الراقية من العفو والصفح والتسامح والتعايش الانساني والانفتاح على الاخر الانساني .........................الخ ، بأسم ان الناسخ لهذه المصطلحات هو آية لم يسميها النص القراني ولا الله منزل ذالك النص ، وانما سماها الانسان بآية ( السيف ) ليبرر توسعاته الاستعمارية السياسية القديمة في عالم الانسان ؟.
اذا تكون القواعد والعلوم القرانية والمقدمات العلمية ، من الحيوية والاهمية بمكان عال جدا لفهم النص القراني او قراء ته بصورة اكثر اسلامية وفهما وادراكا انسانيا ، وكما رأينا ان النص القراني نص مقدس ، ونسبة الخطأ في ادراكه ستوّلد نتائج كارثية على المستوى الفكري والاجتماعي والفردي ، فعليه كانت ( فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (= فكرة خاطئة ، او تطبيق لنص القران مشوها وهكذا ) ، انه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون / 98 - 99 / النحل ). ، ايضا قاعدة وعلم من العلوم القرانية المهمة في قراءة النص الاسلامي القراني المقدس ، فالاستعاذة وان لم تكن قاعدة مدونة ولكنها قاعدة احتراز نفسية - كالتقوى وعدم اقتراف الذنوب والجرائم ...الخ - وروحية للتدليل على اهمية قراءة النص القراني بعيدا عن اي دافع او ميل عقائدي او تعصب متخلف يرمز اليه عادة في الخطاب الاسلامي ب ( الشيطان ) ........ الخ ؟.
ومن هنا كانت علوم القران مقدمات لابد منها لمن يرغب بقراءة قرانية اكثر وعيا وفهما واتصالا ...، بواقع النص القراني ، والكيفية التي كان يفهمها صاحب لسان النص القراني عند نزوله لغويا ، ويدركها صاحب عقل النص القراني فكريا ، ومن الطبيعي والحال هذه ، ان تختلف عندئذ مدارك واتساعات هذا الباحث عن ذاك وهذا المفكر عن غيره ، وذالك حسب مايتقنه من فن الانفتاح اولا على قراءة النص القراني ، وثانيا حسب ما يدركه او مايفهمه من هذه القاعدة او تلك في العلوم القرانية ؟.
وهكذا كانت قاعدة ( اسباب النزول ايضا ) للعلوم القرانية هي الاخرى قاعدة لهامن الاهمية مايبرّز الجانب الانساني الممتزج بالنص القراني ، او المحرك لهذا النص والمساهم بصياغته الفكرية؟ والحقيقة ان باب ( أسباب النزول ) في العلوم القرانية له اهمية بالغة الخطورة ايضا ، فهو ينفتح على اكثر من باب من ابواب الفكر الاسلامي ليساهم بالادراك الناضج لزوايا النص القراني بالتحديد ( كذالك للسنة النبوية علوم كعلوم القران من ناسخ ومنسوخ ومطلق ومقيد ...) ، فهو عامل مساعد في فهم باب ( الناسخ والمنسوخ ) والذي يدخل في الاحكام الاسلامية بصورة مباشرة وما الاهمية التي يطرحها في معرفة المتقدم والمتأخر من الاحكام الاسلامية في عالم الناسخ والمنسوخ ، كذالك دخول علم (اسباب النزول ) في كثير من الابواب القرانية ايضا غير باب الناسخ والمنسوخ ....الخ ؟.
ولكن الشيئ الاهم - بالنسبة لكاتب هذه السطور شخصيا - في هذا الباب العلمي من العلوم القرانية والمسمى بباب ( اسباب النزول ) هو مايوفره هذا العلم من صورة اجتماعية انسانية زمانية ومكانية متحركة للنص القراني ، فاسباب النزول وكما هو مدرك ، هو : علم يرصد الاسباب الاجتماعية التي ساهمت في ولادة النص او تحريكه او بناءه ؟.
وعليه كان سبب النزول من هنا او هناك ، هو الاطار الاجتماعي للنص القراني ( الموضح لحركة النص وليس المقيد له ) ، ولاريب من ان فهم الاطار او الصورة الاجتماعية او الحدث الانساني الذي يساهم او ساهم بتحريك النص القراني وانزاله للواقع ، لاريب انه الاطار الذي يعطينا الابعاد الحركية للنص القراني ، والاهداف الحقيقية لهذا النص ، كما انه يمثل روح النص القراني ومدركه الواقعي ، ولذالك اهتم علماء الاسلام بهذا الباب من ابواب العلوم القرانية ، لما يمثله من ابعاد انسانية واجتماعية وبيانية للنص القراني كذالك ؟.
ومن هنا كان السؤال حول بداية الوحي الالهي او سببه سؤالا حيويا توفره لنا وبصورته الزمانية والمكانية والانسانية ، نافذة اسباب النزول القرانية ، وان كانت تلك النافذه توحي بان هناك سببا اجتماعيا انسانيا يكون مقدمة لتحريك وتفعيل والمساهمة بعملية انزال بعض النصوص القرانية ، ولكن وباعتبار ان بداية الوحي الالهي ( آقرأ ) كانت البداية الغير مسبوقة بحدث من احداث اسباب النزول البشرية الظاهرة ، كانت البداية موجودة في باب (أول مانزل من الوحي الالهي ) ؟.
الحقيقة بالامكان القول ان هناك مقدمات اجتماعية او انسانية زمانية ومكانية تعتبر من جانب او اخر اسبابا لتحرك الوحي ( قد ذكرنا بعضها سابقا ) الالهي الابتدائي ونزوله في لحظة من اللحظات الى عالم الانسان ، وذالك حسب زمن معين ومكان محدد وعلى شخصية انسانية ملفتة للنظر( الرسول المعظم محمد بن عبدالله ص ) ، وهذا الحدث الابتدائي بالذات هو المفصل والقاعدة والمنطلق الرسالي والاسلامي والنهضوي .... ، والذي اذا ثبت بقوة يكون كل شيئ ثابت ، واذا لم يثبت يكون كل شيئ متخلل في عالم الاسلام الرسالي والانساني ، وعليه كانت صورة الحدث الابتدائي هي المنطلق ، والاطلاع على حيثياتها الانسانية والزمانية والمكانية ، من اهم الصور المشوقة لرؤية هذا الحدث الذي غير مجرى سير الانسانية برمتها قبل اربعة عشر قرنا ، ولم تزل اثار ذالك الحدث فاعلة ومتحركة حتى اليوم وربما سوف تستمر الى اخر يوم على هذه الارض .. من يدري ..؟.
اذا ماهي تلك الحادثة التي غيرت المعادلة الانسانية بولادة وحي ؟. وكيف كانت حيثياتها التفصيلية زمانيا ومكانيا وانسانيا ؟. وما هي العبر التي بامكاننا استخلاصها من تلك الولادة التي تمخضت عن ( آقرأ ) ؟. وهل حقا ان ( آقرأ ) أول ما نزل ؟.
1:- ( عن ابي عبدالله - جعفر بن محمد الصادق - عليه السلام قال : أول مانزل على رسول الله صلى الله عليه وآله : - بسم الله الرحمن الرحيم * آقرأ باسم ربك - واخره - اذا جاء نصر الله ) انظر /اصول الكافي ج2 / كتاب فضل القران / الباب 13 / حديث 5 .( اخره بمعنى اخر سورة وليست اخر آية من القران فافهم ؟.
2 :- روى ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق قوله :( حدثنا وهب بن كيسان قال : قال عبيد : فكان رسول الله ص يجاور - بحراء - ذالك الشهر من كل سنه يطعم من جاءه من المساكين ، فاذا قضى رسول الله ص جواره من شهره ذالك ، كان اول مايبدأ به ، اذا انصرف من جواره ، الكعبة قبل ان يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا ، أو ماشاء الله من ذالك ، ثم يرجع الى بيته ، حتى اذا كان الشهر الذي اراد الله تعالى فيه ما اراد من كرامته ، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها ، وذالك الشهر - شهر - رمضان ، خرج رسول الله ص الى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه اهله حتى اذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى ، قال رسول الله ص فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب ، فقال آقرأ ، قلت ما اقرأ ؟. قال فغتني - حبس النفس - به حتى ظننت انه الموت ، ثم ارسلني فقال : اقرأ ، قال قلت : ما اقرأ ؟. قال فغتني به حتى ظننت انه الموت ، ثم ارسلني ، فقال : اقرأ ، قال : قلت ماذا اقرأ ؟. فغتني به حتى ظننت انه الموت ، ثم ارسلني ، فقال : اقرأ ، قال : فقلت ماذا اقرأ ؟. ما اقول ذالك الا افتداء منه ان يعود لي بمثل ماصنع بي ، فقال :( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم ) انظر : السيرة النبيوية لابن هشام / تحقيق : مصطفى السقا ، ابراهيم الابياري ، وعبد اللطيف شلبي / ج 1 / ص 236 .
3:- حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول اللة ص من الوحي الرؤية الصالحة في النوم فكان لايرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل ان ينزع الى اهله ويتزود لذالك ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما انا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرأ قلت ما انا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما انا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم ارسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم فرجع بها رسول الله ص يرجف فؤاده .....الخ ) انظر : صحيح البخاري / بحاشية السندي / ج1 / باب كيف كان بدء الوحي / ص 6 / دار صعب ).
نكتفي بهذا النقل من امهات الكتب الاسلامية وهي تصّور وتنقل لنا حادثة بدء الوحي ونزول الكلمة القرانية الى عالم الانسان ، والحقيقة ان في ثنايا هذه النقول الاخبارية عن حادثة بدء الوحي الكثير من المحاور الفكرية الاسلامية ، والتي بالامكان تناولها على اسس مختلفة ( فكرية ونفسية وجغرافية ...) ، ولكن ما يهمنا هنا هو القول ان تلك الحادثة الكبيرة رصدت الابعاد الانسانية الثلاثة بشكل لابأس به ، الاول البعد المكاني حيث جرت الحادثة بكل تفاصيلها ( غار حراء ) ، والبعد الزماني ( شهر رمضان ) وان كان هناك رأي غير هذا ، والبعد الانساني ( محمد رسول الله ص ) ، وهذه الابعاد الثلاثة هي ماقام عليها باب ( اسباب النزول ) القراني ، والمهم في المعادلة برمتها ، وما اثار بعض المفكرين والعلماء هو نقطة ( آقرأ ) القرانية ، من حيث انها كلمة ومن حيث انها وحي ومن حيث انها دلالة ، فقد لفت نظر بعض المفكرين والعلماء بعدين لزاوية اقرأ القرانية هذه :
الاول : زاوية المفهوم الفكري ل ( آقرأ ) كدلالة ووحي ؟.
والثاني : الخطاب المقروء للانسان الامي كمؤشر؟.
