بقلم : حميد الشاكر )
____________________________________( 1 )_______
بسم الله الرحمن الرحيم :
(( محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم .../ 29/ الفتح ))
****
عندما يقام اجتماع انساني ما في اي بقعة جغرافية من هذا العالم البشري ، فاننا سوف ندرك وبالفطرة الانسانية ان هناك اكثر من رابطة او علاقة اجتماعية توفرت لهذا الاجتماع الجديد ليقوم من موتته ويشيد من بنيانه الانساني ، وربما تكون تلك العلاقة او هذه الرابطة هي رابطة اللون او العنصر او اللغة او الدين او الطبقة ......، والمهم في المعادلة هو ان ندرك ان للاجتماع الانساني عناصر عدة ان وجدت توفرت عندئذ عناصر قيام الاجتماع الانساني في بداية بذرة تكونه او تشكله ، وأن انتفت يصبح من الصعب تصور قيام مجتمع انساني حقيقي !.
ان أهمية رصد تلك العلائق والروابط الاجتماعية في اي دراسة ، أهمية تنبع من كون فهم هذه العلائق او الروابط هي المفتاح الحقيقي لفهم تركيبة اي مجتمع يراد فهمه وتفكيك روابطه الاولية ، ومن ثم ادراك بنيته التي يقوم عليها في فعله الواقعي القائم ، فأن اردت - مثلا - معرفة وادراك ظاهرة النمو الاقتصادية الكبيرة - الانتاج - التي يتميز بها هذا المجتمع عن غيره ، عليك اولا العودة الى أساسيات بنية هذا المجتمع وماهية علائقه وروابطه التي قام عليها بنيان هذا المجتمع ، لتفهم فيما بعد ماهية القوانين التي تحرك وبفاعلية من النشاط الاقتصادي لهذه الامة المتميزة بالاهتمام بالجانب الاقتصادي هذا !.
وكذا الحال ان رأيت مجتمعا انسانيا تتضخم فيه الظواهر العنصرية او الدينية او الطبقية .... او اي شيئ اخر ، فلا مناص ان اردنا فهم جذور الظاهرة تلك من الرجوع الى الاساسيات والبنى التحتية ومن ثم العلائق والصلات والروابط الفوقية التي بنيت على تلك الاساسيات لنفهم فيما بعد كيفية نشأت هذه الظاهرة او تلك من الظواهر الانسانية والاجتماعية ايضا ، والعكس ايضا صحيح عندما يحاول احدنا ان يصل الى جذور هذا المرض الظاهر في الجسد الاجتماعي فعليه كذالك ان يرجع باي ظاهرة سلبية اجتماعية الى جذورها الاساسية ليدرك فيما بعد البنية والعلاقة التي شيّدت على هذه البنية ، ليصل اخيرا الى فهم الطوابق العلمية الثلاثة لاي مجتمع من البنية الاساس اولآ ،وحتى العلاقة التي نبتت على وفي هذه البنية او الارضية ثانيا ، الى الظاهرة والسلوك الجمعي سلبيا كان او ايجابيا اجتماعيا كثمرة طبيعية لتلك المقدمتين ثالثا !.اذن للمجتمع اي مجتمع ثلاث طوابق طبيعية في وجوده الاجتماعي :
الاول : طابق البنية وهو الاساس لتكوّن اي مجتمع انساني ، ويتلخص في ان الانسان مخلوق اجتماعي مفكر بالفطرة والخلقة ، اي لابد له من الاجتماع في هذه الحياة ولابد له من رؤية !.
ثانيا : العلائق والروابط التي تفرضها بنية او فطرة الاجتماع تلك ، من المصالح المشتركة حتى صلة الرحم والدم بين ابناء المجتمع الواحد !.
ثالثا : ظواهر تلك العلائق التي انعكست سلوكيا واخلاقيا ونفسيا وروحيا وفكريا على هذا الوجود الاجتماعي !.
والحقيقة وبما ان طبيعة هذا الموضوع متشعبة وواسعة جدا ، فلابد علينا من الاخذ بطرف واحد من المعادلة الاجتماعية تلك لنلقي الضوء عليه بشكل مختصر ، ولنصل فيما بعد لاضاءة جزء يسير من موضوعة المجتمع والبنية هذه ، وليكن هذا الجزء اليسير هو الوسط الاجتماعي القائم بين ركني (( البنية )) الاجتماعية من جهة ، و (( السلوك )) كمكون لظواهر المجتمع من جانب اخر ،واعني به معادلة (( العلاقة او الرابطة )) التي تنشأ في المجتمع الانساني اي مجتمع انساني ما ، ولنتساءل : كيف تنشأ العلاقة الاجتماعية ؟.
وماهي او ماهو الاصل الواقعي والارضية الطبيعية والبنية المادية والفكرية لنشأة هذه او تلك من العلائق الاجتماعية ؟.
بمعنى آخر : أي البنية والعلائق والروابط الانسانية هي المسؤولة بالفعل عن انشاء الظواهر الاجتماعية هذه ؟.