ولعلنا نستطيع تناول المفهوم الفكري لاقرأ القرانية من حيث هي وحي صادق ، ومن حيث هي دلالة وبعد لتنوع القراءة القرانية من جانب آخر
( اقرأ من حيث هي وحي )
يرى البعض من المفكرين ( وخاصة المستشرقين منهم ) والدارسين لظاهرة الوحي اللاهوتية السماوية ، ان هذه الظاهرة ما هي الا عبارة عن ظاهرة بشرية نفسية بحتة ، وليست لها اي اتصال وصلة واقعية بعالم ماوراء الطبيعة ( هذا المصطلح فلسفي كان يقصد به قديما درس المواد التي تأتي وراء او بعد علم الطبيعيات ، اما اليوم فيستخدم للأشارة الى العالم الغيبي اللاهوتي ؟.) ، وانما هي عملية فكرية متكررة تلهم الانسان المتأمل والمفكر نوعا من الذوبان في العالم المتفكر والمتأمل فيه ، حتى وصوله الى حالة الاعتقاد بان العالم الغيبي قد انفتح عليه بعملية وحي مباشرة تحّمله رسالة خلاص وانقاذ لعالمه الانساني ، فيصبح هذا الانسان المتأمل والمفكر بحالة شبه يقينية بهذا الاتصال اللاهوتي ، ولاسيما ان هذا الانسان المتأمل يصل الى حالة من الفكر النقدي لكل الاوضاع الانسانية القائمة في عصره ، ولذالك يطرح مشاريعه الاصلاحية الفكرية بالاضافة الى تأملاته الفلسفية كدين مقدس وطاهر ، وكبرنامج اجتماع ، وكرؤية لاهوتية كونية ؟.
والحقيقة ان مثل هذه الرؤى لموضوعة الوحي اللاهوتي ، وان كانت قريبة للتحليل النفسي الحديث الا انها رؤى محلقة في الخيال اكثر منها دراسة لواقع موضوعي ، ولاسيما ان درسنا موضوعة الوحي بكل حيثياتها التاريخية المذكورة لوحي السماء الخاتم والممثل بوحي الرسالة الاسلامية ، ومن الطبيعي وحسب الرؤية النفسية المطروحة انفا ، ان تكون عملية التأمل والتفكير هي المعادلة التي من خلالها نتمكن من دراسة ظاهرة الوحي الرسالية السماوية باعتبار ان كل الوحي ماهو الا انتاج فكري وعقلي ونفسي حسب هذه المعطيات التحليلية ؟.
ولكن دعنا نأخذ النموذج الرسالي الاسلامي ، ونطرح عليه تلك النظرة التحليلية النفسية ، فهل يستقيم ذالك التحليل لظاهرة الوحي الرسالي الخاتم وحسب المعطيات التي يقدمها لنا تاريخ السيرة واسباب نزول النص القراني ( اقرأ ) ؟.
ان العملية او النظرة التي يطرحها التفسير النفسي لظاهرة الوحي اللاهوتية تقتضي ان يكون الانسان المفكر والمتأمل لوضعه الاجتماعي والكوني منشغلا وغارقا تماما بالعملية الفكرية والتاملية التي يمارسها بالبحث والنظر ، وعلى هذا يكون الوحي او الايحاء النفسي ، ماهو الا عملية انعكاس طبيعية وحتمية لتلك العملية الفكرية والتاملية ، ومن هنا ينبغي ان تتشكل امامنا الصورة او الملامح الاولية التي ينبغي ان يكون عليها مدعي النبوة والاتصال الغيبي ، عندما يطرح برنامجه الاجتماعي الاصلاحي بالاضافة لرؤيته الفلسفية الكونية ، وذالك باعتبار انه ومن خلال التأمل والتفكير بهذه القضية الاجتماعية او الفلسفية الكونية ، ستكون الخطوة الاولى التي يقدم عليها الانسان المفكر والمتأمل هي الكلمة سواء كانت كلمة الحل الاجتماعية الاصلاحية او كلمة النظرة الكونية وكيفية كينونتها الواقعية ؟.
ان التاريخ يحدثنا ان اول كلمة لاهوتية قرانية كانت هي ( اقرأ ) نزلت بصورة مباشرة على نبي أمي لايقرأ او يكتب ، وهذا بشهادة حتى اعداء هذه الكلمة اللاهوتية السماوية ، فهل تعتبر هذه الكلمة ومن خلال النظرة النفسية السالفة الذكر هي منتج طبيعي وحتمية تأملية وفكرية فرضتها هذه الحالة على هذا الرسول الامي باعتباره وفي حقيقة الامر انه مفكرا لانبيا ؟.
بمعنى اخر : هل بامكاننا ان نستخلص من كلمة ( اقرأ ) القرانية ، وباعتبار انها اول كلمة ادعى انسان انها وحي اوحي اليه من السماء ، هل نتمكن من فهمها على اساس انها عملية فكرية وتأملية فرضت نفسها بصورة كلمة وحي من وراء الطبيعة على انسان اعتقد ذالك ؟.
الحقيقة كان المفروض على انسان يعيش في محيط اجتماعي لايعير اهمية للكلمة المكتوبة ، وينشغل بامور الحياة المعيشية المادية وكيفية توفيرها ، بالاضافة الى صراع هذا الانسان مع الطبيعية الصحراوية القاسية ، مضافا لذالك ان هذا الانسان لم يمتهن العملية الفكرية بصورتها الخطابية ، ولم يسمع منه احد من مجتمعه الذي كان يعيش فيه نبرة تفلسف كوني او تمرد نقدي طيلة اربعين سنة ......الخ ، كان المفروض من مثل هذه الشخصية الانسانية ولملابساتها الاجتماعية ان تكون اول كلمة تتبادر الى ذهنه هي شيئ متصل بعمق صراعاته الاجتماعية والطبيعية والتي كان شديد التفكير بها ، لتكون البوابة لدعوته الاصلاحية الفكرية ، فهل ياترى كانت ( اقرأ ) تمثل اي بعد تفكيري او تأملي لانسان الجزيرة العربية بصورة عامة ، لتكون من ثم هي الضرورة التي كانت تشغل فكر الرسول الاعظم محمد ص ، ومن ثم هي الكلمة التي اعتقد نفسيا انها وحي من السماء بينما كانت هي مجرد انعكاس لحالة تأمل وتفكير انساني عميق وسياسي او غيبوي ؟.
بالطبع لم تكن ( القراءة ) بصورة عامة في المحيط العربي هي الشغل الشاغل آنذاك لعالم الانسان العربي ، كما انها لم تكن تمثل اي بعد اجتماعي اشكالي يعاني منه الانسان العربي ( نعم انها اشكالية نهوض ولكن الحديث الان على قدرة استيعاب العقل الانساني لضروراته الانية ) حتى تكون هذه العملية من المعادلات التي تشغل الفكر وتدعو للتأمل المعمق لانسان الجزيرة العربية ، مما يضطر مفكرا كمحمد ان يطرح برنامجه الاصلاحي والفلسفي بكلمة ( اقرأ ) ، وربما لو كانت المعادلة منسجمة مع الوضع الاجتماعي القائم آنذاك وكذا الوضع النفسي لهذا الانسان لكانت مفردة ( الخبز ) او ( العدل ) او ( المساواة ) ......، هي الكلمة الاكثر تعبيرا عن واقع الحال الانسانية والشخصية لمحمد بن عبدالله ص ؟.
اذا ما هي العملية الحقيقية التي طرحت كلمة ( اقرأ ) الاصلاحية او الفكرية القرانية على لسان محمد بن عبدالله الطاهر الامين ص ؟.
ان رسول الاسلام محمد بن عبدالله ( روحي له الفدى ) لم يكن سياسيا ذكيا ، او مفكرا متصوفا ، او متأملا غيبويا ...، وانما كان نبيا مرسلا ، ينقل مايوحى اليه من غير ان يكون له اي تدخل في الابعاد اللاهوتية المطلقة لعملية الوحي الرسالية ، فهذه الكلمات القرانية ليست هي انعكاس اجتماعي مباشر حتى تكون شعارا لسياسي متطلع لتحريك الجماهير واستثمار مطالبها المعيشية ليطرح كلمة ( الخبز ) كما انه لم يكن متصوفا لتكون كلمة ( تأمل ) هي البداية والنهاية بدون فكر ، كما انه ليس غيبويا ليغيب عن الواقع ويطرح التأملات الروحية فحسب ؟.
بمعنى : ان القران الكريم نفسه ، وعندما كان يتحدث عن حياة محمد رسول الله ص قبل الوحي ، يذكر ان محمدا رسول الله ، لم يكن يفكر او يتوقع ان شيئا كهذا كان ينبغي ان يقع له ، اي ان يصبح رسولا على مستوى الايحاء والرسالة ودعوة العالم الانساني لرسالته الخاتمة :( ما كنت ترجو ان يلقى اليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين / القصص : 86 / قران كريم ) وكذا ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون / 48 : العنكبوت / قران كريم ) وكذا ( وكذالك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي الى صراط مستقيم / 52 : الشورى / قران كريم ) . ومعلوم ان المناهضين لرسالة الاسلام الخاتمة من قادة المجتمع العربي ، كانوا يدركون ان محمدا رسول الله ولفترة طويلة من حياته لم يكن يطرح اي نوع من التفكير او التأملات المتصلة بعمليات الاصلاح او التنظير او غيرها من الالوان الفكرية او النفسية ، ولذالك هم مع ماذكره القران من ان حياة محمد لم تكن توحي باي تحرك ملفت للنظر فكريا او تأمليا او اجتماعيا ، ينطلق من معادلة التخطيط للمستقبل هذا ؟.
وعليه كانت مقولة ان ظاهرة الوحي ، ماهي الا عملية فكرية تأملية نفسية ، لاتنطبق تماما على النموذج الرسالي الاسلامي ، باعتبار ان النموذج ( اقرأ ) قد نسف كل التوقعات التي تقول ان ظاهرة الوحي ينبغي ان تكون عملية فكر وتأمل نفسية ، مما يدلل على ان الكلمة القرانية ( اقرأ ) هنا اثبتت وبدون اي لبس اعجازية ودلالة الوحي الالهي باعتباره اتى مخالفا لكل المتوقع العقلي والتاملي الانساني ؟.
ان ( اقرأ ) القرانية وحسب ماتوحية عملية النقل التاريخي كانت عملية مربكة لكل الكيان النبوي الرسالي المحمدي ص ، وهذا واقع ذكرته كل السير والنقول الموثقة تاريخيا ، وبخلاف مجموعة صغيرة من المفكرين والعلماء والذين حاولوا الاشكال على هذه الصورة التاريخية لحدث بداية الوحي اللاهوتي ( سنناقش هذا الراي فيما بعد مع الطباطبائي وفضل الله ) فان الثابت التاريخي ان عملية الوحي كانت ( مفاجئة ) لكيانية الرسول المعظم ص ، مما توحي هذه ( الفجئة = فجأني ) للرسول الاعظم محمد بن عبدالله ص ، باللامتوقع العقلي والفكري والنفسي لحركة الوحي السماوية بكلمة ( اقرأ ) ؟.
ان من الطبيعي ان يفاجأ الانسان الامي ، عندما يطرح عليه وحيا يأمره بالقراءة ، كما انه من الطبيعي ان يفاجأ الانسان المشلول ان امرته بالمشي مثلا والانسان الاعمى الفاقد للبصر بالرؤية ..... ، فمفهوم ( ما اقرأ ، او : ما انا بقارئ وتكرره بمقابل اقرأ اللاهوتية ) الذي تحدثنا به السيرة واسباب النزول القرانية ، كان هو التعبير البشري الطبيعي والمتوقع من انسان لايقرا ولايكتب ، ولكن هذه الواقعية كانت تفرض نفسيا وفكريا وتأمليا وحسب التوقعات العلمية لعلم النفس المادي ان لاتكون اول كلمة من الوحي اللاهوتي الاسلامي القراني هي ( اقرأ ) باعتبار ان علم النفس وحسب معطيات الحياة النفسية والفكرية والتاملية لمحمد النبي تفرض عليه ان يعلن كلمة هو متمكن منها فكريا وعقليا ونفسيا وليس العكس ؟.
الا ان اللامتوقع هو الذي كان اعلانا للرسالة السماوية الاخيرة ، انها الكلمة ( اقرأ ) التي لم يكن يفكر فيها مطلقا محمدا رسول الله ، بل وكانت هي النقطة التي يفتقدها كسبيا الرسول الاعظم ص ، فهو كان رجلا اميا لايقرأ او يكتب ، فهل من المعقول ان يطرح عقل محمد وتفكيره وتامله
هذه الاشكالية اللامتوقعه على كيانه الأمي ليثير الشك في دعوته الاصلاحية امام خصومه لو كان مفكرا سياسيا ؟. ثم وبمعنى ادق هل يتمكن العقل اللاواعي للرسول الاعظم محمد بن عبدالله ص ان يطرح متناقضا عقليا وفكريا بنفس اللحظة التي يكون فيها لاواعيا وواعيا لطرحه مشروع ( اقرأ ) القرانية ؟.
الحقيقة انه وبمعادلة بشرية وبكل الابعاد النفسية والفكرية والتأملية لايمكن لاي انسان ان يطرح النقيض لوجوده الانساني ، فمن المستحيل نفسيا انسانيا ، ان يطرح العقل الباطن الانساني ( اللاواعي ) هذه التناقضية الغريبة العجيبة ، من انسان يريد ان يقيم مشروعا اصلاحيا اجتماعيا يفترض فيه الوعي والادراك التام لمشاكل الاجتماع الانساني القائم ، ثم وبنفس اللحظة يطرح لاوعيا وتناقضا بنفس الوقت ؟.
اي انه لو كانت النسبة الفكرية الواعية قائمة في الطرح الاسلامي ولو بنسبة قليلة لتدفع مقولة الوحي ، لكان كل الطرح الفكري واردا الا طرحا واحدا يتجنبه العقل الانساني تلقائيا وبدون اي ايعاز عقلي او فكري الا وهو الايعاز النفسي الكامن في العقل اللاواعي ، وهذا يفترض ان الانسان - مثلا - الامي والذي لايمتهن القراءة والكتابة ، وباعتبار انها عملية كمنت وترسخت في اللاوعي الانساني ، فمن المستحيل ان تطرح ماينقض هذا الراسخ في العقل اللاواعي ، ومن ثم من الصعب القول ان ( اقرأ) كانت نتاج فكر وتأمل طويل لمحمد الرسول ، ولكن الطبيعي النفسي البشري ان يقال : تجنب العقل لكل ماهو غير وارد ومعدوم الكسب للانسان ان يطرحه العقل ككلمة مشروع وبداية نهضة ؟.
ومن هنا وتدعيما لهذا الموقف الرسالي ، الذي يقول ان ليس لمحمد الرسول ص اي تدخل في صياغة الوحي وطرحه ، جاءت عملية اخرى قرانيا لتؤكد من هذه الحقيقة ( حقيقة ان الطرح القراني طرح وحي وليس هو نتاج تأمل وفكر انساني ) التي لالبس فيها وهي عملية ( الشك ) والتي يطرحها النص القراني لمحمد الرسول نفسيا ( اقرأ باسم ربك ... اقرأ وربك الاكرم = تأكيد كما يذهب بعض المفسرين ...) او ( فان كنت في شك مما انزلنا اليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ؟./ 94 : يونس / قران كريم ) وهذا الشك او التساءل الرسالي هو الاخر دلالة ومؤشر على مصداقية ان يكون الوحي من خارج الكيانية النفسية والفكرية للرسول المعظم محمد بن عبداللة ص ، وهو وحي من الخارج وليس من الداخل الانساني ، فالانسان لايمكنه ان يطرح طرحا من عمق فكره وتأمله وانسجامه النفسي ، ثم وبعد ذالك هو يشك في طرحه هل هو واقع وحق ام وهم وخيال والشك هنا في اصل الوجود وليس بالكيفية ؟.
اضف الى ذالك ان الطروحات الفكرية وخاصة الاصلاحية الاجتماعية يجب عليها ان تكون مطروحة بطرح ( الحتمية ) والتاكيد على الجماهير كي لاتثير اي شكوك حول صحتها او تثير او تخلخل مبادئ صحتها كي لايضعف التفاف الجماهير حولها ، اما ان تطرح فكرا وتأملا اجتماعيا ثم تطرح حول نفس هذا الفكر شكا ، فهذا قتل نهائي لكل الطرح اذا كان طرحا سياسيا او حزبيا او بشريا ، اما والحال انه وحي وليس فكرا ، فالقران يطرح الصورة النفسية للرسول كما هي وليس كما ينبغي ان تكون فكريا وسياسيا ، فيقول :( فان كنت في شك مما انزلنا اليك ...؟. فيجيب محمد ص : لا اشك ولا اسأل ؟.
ومن خلال هذا المعطيات المقدمة ، تكون ( اقرأ ) قد قامت بوظيفتها الرسالية ، لتعلن هي بنفسها انها كلمة وحي سماوية ، بالاضافة لتدعيمها موقف الرسالة الخاتمة ، فهي كلمة وحي لكونها جاءت باللامتوقع العقلي والفكري والنفسي للانسان المادي ، وهي دلالة لما اثارته من شك هو طبيعي من جهة ودلالي من جهة اخرى ، وهي كلمة خلق لكونها استطاعت ان تخلق وعيا وفكرا وتأملا وروحا انسانية ، ولم تكن هي وليدة فكر او تأمل لو غيبوبة نفسية ؟.
( اقرأ من حيث هي دلالة )
ان ( اقرأ ) القرانية وحسب مايطرحه التاريخ وتقدمه السيرة النبوية ، ويثبته باب اسباب النزول القراني ، بالاضافة ، لما تؤكده الكلمة القرانية ، كانت هي كلمة الوعي الاول لرسالة السماء اللاهوتية لمحمد بن عبدالله ص ، وهذا الوعي والادراك الاولي كان معرّضا لهزة عنيفة نفسية وروحية وفكرية عقلية ، فحدث الوحي ليس هو بالحدث الطبيعي ، او الاصح القول ليس هو بالحدث الذي اعتادت عليه النفس والطبيعة البشرية ، فلاريب عندئذ من ان هذه العملية الثقيلة على الروح والطبيعة البشرية ( انا سنلقي عليك قولا ثقيلا = لو انزلنا هذا القران على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله / قران كريم ) تأخذ كل ابعادها الطبيعية في النفس والفكر الانسانية :( اقرأ . ما أقرا ؟. او ما انا بقارئ ؟.) فما اقرأ سؤال عن ماهية القراءة ، وما هو الذي ينبغي ان يقرأ، اما ما انا بقارئ ، فنفي لمادة او ملكة القراءة ، بمعنى لست بقارئ او ليس لدي ملكة القراءة ؟.
ثم وبعد هذه العملية يكون التكرار والتأكيد على الامر اللاهوتي والوحي السماوي الواعي لصورة الحدث ب ( اقرأ ) فيكون الجواب لنداء المطلق المقدس بنفس الصيغة الاولى :( ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟.) لتعزز من المقولة الاولى بالاضافة الى سؤال بضميمة ياترى ما هذا المقروء ؟. او ما المراد من عملية القراءة هذه ؟.
ثم وبعد ذالك تكون الصورة الثالثة وبنفس النغمات ، مما تطلبت نفس الردود مع تزايد في التساؤل والذهول :( اقرأ . ما اقرأ .. ما انا بقارئ ؟.) ثم بعد هذا كان اللامتوقع الاخر ، فبدلا من ان يجيب المسؤول اجاب السائل نفسه عن الماهية والنوع الذي ينبغي للقراءة :( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الانسان من علق ، اقرأ وربك الاكرم ، الذي علّم بالقلم ، علم الانسان مالم يعلم .).
فالنتصور اذا ان كان محمدا رسول الله اجاب - مثلا - فماذا كان بأمكانه ان يجيب عن سؤال ( اقرأ ) ؟. ولنتصور - اكثر واقعية - لو كنت انا او انت معرض السؤال وبابه فماذا كان بأمكاني ان اجيب عن هذا السؤال او ماذا كان ينبغي عليك انت ان تجيب عندما تتعرض لمعادلة ( اقرأ ) هذه ؟.
شخصيا لا املك الجواب على طلب القراءة ، وربما كنت اذكى فطرة منّي لتجيب ب ( ما اقرأ ؟.) او ربما كنت اكثر وعيا وتأدبا لتجيب ب ( ما انا بقارئ ؟.) لتلقي الكرة في ملعب السائل ليوضح مراده من تلك القراءة والماهية التي يستهدفها بسؤاله الغريب العجيب ذاك ؟.
وهذا - حقيقة - ما قام به الرسول المعظم محمد ابن عبدالله ص ، فقد تسائل كباقي البشر عن ماهية تلك القراءة او بعدم تمكن الطبيعة الانسانية من القراءة فحسب ؟.
ولكن ينبغي ان اتساءل - كانسان مفكر - قبل معرفة الاجابة على كل تلك العملية الغريبة الاطوار والحوار العظيم الابعاد ، عن الاسباب التي دفعت الوحي لان يكرر عملية الطلب بالقراءة ثلاث مرات ، مع ادراك هذا الوحي الواعي لمخاطبه بانه لايقرأ ولايكتب ، فهل هناك عبرة بهذا الامر ؟.