هل هي العلائق العنصرية هي الكفيلة بأنشاء ظاهرة العلائق والروابط الاجتماعية والتي من المفروض ان تشكل الرابطة بين الانسان والاخر ؟.
أم انها علاقة وبنية الاقتصاد والمصالح المشتركة هي التي تفرض نوع العلاقة التي ينبغي ان تقوم كعلاقة مرادفة لتنظيم علاقة المجتمع فيما بينه والبين الاخر ؟.
أو انه لاهذا ولاذاك هو المسؤول عن نشأة علاقة الاجتماع الانساني الصحيحة والصحية بل المسؤول عن نشأة الروابط والعلائق الاجتماعية هي الفكرة والايمان والدين والمعتقد ... هذا هو المسؤول عن ارساء قواعد الروابط والعلائق الاجتماعية التي ينبغي ان تقوم بين افراد الاجتماع الواحد فيما بينهم والبين الاخر ؟.
____________________( 2 )____________
رؤية قرءانية :-
:(( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لايهدي القوم الظالمين / 109/ التوبة ))
ان المدرسة الاسلامية ترى في فكرة (( البنية والعلاقة والسلوك )) في الوجود الاجتماعي مثلث مترابط الاطراف فيما بينه والبين الاخر ، وعليه ترى المدرسة القرءانية : ان للبنيان تأثير حيوي على اقامة الجسد الاجتماعي ومن ثم مايظهر وينتج منه من ظواهر سلوكية تكّون النتيجة الطبيعية لذالك البنيان الذي، أن أسس على تقوى من الله سبحانه فله نتيجة وأن أسس على بنيان اخر فله نتيجة اخرى ، فمنذ البداية والتأسيس تؤكد الرؤية القرءانية على وجوب تعديل الرؤية للبنيان والاساس والمنشأ ، لتأتي فيما بعد الروابط والعلائق الاجتماعية مع الظواهر والسلوك والاخلاقيات منسجمة الحركة ومتناغمة العزف والتفاعل ، مما يعني وبشكل مباشر آخر وبكل وضوح :
ان الرؤية الاسلامية القرءانية ترى وجوب ان تكون الرؤية والمعتقد (( الاسلام )) والايمان والدين هي الاسس المنطقية في بناء اي علاقة انسانية اجتماعية يراد لها ان تكون الروابط والمعاقد الطبيعية لشبكة الاجتماع الانساني والاسلامي بصورة خاصة ، وليست الطبقية هي الممون الحقيقي لبناء شبكة العلاقات الاجتماعية ، ولا العنصرية القومية هي تلك الممون الاساس لاقامة الروابط بين المجتمع الانساني ، وكذا ليس اللون ولا اللغة فقط هي الاخرى عوامل وحوامل ولادات العلائق الاجتماعية التي يراد لها لعب دور الرابط والمنظم لتعامل المجتمع فيما بينه والبين الاخر !.
نعم ان كان المجتمع له ايمان قومي او طبقي اقتصادي ، او رأسمالي نفعي ....، ستكون هذه الرؤى القومية او الطبقية او الراسمالية النفعية هي المشّكلة الواقعية من ثم لعلائق المجتمع وروابطه الاخلاقية والنفسية والروحية والفنية ، وهي كذالك الدافع لتأسيس القانون لادارة المجتمع بالكيفية التي تنسجم مع هذا الايمان القومي او الطبقي او النفعي من الحياة الانسانية الاجتماعية ، ليأتي التشريع القانوني وفقا للرؤية الايدلوجية القومية او الطبقية او النفعية ، وكذالك الحال عندما يقال : ان الرؤية الاسلامية ترى ضرورة ان يكون للايمان والفكرة والمعتقد الدور الاساس في تشكيل العلاقة الاجتماعية ، فأن هذه الرؤية هي ليست رؤية شاذة المنشأ والمنطق الانساني ، بل هي رؤية واقعية مئة بالمئة مع باقي الرؤي الانسانية ، ألا ان اختلافها في الجهة التي يمكن لها ان تضع الركائز والاسس الحقيقية لاقامة العلائق الاجتماعية ، وكما ان الراسمالية - مثلا - ترى انها الاقدر فكريا وفلسفيا - مع ان الراسمالية ليست فلسفة - على تنظيم حركة المجتمع وبناء علائقه الانسانية ، كذالك هي الحال بالنسبة للرؤية القومية والاخرى الطبقية ومنها الاسلامية ، بأعتبار انها فكرة ايدلوجية ايمانية تطرح نفسها انسانيا كمدرسة تتمتع برؤية اجتماعية من حقها رسم صورة المجتمع الصالح حسب خطوط برنامجها الاجتماعي الانساني العام ، مع زيادة ان الرؤية الاسلامية ترى في نفسها الكفاءة الاعمق في ادارة مخطط المجتمع الصالح ، فهي الاوسع فكريا والاعمق عقديا من كونها فكرة تؤمن بمعتقد ولكنها لاتلغي المعتقد المخالف الاخر ، وكذا هي تصّور يدير المجتمع ويضمن عدالة الحكم والثروة بين كافة شرائح المجتمع الطبقية بدون الميل تشريعيا لهذه الطبقة او تلك من الطبقات الاجتماعية ، مضافا لذالك زعم الاطروحة الاسلامية القرءانية انها الفكرة التي اسست بنيانها على الرؤية الاممية الانسانية الواسعة مع احتفاضها المعمق باختلافات وتلاوين وتشكيلات المجتمع القومية اللغوية منها والفنية والعنصرية وباقي المميزات الانسانية والاجتماعية الثقافية وغير الثقافية ...،