نعم لاريب ان هناك عبرة - ربما لاتكون العبرة احيانا بوجود العبرة او العبرة بعدم وجود عبرة ، او العبرة منتج عقلي وفكري ونحن امام منتج وحي لاهوتي ...الخ - ربما تكون لادراك الوحي ان محمدا رسول الله متمكن من القراءة ، ولكن محمد نفسه لايدرك الطاقة الكامنه فيه والقوة العظيمة التي يحملها على فن القراءة ؟. او ربما كان التكرار اللاهوتي لطلب القراءة ، كان منصبا على قراءة اخرى غير القراءة المعتادة لحروف متناثرة ، فمحمد رسول الله على حق عندما نفى موضوعة القراءة ب ( ما انا بقارء ؟.) ولكن الوحي كان يشير الى قراءة الوحي لكل شيئ باسم الله ، وليس الى قراءة الحرف الضيق ، وعليه كرر المطلوب لينتبه المسؤول الى هذه الزاوية من الانفتاح الانساني ؟. اوربما كان التكرار الثالث ب ( اقرأ ) اللاهوتية ترمي الى التاكيد على ان هذا وحي وليس حديث نفس ووسوسة خلوة ، لا بل هو وحي وبصوت واضح ومتكرر وثابت ، يدعوا الى قراءة ما ، وعليه كان جواب الرسول الاعظم منفتحا وايجابيا ( ما اقرأ ؟.. ما انا بقارئ ؟.) .
من جانب اخر اليس لي الحق ان اتسائل - مرة اخرى - عن هذا الاستسلام الذي مارسه الرسول الاعظم ص امام عملية الوحي الاولى ، ولماذا هو طلب ماهية المقروء او تساءل عن كيفية القراءة مع عدم تمكنه من ادواتها بقوله ( ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟) وكان المفروض عقليا وطبيعيا وبشريا ، وبمثل هذه الحوادث اللاعادية او طبيعية ان يتساءل الانسان عن شخصية المتحدث بدلا من الاستسلام والتسليم المطلق لسؤال الطالب ؟.
نعم لو كنت في صورة الحدث ، او ربما لو كنت انت باعتبارك اكثر انفتاحا منّي ، لكان سؤالك الاول وحسب ما اعتقد عن الجهة التي تخاطبك من هي وليس الاستسلام التام لعملية الطلب تلك ؟. وعليه اتوقع ان تكون ردة الفعل الطبيعية لك هي ان تجيب ب ( من انت ؟. او ما انت ؟. ) بدلا من استسلامك وقولك ( ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟) ، فطبيعي والحال هذه ان تكون العملية وبهذا المنحى اكثر طبيعية وبشرية عندما يكون اللقاء الاول تعارفيا كأن يكون بهذه الصيغة - مثلا - بين محمد وجبريل ع : ( انا جبريل رسول رب العالمين الذي اصطفاك رسولا ونبيا لتبشر وتنذر الناس اجمعين ؟.) فيجيب الرسول الاعظم ص محمد ابن عبدالله بغير هذا الارباك الحاصل في العملية المذكورة برمتها من ( اقرأ . وما انا بقارئ ؟...) اليس متوقعا ان تكون العملية بالمتعارف اكثر هدوءا واكثر طبيعية ما لو كانت بعملية ( اقرأ ) المربكة ؟.
نعم صحيح ولكن اللامتوقع هو الذي حصل ، لتأتي الصورة والحدث بكل ما هو غير متفكر او متأمل او طبيعي او عادي ، فهنا عملية ايحاء ووحي وليست عملية فكر وتأمل وطبيعية كي تكون العملية تعارفية طبيعية وغير مفاجئة ؟.
بمعنى لو فرضنا ان العملية والحدث كان متحركا وفق الرغبة الطبيعية التي ذكرناها من تعارف طبيعي : ( انا جبريل رسول رب العالمين ...الخ ) ألما كان التفسير النفسي لظاهرة الوحي اللاهوتية صحيحا ؟.
نعم لاصبح التفسير النفسي صحيحا ولاصبحت عملية الوحي ايحاء نفسي ونضج فكري وتأمل كوني فحسب لانسان اراد ان يعطي صورة لما ينبغي ان يكون انسانيا واجتماعيا ، وما هو كائن فلسفيا ، ليصيغ لنا لقاء متوقعا وطبيعيا بين ملك وانسان يراد له تبليغ رسالة ( لاهو بشرية ) ؟.
اما عندما تعرض القضية على النحو اللامتوقع والمربك ...، بعملية شبه نزاعية بين ملك يأمر ب ( اقرأ ) ورسول أمي يعالج الادراك والمعرفة والنفس والعقل ليفهم مضمون رسالة ( اقرأ) واهدافها اللاهوتية ، فستكون العملية لامفكرا فيها ولا متأملا نحوها ، ولا مدركا ابعادها الاولية ، وعليه فهي عملية لاهوتية محضة وليست لاهو بشرية يراد لها ان تكون لاهوتية ، وعندئذ يمكننا رمي التفسير النفسي لظاهرة الوحي الالهية - في الفكر الاسلامي - ، في سلة المهملات او نحتفظ بهذه التفاسير المادية لظواهر الوحي الالهية ، كتحف تاريخية تدلل على ضألة الفكر والعقل البشري وصغارة افقه وانغلاق مداركه وظلاميته المادية المخجلة ؟.
اذا من حيث الموضوع كانت ( اقرأ ) ايضا هذه المرة دلالة على صدق الوحي وادراكه للحدث بعمق ، وكلما تكررت ( اقرأ ) كلما ازددنا يقينا بانها وحي ، وبانها كلمة تستحق ان تكون المعجزة الاولى لمعجزة القران الكبيرة ، وعليه كان استسلام محمد رسول الله ص وخضوعه لمعادلة ( اقرأ ) بدون الالتفات لباقي العناوين الاخرى ، هو خضوع يقين مطلق واستسلام مدرك ، لاعجازية الكلمة ( اقرأ) والتي لم تكن توحي الابانها من واقع ارفع واعلى واحكم واعلم من الواقع الانساني ، فكان الجواب ليس ( ما او من انت ؟. ) وانما كان الجواب السؤال هو ( ما اقرأ ؟............ ما انا بقارئ ؟.) ، لتكون عملية الاستسلام والسلام والاسلام احد مواصفات الرسول المعظم محمد ص لأول كلمة قرأنية اطلت على عالم الانسان المحمدي ( ارواحنا له الفدى ) ؟.
ان القران الكريم وكزاوية اخرى لقصة ( اقرأ ) العجيبة تطرح الصورة من زاويتين فقط ، وليست من زواية ثلاثة لمعادلة ( اقرأ ) اللاهوتية ، بمعنى ان السيرة والتاريخ واسباب النزول العلمي ، تطرح ( اقرأ ) ثلاثية الابعاد والدلالة من حيث ( اقرأ . ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟.) مكررة بثلاث زوايا فكرية نفسية تاملية عقلية ، ولكن النص القرآني يطرح هذه العملية ببعدين فقط ، اعني :( اقرأ باسم ربك الذي خلق .... واقرأ وربك الاكرم ..) فما هي الدلالة من هذه العملية بين ان تكون ثنائية مرة وثلاثية اخرى ؟.
الجواب في البحث القادم انشاء الله ...............................
تعتبر العلوم القرانية ، والتي نظمّ لعناوينها وطوّر من منافذها ووسع من افاقها ...، علماء الاسلام المحترمون ، من أهم الابواب الفكرية التي من خلالها يتمكن كل مفكر او قارئ او متفلسف او متعلم ، من تدعيم فهمه وادراكه واستيعابه ، لمحاور النص القراني الكريم ( والعكس ايضا صحيح عندما تكون هذه العلوم اغلالا) ، وما يرمي اليه ذالك النص ، والكيفية التي ينبغي ان يتعامل من خلالها مع النص القراني هذا ؟.
والحقيقة ان العلوم القرانية تلك ، لاتختلف في جوهر وظائفها العلمية عن باقي العلوم الاخرى والتي تكوّن قواعد وأصولا لاي علم يراد له ان يكون علما متكاملا ، كالعلوم اللغوية والنحوية - مثلا - والتي تكون منافذا وافاقا لفهم اسرار اللغة ، والكيفية الصحية لفهمها ، وادراك ابعادها الايحائية ، او كعلم المنطق عندما يراد منه ان يكون اداة لعصمة الفكر عن الخطأ - كما يدعي المناطقة - ، فان كل تلك الاصول والقواعد والمنطلقات ....، ما هي الا مقدمات لعملية تشييد وبناء فكرية تساهم باعطاء صورة اكثر وضوحا لهذا المنحى المعرفي او العلمي او ذاك عندما نقرأ النصوص القرانية التي تبدو بظاهريتها انها متضاربة او متنافرة او غير منسجمة ...، فلابد عندئذ من فهم او معرفة القواعد والاصول العلمية التي توضح او ترفع هذا اللبس المتوهم للنصوص القرانية ، فنقرأ - مثلا - قرانيا :( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولاباليوم الاخر ولايحرّمون ماحرّم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من = تبعيضية هنا والاكثر احتمالا المقصود اليهود من اهل الكتاب - الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية = اي جزاء ومقابل دفاعكم عنهم ومساواة لدفع المسلمون لضرائب الخمس والزكاة - عن يد وهم صاغرون = وهؤلاء هم المتمردون على النظام الاسلامي العام او الذين لايراعون مشاعر ونظام المسلمين القائم من اهل الكتاب فلابد من تأديبهم حتى الاستصغار لشأنهم كما ان المسلم الذي لايحترم او ينصاع للنظام العام لاي دولة حديثة غير مسلمة يعامل بالمثل ، اما المنفتحون من اهل الكتاب والمحترمون لنظام ومشاعر المسلمين فلهم كل الخطاب المحترم والكرامة المحفوظة ؟ / قران كريم ).
فعندما نقرأ هذا النص القراني نفهم الحكم اطلاقيا ، ولكن اذا كان هذا هو النص الوحيد في موضوعة القتال والمدافعة ، فمن حقنا عندئذ واسلاميا ان نقول بأخذ الحكم اطلاقيا ، مما يترتب عليه نتائج معينة ، اما ان قرأنا نصا قرانيا آخرا وبنفس الموضوعة - كل ذالك باعتبار ان الاسلام اقام نظاما سياسيا وله جناح عسكري كوزارة الدفاع حديثا - يقول : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدو ان الله لايحب المعتدين / قران كريم / 190/ البقرة ).
فعند ذالك انا متوقف هنا بين دعوة للقتال بالمطلق ، ودعوة لعدم الاعتداء مبتدأ ( ولافرق بين المتقدم من النصوص والمتأخر زمنيا هنا ) ، او دعوة اخرى تقيّد العمليات القتالية بعملية الاعتداء ، ليكون مفهوم المنافحة والقتال عملية مقاومة لمعتدي ، فبأي الامرين انا ملزم كحكم وفهم اسلامي ، بمعنى هل أءخذ بالمطلق من الحكم الاسلامي ام بالمقيد القانوني ؟.
هنا لامناص من فهم مدرك وواعي لأصول وقواعد وفن العلوم القرانية كي توضّح لي المنهج وتسلط الاضواء على الغاية ، فتأتي مفردة من مفردات العلوم القرانية والتي تسمى قاعدة (حمل المطلق على المقيد ) ، ومفادها : انه اذا كان لدينا مطلق في الحكم ومقيد بنفس الموضوع ، يجب عندئذ العمل بالمقيد وحمل المطلق عليه ، وعليه تكون الفكرة القائلة : لاتعتدوا على احد حتى يعتدي عليكم ، هي الفكرة التي توضح المراد من مقولة قاتلوا الذين لايؤمنون بالله واليوم الاخر...، واعتبارانه لافوضوية في هذا الامر وانما هناك حق طبيعي للانسان عندما يعتدى عليه فيجب ان يدافع عن نفسه وكفى .....، وهكذا تتبين معالم واهداف الفكرة القتالية في منظومة الفكر الاسلامي السياسي ، كما بينت القواعد القرانية هذه المناحي المعرفية وعلى كافة الاصعدة من معادلة العلوم القرانية ؟.
وكذالك هناك بالاضافة لمصطلح ( المطلق والمقيد ) ، ايضا هناك مصطلحات الناسخ والمنسوخ في العلوم القرانية ، كما ان هناك الخاص والعام ......الخ ، من هذه المصطلحات العلمية القابلة للفهم الاوسع والادراك الاشمل حسب أفق هذا المفكر او ذاك ، وهذا العالم او ذاك ، او هذا المتعلم او ذاك ....؟.
وهذه العلوم التي تتصل بالنص القراني - حقيقة - لها مفاعيل حاسمة بفهم وادراك النص القراني في الواقع ، فعدم ادراك واعي لهذه المصطلحات الاسلامية بأمكانها ان تقلب الحقائق القرانية رأسا على عقب ، مما يعطي مداليل مشوهة تماما للنص القراني واهدافه السامية لبناء الحياة الانسانية ، وعليه كان لابد - في الفكر الاسلامي - من اتقان عملية الادراك والفهم والقواعد والعلوم للنص القراني المقدس والخطر جدا في الحياة الانسانية ، وكمثال مقرب لاهمية بناء فهم واعي ودقيق لتطبيق العلوم القرانية على مصاديقها النصية ( وهنا لنأخذ مصطلح الناسخ والمنسوخ كمثال ) ، نأخذ مثلا قرانيا ، وهو قوله سبحانه :(ودّ كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم ( طبيعة بشرية عامة ) من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ../ 109 / البقرة )
فقد ذكر ان هذا الحكم الاسلامي ( بالعفوا والصفح ) قد نسخ بآية تسمى آية السيف ( ولهذه الاية الاعاجيب المستعجبة تكاد تكون ناسخة لثلث القران عند من يعتقد بانها ناسخة لما قبلها من احكام العفو والتسامح والتعايش السلمي بين باقي الاديان ........ وهي اساسا مقيدة الاطلاق كما ذكرنا ؟) القائلة :( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولايحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون / قران كريم ).
والحقيقة انه لانسخ بين النصين مطلقا ، وكل ماذهب اليه بعض المفسرين فاسد تماما ( انظر : الخوئي / البيان في تفسير القران /ط الثالثة / ص 288 ) ، من ايحاء التوقيت مثلا في النص الاول ، وعليه كانت مقولة النسخ هذه ولعدم ادراك مصطلح النسخ بصورته العلمية الواقعية ، قد افضت بنا الى شريحة واسعة تحمل الفكر الظلامي في التاريخ وحتى اليوم ، ولاتنظر للاطروحة الاسلامية على اساس انها اطروحة عفو وتسامح مطلقا، وذالك كله بسبب من فهم خاطئ جعل من اجتهاد فكري بشري ( آية السيف = اجتهاد وسياسة بدوية ) هو الحاكم على كل الاسلام ، مما انتج اثار فكرية ونفسية واجتماعية كارثية على الفكر الاسلامي ، فالاشكال الحقيقي عندئذ - ومن وجهة نظرنا الخاصة - هو ليس ان فكرا انسانيا اجتهد فأخطأ في تطبيق القاعدة القرانية ( الناسخ والمنسوخ ) على المصاديق النصية للقران الكريم ، ولكن الكارثة هي : ان خطأ تطبيق القاعدة افضى الى رفع كل العناوين الاسلامية الراقية من العفو والصفح والتسامح والتعايش الانساني والانفتاح على الاخر الانساني .........................الخ ، بأسم ان الناسخ لهذه المصطلحات هو آية لم يسميها النص القراني ولا الله منزل ذالك النص ، وانما سماها الانسان بآية ( السيف ) ليبرر توسعاته الاستعمارية السياسية القديمة في عالم الانسان ؟.
اذا تكون القواعد والعلوم القرانية والمقدمات العلمية ، من الحيوية والاهمية بمكان عال جدا لفهم النص القراني او قراء ته بصورة اكثر اسلامية وفهما وادراكا انسانيا ، وكما رأينا ان النص القراني نص مقدس ، ونسبة الخطأ في ادراكه ستوّلد نتائج كارثية على المستوى الفكري والاجتماعي والفردي ، فعليه كانت ( فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (= فكرة خاطئة ، او تطبيق لنص القران مشوها وهكذا ) ، انه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون / 98 - 99 / النحل ). ، ايضا قاعدة وعلم من العلوم القرانية المهمة في قراءة النص الاسلامي القراني المقدس ، فالاستعاذة وان لم تكن قاعدة مدونة ولكنها قاعدة احتراز نفسية - كالتقوى وعدم اقتراف الذنوب والجرائم ...الخ - وروحية للتدليل على اهمية قراءة النص القراني بعيدا عن اي دافع او ميل عقائدي او تعصب متخلف يرمز اليه عادة في الخطاب الاسلامي ب ( الشيطان ) ........ الخ ؟.
ومن هنا كانت علوم القران مقدمات لابد منها لمن يرغب بقراءة قرانية اكثر وعيا وفهما واتصالا ...، بواقع النص القراني ، والكيفية التي كان يفهمها صاحب لسان النص القراني عند نزوله لغويا ، ويدركها صاحب عقل النص القراني فكريا ، ومن الطبيعي والحال هذه ، ان تختلف عندئذ مدارك واتساعات هذا الباحث عن ذاك وهذا المفكر عن غيره ، وذالك حسب مايتقنه من فن الانفتاح اولا على قراءة النص القراني ، وثانيا حسب ما يدركه او مايفهمه من هذه القاعدة او تلك في العلوم القرانية ؟.
وهكذا كانت قاعدة ( اسباب النزول ايضا ) للعلوم القرانية هي الاخرى قاعدة لهامن الاهمية مايبرّز الجانب الانساني الممتزج بالنص القراني ، او المحرك لهذا النص والمساهم بصياغته الفكرية؟ والحقيقة ان باب ( أسباب النزول ) في العلوم القرانية له اهمية بالغة الخطورة ايضا ، فهو ينفتح على اكثر من باب من ابواب الفكر الاسلامي ليساهم بالادراك الناضج لزوايا النص القراني بالتحديد ( كذالك للسنة النبوية علوم كعلوم القران من ناسخ ومنسوخ ومطلق ومقيد ...) ، فهو عامل مساعد في فهم باب ( الناسخ والمنسوخ ) والذي يدخل في الاحكام الاسلامية بصورة مباشرة وما الاهمية التي يطرحها في معرفة المتقدم والمتأخر من الاحكام الاسلامية في عالم الناسخ والمنسوخ ، كذالك دخول علم (اسباب النزول ) في كثير من الابواب القرانية ايضا غير باب الناسخ والمنسوخ ....الخ ؟.
ولكن الشيئ الاهم - بالنسبة لكاتب هذه السطور شخصيا - في هذا الباب العلمي من العلوم القرانية والمسمى بباب ( اسباب النزول ) هو مايوفره هذا العلم من صورة اجتماعية انسانية زمانية ومكانية متحركة للنص القراني ، فاسباب النزول وكما هو مدرك ، هو : علم يرصد الاسباب الاجتماعية التي ساهمت في ولادة النص او تحريكه او بناءه ؟.
وعليه كان سبب النزول من هنا او هناك ، هو الاطار الاجتماعي للنص القراني ( الموضح لحركة النص وليس المقيد له ) ، ولاريب من ان فهم الاطار او الصورة الاجتماعية او الحدث الانساني الذي يساهم او ساهم بتحريك النص القراني وانزاله للواقع ، لاريب انه الاطار الذي يعطينا الابعاد الحركية للنص القراني ، والاهداف الحقيقية لهذا النص ، كما انه يمثل روح النص القراني ومدركه الواقعي ، ولذالك اهتم علماء الاسلام بهذا الباب من ابواب العلوم القرانية ، لما يمثله من ابعاد انسانية واجتماعية وبيانية للنص القراني كذالك ؟.
ومن هنا كان السؤال حول بداية الوحي الالهي او سببه سؤالا حيويا توفره لنا وبصورته الزمانية والمكانية والانسانية ، نافذة اسباب النزول القرانية ، وان كانت تلك النافذه توحي بان هناك سببا اجتماعيا انسانيا يكون مقدمة لتحريك وتفعيل والمساهمة بعملية انزال بعض النصوص القرانية ، ولكن وباعتبار ان بداية الوحي الالهي ( آقرأ ) كانت البداية الغير مسبوقة بحدث من احداث اسباب النزول البشرية الظاهرة ، كانت البداية موجودة في باب (أول مانزل من الوحي الالهي ) ؟.
الحقيقة بالامكان القول ان هناك مقدمات اجتماعية او انسانية زمانية ومكانية تعتبر من جانب او اخر اسبابا لتحرك الوحي ( قد ذكرنا بعضها سابقا ) الالهي الابتدائي ونزوله في لحظة من اللحظات الى عالم الانسان ، وذالك حسب زمن معين ومكان محدد وعلى شخصية انسانية ملفتة للنظر( الرسول المعظم محمد بن عبدالله ص ) ، وهذا الحدث الابتدائي بالذات هو المفصل والقاعدة والمنطلق الرسالي والاسلامي والنهضوي .... ، والذي اذا ثبت بقوة يكون كل شيئ ثابت ، واذا لم يثبت يكون كل شيئ متخلل في عالم الاسلام الرسالي والانساني ، وعليه كانت صورة الحدث الابتدائي هي المنطلق ، والاطلاع على حيثياتها الانسانية والزمانية والمكانية ، من اهم الصور المشوقة لرؤية هذا الحدث الذي غير مجرى سير الانسانية برمتها قبل اربعة عشر قرنا ، ولم تزل اثار ذالك الحدث فاعلة ومتحركة حتى اليوم وربما سوف تستمر الى اخر يوم على هذه الارض .. من يدري ..؟.
اذا ماهي تلك الحادثة التي غيرت المعادلة الانسانية بولادة وحي ؟. وكيف كانت حيثياتها التفصيلية زمانيا ومكانيا وانسانيا ؟. وما هي العبر التي بامكاننا استخلاصها من تلك الولادة التي تمخضت عن ( آقرأ ) ؟. وهل حقا ان ( آقرأ ) أول ما نزل ؟.
1:- ( عن ابي عبدالله - جعفر بن محمد الصادق - عليه السلام قال : أول مانزل على رسول الله صلى الله عليه وآله : - بسم الله الرحمن الرحيم * آقرأ باسم ربك - واخره - اذا جاء نصر الله ) انظر /اصول الكافي ج2 / كتاب فضل القران / الباب 13 / حديث 5 .( اخره بمعنى اخر سورة وليست اخر آية من القران فافهم ؟.
2 :- روى ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق قوله :( حدثنا وهب بن كيسان قال : قال عبيد : فكان رسول الله ص يجاور - بحراء - ذالك الشهر من كل سنه يطعم من جاءه من المساكين ، فاذا قضى رسول الله ص جواره من شهره ذالك ، كان اول مايبدأ به ، اذا انصرف من جواره ، الكعبة قبل ان يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا ، أو ماشاء الله من ذالك ، ثم يرجع الى بيته ، حتى اذا كان الشهر الذي اراد الله تعالى فيه ما اراد من كرامته ، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها ، وذالك الشهر - شهر - رمضان ، خرج رسول الله ص الى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه اهله حتى اذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى ، قال رسول الله ص فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب ، فقال آقرأ ، قلت ما اقرأ ؟. قال فغتني - حبس النفس - به حتى ظننت انه الموت ، ثم ارسلني فقال : اقرأ ، قال قلت : ما اقرأ ؟. قال فغتني به حتى ظننت انه الموت ، ثم ارسلني ، فقال : اقرأ ، قال : قلت ماذا اقرأ ؟. فغتني به حتى ظننت انه الموت ، ثم ارسلني ، فقال : اقرأ ، قال : فقلت ماذا اقرأ ؟. ما اقول ذالك الا افتداء منه ان يعود لي بمثل ماصنع بي ، فقال :( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم ) انظر : السيرة النبيوية لابن هشام / تحقيق : مصطفى السقا ، ابراهيم الابياري ، وعبد اللطيف شلبي / ج 1 / ص 236 .
3:- حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول اللة ص من الوحي الرؤية الصالحة في النوم فكان لايرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب اليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل ان ينزع الى اهله ويتزود لذالك ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما انا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني فقال اقرأ قلت ما انا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما انا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم ارسلني فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم فرجع بها رسول الله ص يرجف فؤاده .....الخ ) انظر : صحيح البخاري / بحاشية السندي / ج1 / باب كيف كان بدء الوحي / ص 6 / دار صعب ).
نكتفي بهذا النقل من امهات الكتب الاسلامية وهي تصّور وتنقل لنا حادثة بدء الوحي ونزول الكلمة القرانية الى عالم الانسان ، والحقيقة ان في ثنايا هذه النقول الاخبارية عن حادثة بدء الوحي الكثير من المحاور الفكرية الاسلامية ، والتي بالامكان تناولها على اسس مختلفة ( فكرية ونفسية وجغرافية ...) ، ولكن ما يهمنا هنا هو القول ان تلك الحادثة الكبيرة رصدت الابعاد الانسانية الثلاثة بشكل لابأس به ، الاول البعد المكاني حيث جرت الحادثة بكل تفاصيلها ( غار حراء ) ، والبعد الزماني ( شهر رمضان ) وان كان هناك رأي غير هذا ، والبعد الانساني ( محمد رسول الله ص ) ، وهذه الابعاد الثلاثة هي ماقام عليها باب ( اسباب النزول ) القراني ، والمهم في المعادلة برمتها ، وما اثار بعض المفكرين والعلماء هو نقطة ( آقرأ ) القرانية ، من حيث انها كلمة ومن حيث انها وحي ومن حيث انها دلالة ، فقد لفت نظر بعض المفكرين والعلماء بعدين لزاوية اقرأ القرانية هذه :
الاول : زاوية المفهوم الفكري ل ( آقرأ ) كدلالة ووحي ؟.
والثاني : الخطاب المقروء للانسان الامي كمؤشر؟.
ولعلنا نستطيع تناول المفهوم الفكري لاقرأ القرانية من حيث هي وحي صادق ، ومن حيث هي دلالة وبعد لتنوع القراءة القرانية من جانب آخر
( اقرأ من حيث هي وحي )
يرى البعض من المفكرين ( وخاصة المستشرقين منهم ) والدارسين لظاهرة الوحي اللاهوتية السماوية ، ان هذه الظاهرة ما هي الا عبارة عن ظاهرة بشرية نفسية بحتة ، وليست لها اي اتصال وصلة واقعية بعالم ماوراء الطبيعة ( هذا المصطلح فلسفي كان يقصد به قديما درس المواد التي تأتي وراء او بعد علم الطبيعيات ، اما اليوم فيستخدم للأشارة الى العالم الغيبي اللاهوتي ؟.) ، وانما هي عملية فكرية متكررة تلهم الانسان المتأمل والمفكر نوعا من الذوبان في العالم المتفكر والمتأمل فيه ، حتى وصوله الى حالة الاعتقاد بان العالم الغيبي قد انفتح عليه بعملية وحي مباشرة تحّمله رسالة خلاص وانقاذ لعالمه الانساني ، فيصبح هذا الانسان المتأمل والمفكر بحالة شبه يقينية بهذا الاتصال اللاهوتي ، ولاسيما ان هذا الانسان المتأمل يصل الى حالة من الفكر النقدي لكل الاوضاع الانسانية القائمة في عصره ، ولذالك يطرح مشاريعه الاصلاحية الفكرية بالاضافة الى تأملاته الفلسفية كدين مقدس وطاهر ، وكبرنامج اجتماع ، وكرؤية لاهوتية كونية ؟.
والحقيقة ان مثل هذه الرؤى لموضوعة الوحي اللاهوتي ، وان كانت قريبة للتحليل النفسي الحديث الا انها رؤى محلقة في الخيال اكثر منها دراسة لواقع موضوعي ، ولاسيما ان درسنا موضوعة الوحي بكل حيثياتها التاريخية المذكورة لوحي السماء الخاتم والممثل بوحي الرسالة الاسلامية ، ومن الطبيعي وحسب الرؤية النفسية المطروحة انفا ، ان تكون عملية التأمل والتفكير هي المعادلة التي من خلالها نتمكن من دراسة ظاهرة الوحي الرسالية السماوية باعتبار ان كل الوحي ماهو الا انتاج فكري وعقلي ونفسي حسب هذه المعطيات التحليلية ؟.
ولكن دعنا نأخذ النموذج الرسالي الاسلامي ، ونطرح عليه تلك النظرة التحليلية النفسية ، فهل يستقيم ذالك التحليل لظاهرة الوحي الرسالي الخاتم وحسب المعطيات التي يقدمها لنا تاريخ السيرة واسباب نزول النص القراني ( اقرأ ) ؟.
ان العملية او النظرة التي يطرحها التفسير النفسي لظاهرة الوحي اللاهوتية تقتضي ان يكون الانسان المفكر والمتأمل لوضعه الاجتماعي والكوني منشغلا وغارقا تماما بالعملية الفكرية والتاملية التي يمارسها بالبحث والنظر ، وعلى هذا يكون الوحي او الايحاء النفسي ، ماهو الا عملية انعكاس طبيعية وحتمية لتلك العملية الفكرية والتاملية ، ومن هنا ينبغي ان تتشكل امامنا الصورة او الملامح الاولية التي ينبغي ان يكون عليها مدعي النبوة والاتصال الغيبي ، عندما يطرح برنامجه الاجتماعي الاصلاحي بالاضافة لرؤيته الفلسفية الكونية ، وذالك باعتبار انه ومن خلال التأمل والتفكير بهذه القضية الاجتماعية او الفلسفية الكونية ، ستكون الخطوة الاولى التي يقدم عليها الانسان المفكر والمتأمل هي الكلمة سواء كانت كلمة الحل الاجتماعية الاصلاحية او كلمة النظرة الكونية وكيفية كينونتها الواقعية ؟.
ان التاريخ يحدثنا ان اول كلمة لاهوتية قرانية كانت هي ( اقرأ ) نزلت بصورة مباشرة على نبي أمي لايقرأ او يكتب ، وهذا بشهادة حتى اعداء هذه الكلمة اللاهوتية السماوية ، فهل تعتبر هذه الكلمة ومن خلال النظرة النفسية السالفة الذكر هي منتج طبيعي وحتمية تأملية وفكرية فرضتها هذه الحالة على هذا الرسول الامي باعتباره وفي حقيقة الامر انه مفكرا لانبيا ؟.
بمعنى اخر : هل بامكاننا ان نستخلص من كلمة ( اقرأ ) القرانية ، وباعتبار انها اول كلمة ادعى انسان انها وحي اوحي اليه من السماء ، هل نتمكن من فهمها على اساس انها عملية فكرية وتأملية فرضت نفسها بصورة كلمة وحي من وراء الطبيعة على انسان اعتقد ذالك ؟.
الحقيقة كان المفروض على انسان يعيش في محيط اجتماعي لايعير اهمية للكلمة المكتوبة ، وينشغل بامور الحياة المعيشية المادية وكيفية توفيرها ، بالاضافة الى صراع هذا الانسان مع الطبيعية الصحراوية القاسية ، مضافا لذالك ان هذا الانسان لم يمتهن العملية الفكرية بصورتها الخطابية ، ولم يسمع منه احد من مجتمعه الذي كان يعيش فيه نبرة تفلسف كوني او تمرد نقدي طيلة اربعين سنة ......الخ ، كان المفروض من مثل هذه الشخصية الانسانية ولملابساتها الاجتماعية ان تكون اول كلمة تتبادر الى ذهنه هي شيئ متصل بعمق صراعاته الاجتماعية والطبيعية والتي كان شديد التفكير بها ، لتكون البوابة لدعوته الاصلاحية الفكرية ، فهل ياترى كانت ( اقرأ ) تمثل اي بعد تفكيري او تأملي لانسان الجزيرة العربية بصورة عامة ، لتكون من ثم هي الضرورة التي كانت تشغل فكر الرسول الاعظم محمد ص ، ومن ثم هي الكلمة التي اعتقد نفسيا انها وحي من السماء بينما كانت هي مجرد انعكاس لحالة تأمل وتفكير انساني عميق وسياسي او غيبوي ؟.
بالطبع لم تكن ( القراءة ) بصورة عامة في المحيط العربي هي الشغل الشاغل آنذاك لعالم الانسان العربي ، كما انها لم تكن تمثل اي بعد اجتماعي اشكالي يعاني منه الانسان العربي ( نعم انها اشكالية نهوض ولكن الحديث الان على قدرة استيعاب العقل الانساني لضروراته الانية ) حتى تكون هذه العملية من المعادلات التي تشغل الفكر وتدعو للتأمل المعمق لانسان الجزيرة العربية ، مما يضطر مفكرا كمحمد ان يطرح برنامجه الاصلاحي والفلسفي بكلمة ( اقرأ ) ، وربما لو كانت المعادلة منسجمة مع الوضع الاجتماعي القائم آنذاك وكذا الوضع النفسي لهذا الانسان لكانت مفردة ( الخبز ) او ( العدل ) او ( المساواة ) ......، هي الكلمة الاكثر تعبيرا عن واقع الحال الانسانية والشخصية لمحمد بن عبدالله ص ؟.
اذا ما هي العملية الحقيقية التي طرحت كلمة ( اقرأ ) الاصلاحية او الفكرية القرانية على لسان محمد بن عبدالله الطاهر الامين ص ؟.
ان رسول الاسلام محمد بن عبدالله ( روحي له الفدى ) لم يكن سياسيا ذكيا ، او مفكرا متصوفا ، او متأملا غيبويا ...، وانما كان نبيا مرسلا ، ينقل مايوحى اليه من غير ان يكون له اي تدخل في الابعاد اللاهوتية المطلقة لعملية الوحي الرسالية ، فهذه الكلمات القرانية ليست هي انعكاس اجتماعي مباشر حتى تكون شعارا لسياسي متطلع لتحريك الجماهير واستثمار مطالبها المعيشية ليطرح كلمة ( الخبز ) كما انه لم يكن متصوفا لتكون كلمة ( تأمل ) هي البداية والنهاية بدون فكر ، كما انه ليس غيبويا ليغيب عن الواقع ويطرح التأملات الروحية فحسب ؟.
بمعنى : ان القران الكريم نفسه ، وعندما كان يتحدث عن حياة محمد رسول الله ص قبل الوحي ، يذكر ان محمدا رسول الله ، لم يكن يفكر او يتوقع ان شيئا كهذا كان ينبغي ان يقع له ، اي ان يصبح رسولا على مستوى الايحاء والرسالة ودعوة العالم الانساني لرسالته الخاتمة :( ما كنت ترجو ان يلقى اليك الكتاب الا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين / القصص : 86 / قران كريم ) وكذا ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون / 48 : العنكبوت / قران كريم ) وكذا ( وكذالك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلنه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي الى صراط مستقيم / 52 : الشورى / قران كريم ) . ومعلوم ان المناهضين لرسالة الاسلام الخاتمة من قادة المجتمع العربي ، كانوا يدركون ان محمدا رسول الله ولفترة طويلة من حياته لم يكن يطرح اي نوع من التفكير او التأملات المتصلة بعمليات الاصلاح او التنظير او غيرها من الالوان الفكرية او النفسية ، ولذالك هم مع ماذكره القران من ان حياة محمد لم تكن توحي باي تحرك ملفت للنظر فكريا او تأمليا او اجتماعيا ، ينطلق من معادلة التخطيط للمستقبل هذا ؟.
وعليه كانت مقولة ان ظاهرة الوحي ، ماهي الا عملية فكرية تأملية نفسية ، لاتنطبق تماما على النموذج الرسالي الاسلامي ، باعتبار ان النموذج ( اقرأ ) قد نسف كل التوقعات التي تقول ان ظاهرة الوحي ينبغي ان تكون عملية فكر وتأمل نفسية ، مما يدلل على ان الكلمة القرانية ( اقرأ ) هنا اثبتت وبدون اي لبس اعجازية ودلالة الوحي الالهي باعتباره اتى مخالفا لكل المتوقع العقلي والتاملي الانساني ؟.
ان ( اقرأ ) القرانية وحسب ماتوحية عملية النقل التاريخي كانت عملية مربكة لكل الكيان النبوي الرسالي المحمدي ص ، وهذا واقع ذكرته كل السير والنقول الموثقة تاريخيا ، وبخلاف مجموعة صغيرة من المفكرين والعلماء والذين حاولوا الاشكال على هذه الصورة التاريخية لحدث بداية الوحي اللاهوتي ( سنناقش هذا الراي فيما بعد مع الطباطبائي وفضل الله ) فان الثابت التاريخي ان عملية الوحي كانت ( مفاجئة ) لكيانية الرسول المعظم ص ، مما توحي هذه ( الفجئة = فجأني ) للرسول الاعظم محمد بن عبدالله ص ، باللامتوقع العقلي والفكري والنفسي لحركة الوحي السماوية بكلمة ( اقرأ ) ؟.
ان من الطبيعي ان يفاجأ الانسان الامي ، عندما يطرح عليه وحيا يأمره بالقراءة ، كما انه من الطبيعي ان يفاجأ الانسان المشلول ان امرته بالمشي مثلا والانسان الاعمى الفاقد للبصر بالرؤية ..... ، فمفهوم ( ما اقرأ ، او : ما انا بقارئ وتكرره بمقابل اقرأ اللاهوتية ) الذي تحدثنا به السيرة واسباب النزول القرانية ، كان هو التعبير البشري الطبيعي والمتوقع من انسان لايقرا ولايكتب ، ولكن هذه الواقعية كانت تفرض نفسيا وفكريا وتأمليا وحسب التوقعات العلمية لعلم النفس المادي ان لاتكون اول كلمة من الوحي اللاهوتي الاسلامي القراني هي ( اقرأ ) باعتبار ان علم النفس وحسب معطيات الحياة النفسية والفكرية والتاملية لمحمد النبي تفرض عليه ان يعلن كلمة هو متمكن منها فكريا وعقليا ونفسيا وليس العكس ؟.
الا ان اللامتوقع هو الذي كان اعلانا للرسالة السماوية الاخيرة ، انها الكلمة ( اقرأ ) التي لم يكن يفكر فيها مطلقا محمدا رسول الله ، بل وكانت هي النقطة التي يفتقدها كسبيا الرسول الاعظم ص ، فهو كان رجلا اميا لايقرأ او يكتب ، فهل من المعقول ان يطرح عقل محمد وتفكيره وتامله
هذه الاشكالية اللامتوقعه على كيانه الأمي ليثير الشك في دعوته الاصلاحية امام خصومه لو كان مفكرا سياسيا ؟. ثم وبمعنى ادق هل يتمكن العقل اللاواعي للرسول الاعظم محمد بن عبدالله ص ان يطرح متناقضا عقليا وفكريا بنفس اللحظة التي يكون فيها لاواعيا وواعيا لطرحه مشروع ( اقرأ ) القرانية ؟.
الحقيقة انه وبمعادلة بشرية وبكل الابعاد النفسية والفكرية والتأملية لايمكن لاي انسان ان يطرح النقيض لوجوده الانساني ، فمن المستحيل نفسيا انسانيا ، ان يطرح العقل الباطن الانساني ( اللاواعي ) هذه التناقضية الغريبة العجيبة ، من انسان يريد ان يقيم مشروعا اصلاحيا اجتماعيا يفترض فيه الوعي والادراك التام لمشاكل الاجتماع الانساني القائم ، ثم وبنفس اللحظة يطرح لاوعيا وتناقضا بنفس الوقت ؟.
اي انه لو كانت النسبة الفكرية الواعية قائمة في الطرح الاسلامي ولو بنسبة قليلة لتدفع مقولة الوحي ، لكان كل الطرح الفكري واردا الا طرحا واحدا يتجنبه العقل الانساني تلقائيا وبدون اي ايعاز عقلي او فكري الا وهو الايعاز النفسي الكامن في العقل اللاواعي ، وهذا يفترض ان الانسان - مثلا - الامي والذي لايمتهن القراءة والكتابة ، وباعتبار انها عملية كمنت وترسخت في اللاوعي الانساني ، فمن المستحيل ان تطرح ماينقض هذا الراسخ في العقل اللاواعي ، ومن ثم من الصعب القول ان ( اقرأ) كانت نتاج فكر وتأمل طويل لمحمد الرسول ، ولكن الطبيعي النفسي البشري ان يقال : تجنب العقل لكل ماهو غير وارد ومعدوم الكسب للانسان ان يطرحه العقل ككلمة مشروع وبداية نهضة ؟.
ومن هنا وتدعيما لهذا الموقف الرسالي ، الذي يقول ان ليس لمحمد الرسول ص اي تدخل في صياغة الوحي وطرحه ، جاءت عملية اخرى قرانيا لتؤكد من هذه الحقيقة ( حقيقة ان الطرح القراني طرح وحي وليس هو نتاج تأمل وفكر انساني ) التي لالبس فيها وهي عملية ( الشك ) والتي يطرحها النص القراني لمحمد الرسول نفسيا ( اقرأ باسم ربك ... اقرأ وربك الاكرم = تأكيد كما يذهب بعض المفسرين ...) او ( فان كنت في شك مما انزلنا اليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ؟./ 94 : يونس / قران كريم ) وهذا الشك او التساءل الرسالي هو الاخر دلالة ومؤشر على مصداقية ان يكون الوحي من خارج الكيانية النفسية والفكرية للرسول المعظم محمد بن عبداللة ص ، وهو وحي من الخارج وليس من الداخل الانساني ، فالانسان لايمكنه ان يطرح طرحا من عمق فكره وتأمله وانسجامه النفسي ، ثم وبعد ذالك هو يشك في طرحه هل هو واقع وحق ام وهم وخيال والشك هنا في اصل الوجود وليس بالكيفية ؟.
اضف الى ذالك ان الطروحات الفكرية وخاصة الاصلاحية الاجتماعية يجب عليها ان تكون مطروحة بطرح ( الحتمية ) والتاكيد على الجماهير كي لاتثير اي شكوك حول صحتها او تثير او تخلخل مبادئ صحتها كي لايضعف التفاف الجماهير حولها ، اما ان تطرح فكرا وتأملا اجتماعيا ثم تطرح حول نفس هذا الفكر شكا ، فهذا قتل نهائي لكل الطرح اذا كان طرحا سياسيا او حزبيا او بشريا ، اما والحال انه وحي وليس فكرا ، فالقران يطرح الصورة النفسية للرسول كما هي وليس كما ينبغي ان تكون فكريا وسياسيا ، فيقول :( فان كنت في شك مما انزلنا اليك ...؟. فيجيب محمد ص : لا اشك ولا اسأل ؟.
ومن خلال هذا المعطيات المقدمة ، تكون ( اقرأ ) قد قامت بوظيفتها الرسالية ، لتعلن هي بنفسها انها كلمة وحي سماوية ، بالاضافة لتدعيمها موقف الرسالة الخاتمة ، فهي كلمة وحي لكونها جاءت باللامتوقع العقلي والفكري والنفسي للانسان المادي ، وهي دلالة لما اثارته من شك هو طبيعي من جهة ودلالي من جهة اخرى ، وهي كلمة خلق لكونها استطاعت ان تخلق وعيا وفكرا وتأملا وروحا انسانية ، ولم تكن هي وليدة فكر او تأمل لو غيبوبة نفسية ؟.
( اقرأ من حيث هي دلالة )
ان ( اقرأ ) القرانية وحسب مايطرحه التاريخ وتقدمه السيرة النبوية ، ويثبته باب اسباب النزول القراني ، بالاضافة ، لما تؤكده الكلمة القرانية ، كانت هي كلمة الوعي الاول لرسالة السماء اللاهوتية لمحمد بن عبدالله ص ، وهذا الوعي والادراك الاولي كان معرّضا لهزة عنيفة نفسية وروحية وفكرية عقلية ، فحدث الوحي ليس هو بالحدث الطبيعي ، او الاصح القول ليس هو بالحدث الذي اعتادت عليه النفس والطبيعة البشرية ، فلاريب عندئذ من ان هذه العملية الثقيلة على الروح والطبيعة البشرية ( انا سنلقي عليك قولا ثقيلا = لو انزلنا هذا القران على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله / قران كريم ) تأخذ كل ابعادها الطبيعية في النفس والفكر الانسانية :( اقرأ . ما أقرا ؟. او ما انا بقارئ ؟.) فما اقرأ سؤال عن ماهية القراءة ، وما هو الذي ينبغي ان يقرأ، اما ما انا بقارئ ، فنفي لمادة او ملكة القراءة ، بمعنى لست بقارئ او ليس لدي ملكة القراءة ؟.
ثم وبعد هذه العملية يكون التكرار والتأكيد على الامر اللاهوتي والوحي السماوي الواعي لصورة الحدث ب ( اقرأ ) فيكون الجواب لنداء المطلق المقدس بنفس الصيغة الاولى :( ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟.) لتعزز من المقولة الاولى بالاضافة الى سؤال بضميمة ياترى ما هذا المقروء ؟. او ما المراد من عملية القراءة هذه ؟.
ثم وبعد ذالك تكون الصورة الثالثة وبنفس النغمات ، مما تطلبت نفس الردود مع تزايد في التساؤل والذهول :( اقرأ . ما اقرأ .. ما انا بقارئ ؟.) ثم بعد هذا كان اللامتوقع الاخر ، فبدلا من ان يجيب المسؤول اجاب السائل نفسه عن الماهية والنوع الذي ينبغي للقراءة :( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الانسان من علق ، اقرأ وربك الاكرم ، الذي علّم بالقلم ، علم الانسان مالم يعلم .).
فالنتصور اذا ان كان محمدا رسول الله اجاب - مثلا - فماذا كان بأمكانه ان يجيب عن سؤال ( اقرأ ) ؟. ولنتصور - اكثر واقعية - لو كنت انا او انت معرض السؤال وبابه فماذا كان بأمكاني ان اجيب عن هذا السؤال او ماذا كان ينبغي عليك انت ان تجيب عندما تتعرض لمعادلة ( اقرأ ) هذه ؟.
شخصيا لا املك الجواب على طلب القراءة ، وربما كنت اذكى فطرة منّي لتجيب ب ( ما اقرأ ؟.) او ربما كنت اكثر وعيا وتأدبا لتجيب ب ( ما انا بقارئ ؟.) لتلقي الكرة في ملعب السائل ليوضح مراده من تلك القراءة والماهية التي يستهدفها بسؤاله الغريب العجيب ذاك ؟.
وهذا - حقيقة - ما قام به الرسول المعظم محمد ابن عبدالله ص ، فقد تسائل كباقي البشر عن ماهية تلك القراءة او بعدم تمكن الطبيعة الانسانية من القراءة فحسب ؟.
ولكن ينبغي ان اتساءل - كانسان مفكر - قبل معرفة الاجابة على كل تلك العملية الغريبة الاطوار والحوار العظيم الابعاد ، عن الاسباب التي دفعت الوحي لان يكرر عملية الطلب بالقراءة ثلاث مرات ، مع ادراك هذا الوحي الواعي لمخاطبه بانه لايقرأ ولايكتب ، فهل هناك عبرة بهذا الامر ؟.
نعم لاريب ان هناك عبرة - ربما لاتكون العبرة احيانا بوجود العبرة او العبرة بعدم وجود عبرة ، او العبرة منتج عقلي وفكري ونحن امام منتج وحي لاهوتي ...الخ - ربما تكون لادراك الوحي ان محمدا رسول الله متمكن من القراءة ، ولكن محمد نفسه لايدرك الطاقة الكامنه فيه والقوة العظيمة التي يحملها على فن القراءة ؟. او ربما كان التكرار اللاهوتي لطلب القراءة ، كان منصبا على قراءة اخرى غير القراءة المعتادة لحروف متناثرة ، فمحمد رسول الله على حق عندما نفى موضوعة القراءة ب ( ما انا بقارء ؟.) ولكن الوحي كان يشير الى قراءة الوحي لكل شيئ باسم الله ، وليس الى قراءة الحرف الضيق ، وعليه كرر المطلوب لينتبه المسؤول الى هذه الزاوية من الانفتاح الانساني ؟. اوربما كان التكرار الثالث ب ( اقرأ ) اللاهوتية ترمي الى التاكيد على ان هذا وحي وليس حديث نفس ووسوسة خلوة ، لا بل هو وحي وبصوت واضح ومتكرر وثابت ، يدعوا الى قراءة ما ، وعليه كان جواب الرسول الاعظم منفتحا وايجابيا ( ما اقرأ ؟.. ما انا بقارئ ؟.) .
من جانب اخر اليس لي الحق ان اتسائل - مرة اخرى - عن هذا الاستسلام الذي مارسه الرسول الاعظم ص امام عملية الوحي الاولى ، ولماذا هو طلب ماهية المقروء او تساءل عن كيفية القراءة مع عدم تمكنه من ادواتها بقوله ( ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟) وكان المفروض عقليا وطبيعيا وبشريا ، وبمثل هذه الحوادث اللاعادية او طبيعية ان يتساءل الانسان عن شخصية المتحدث بدلا من الاستسلام والتسليم المطلق لسؤال الطالب ؟.
نعم لو كنت في صورة الحدث ، او ربما لو كنت انت باعتبارك اكثر انفتاحا منّي ، لكان سؤالك الاول وحسب ما اعتقد عن الجهة التي تخاطبك من هي وليس الاستسلام التام لعملية الطلب تلك ؟. وعليه اتوقع ان تكون ردة الفعل الطبيعية لك هي ان تجيب ب ( من انت ؟. او ما انت ؟. ) بدلا من استسلامك وقولك ( ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟) ، فطبيعي والحال هذه ان تكون العملية وبهذا المنحى اكثر طبيعية وبشرية عندما يكون اللقاء الاول تعارفيا كأن يكون بهذه الصيغة - مثلا - بين محمد وجبريل ع : ( انا جبريل رسول رب العالمين الذي اصطفاك رسولا ونبيا لتبشر وتنذر الناس اجمعين ؟.) فيجيب الرسول الاعظم ص محمد ابن عبدالله بغير هذا الارباك الحاصل في العملية المذكورة برمتها من ( اقرأ . وما انا بقارئ ؟...) اليس متوقعا ان تكون العملية بالمتعارف اكثر هدوءا واكثر طبيعية ما لو كانت بعملية ( اقرأ ) المربكة ؟.
نعم صحيح ولكن اللامتوقع هو الذي حصل ، لتأتي الصورة والحدث بكل ما هو غير متفكر او متأمل او طبيعي او عادي ، فهنا عملية ايحاء ووحي وليست عملية فكر وتأمل وطبيعية كي تكون العملية تعارفية طبيعية وغير مفاجئة ؟.
بمعنى لو فرضنا ان العملية والحدث كان متحركا وفق الرغبة الطبيعية التي ذكرناها من تعارف طبيعي : ( انا جبريل رسول رب العالمين ...الخ ) ألما كان التفسير النفسي لظاهرة الوحي اللاهوتية صحيحا ؟.
نعم لاصبح التفسير النفسي صحيحا ولاصبحت عملية الوحي ايحاء نفسي ونضج فكري وتأمل كوني فحسب لانسان اراد ان يعطي صورة لما ينبغي ان يكون انسانيا واجتماعيا ، وما هو كائن فلسفيا ، ليصيغ لنا لقاء متوقعا وطبيعيا بين ملك وانسان يراد له تبليغ رسالة ( لاهو بشرية ) ؟.
اما عندما تعرض القضية على النحو اللامتوقع والمربك ...، بعملية شبه نزاعية بين ملك يأمر ب ( اقرأ ) ورسول أمي يعالج الادراك والمعرفة والنفس والعقل ليفهم مضمون رسالة ( اقرأ) واهدافها اللاهوتية ، فستكون العملية لامفكرا فيها ولا متأملا نحوها ، ولا مدركا ابعادها الاولية ، وعليه فهي عملية لاهوتية محضة وليست لاهو بشرية يراد لها ان تكون لاهوتية ، وعندئذ يمكننا رمي التفسير النفسي لظاهرة الوحي الالهية - في الفكر الاسلامي - ، في سلة المهملات او نحتفظ بهذه التفاسير المادية لظواهر الوحي الالهية ، كتحف تاريخية تدلل على ضألة الفكر والعقل البشري وصغارة افقه وانغلاق مداركه وظلاميته المادية المخجلة ؟.
اذا من حيث الموضوع كانت ( اقرأ ) ايضا هذه المرة دلالة على صدق الوحي وادراكه للحدث بعمق ، وكلما تكررت ( اقرأ ) كلما ازددنا يقينا بانها وحي ، وبانها كلمة تستحق ان تكون المعجزة الاولى لمعجزة القران الكبيرة ، وعليه كان استسلام محمد رسول الله ص وخضوعه لمعادلة ( اقرأ ) بدون الالتفات لباقي العناوين الاخرى ، هو خضوع يقين مطلق واستسلام مدرك ، لاعجازية الكلمة ( اقرأ) والتي لم تكن توحي الابانها من واقع ارفع واعلى واحكم واعلم من الواقع الانساني ، فكان الجواب ليس ( ما او من انت ؟. ) وانما كان الجواب السؤال هو ( ما اقرأ ؟............ ما انا بقارئ ؟.) ، لتكون عملية الاستسلام والسلام والاسلام احد مواصفات الرسول المعظم محمد ص لأول كلمة قرأنية اطلت على عالم الانسان المحمدي ( ارواحنا له الفدى ) ؟.
ان القران الكريم وكزاوية اخرى لقصة ( اقرأ ) العجيبة تطرح الصورة من زاويتين فقط ، وليست من زواية ثلاثة لمعادلة ( اقرأ ) اللاهوتية ، بمعنى ان السيرة والتاريخ واسباب النزول العلمي ، تطرح ( اقرأ ) ثلاثية الابعاد والدلالة من حيث ( اقرأ . ما اقرأ او ما انا بقارئ ؟.) مكررة بثلاث زوايا فكرية نفسية تاملية عقلية ، ولكن النص القرآني يطرح هذه العملية ببعدين فقط ، اعني :( اقرأ باسم ربك الذي خلق .... واقرأ وربك الاكرم ..) فما هي الدلالة من هذه العملية بين ان تكون ثنائية مرة وثلاثية اخرى ؟.
الجواب في البحث القادم انشاء الله ...............................