_________________ (3) ______
علاقة رحمة :-
(( محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم / قرءان كريم ))
ان من مميزات علائق المجتمع المسلم وحسب مايطرحه الكتاب الكريم القرءان العظيم ، وماتؤكد عليه التعاليم الرسالية الاسلامية المحمدية في تصوراتها الاجتماعية للبناء الاجتماعي وكذا العلائق والروابط البينية في هذا المجتمع هي علاقة (( الرحمة )) فيما بين افراد الاجتماع الاسلامي بين بعضهم والبعض الاخر ، وهذه الصفة الاجتماعية التي يقرها القرءان الكريم بقوله :(( أشداء على الكفار رحماء بينهم )) هي لم تنطلق من الفراغ الفكري وبلا قواعد واسس اسلامية اعادت الرؤية في تشكيل البنية والمحتوى الاجتماعي الاسلامي ايضا ، بل انها علائق أسست على بنيان قوي وفكرة واضحة وايمان راسخ لدى المسلمين انفسهم انتجت فيما بعد وكمنتج طبيعي لاتكلف فيه صفة وعلاقة الرحمة التي تشد من البنيان الاجتماعي وتنظم وتربط من حركته السلوكية الاجتماعية هذه !.
بمعنى اخر : أنه من الصعب بروز وظهور علاقة الرحمة هذه في المجتمع الانساني بالعموم والاسلامي بالخصوص ، وهي مفتقدة للعنصر الاساس في معادلة المجتمع المتكاملة والتي هي : بنية اولا ، وعلاقة ثانيا ، وسلوك واخلاق او عمل ثالثا ، واي خلل في هذه المعادلة وحسب الرؤية القرءانية سيؤثر حتما على العلائق من جهة والظواهر الفوقية السلوكية الاخلاقية من جهة اخرى ، وعليه كانت الرؤية الاسلامية ولم تزل رؤية تؤمن بالكل المتكامل الغير قابل للتجزيئ والبتر والقطع النوعي ، لهذا جاء الحكم قطعيا بأدانة تفكيك الخطاب الاسلامي ودراسته مفرقا او تطبيقه مجتزءا ليقول باسلوب ادانة لما مضى من سنن تاريخية فاشلة تطبيقيا :(( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذالك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون الى اشد العذاب / 85/ البقرة )) اي بمعنى ان الايمان بالبعض والكفر او الغاء البعض الاخر في الفكرة والخطة والبرنامج الالهي الاسلامي العظيم يشكل المحور الطبيعي لفشل النتائج المطلوب وجودها او المنتظر وقوعها في حياتكم الاجتماعية وسير هذه الحياة ووصولها الى النتائج الجيدة ، وكما ان الجسد الاجتماعي كل مترابط بعضه مع البعض الاخر ، كذالك هي الحال بالنسبة للخطة والكتاب والاحكام والايمان ... ايضا هي كل متكامل لايقبل القسمة على اكثر من اتجاه او تطبيق معقد او ايمان مرة بالاه حق ومرة بوثن من حجارة لايضر ولاينفع !.
الغرض : هو ان الرؤية القرءانية الاسلامية تجعل للاجتماع الاسلامي بنية تحتية أساسية جذرية فكرية وروحية ونفسية ومادية ايضا ، تقوم بالمبدأ على فكرة (( الايمان )) بالله العظيم سبحانه وتعالى باعتباره المرجعية الواقعية والبنية الاساسية والقاعدة الفولاذية التي يؤمن بها الانسان المسلم ، وبأعتبارها المنطلق الحقيقي لفكره وتصوراته وتشكيل علائقه وتنظيم أخلاقه وسيره في هذه الحياة الاجتماعية ، وهذا ما أصطلح عليه في الفكر الاسلامي بعملية (( التوحيد )) الالهية المقدسة ، اي توحيد البنية وتوحيد الاساس وتوحيد المرجعية الفكرية وتوحيد المنظم الاجتماعي وتوحيد جهة التشريع الاجتماعية ....الى اخر هذا التوحيد الذي يصهر حياة الانسان باتجاه قبلة واحدة فكريا ونفسيا وروحيا وسلوكيا واجتماعيا واسريا وسياسيا واقتصاديا وفلسفيا .......... وغير ذالك .
نعم من يريد الايمان ببعض التوحيد والكفر بالبعض الاخر فعليه توقع فشل العملية وانتفاء النتائج وتطايرها في الهواء بلا رجعة ولاظهور يذكر ، باعتبار ان الخلل قد دخل بين المقدمة والنتيجة فحتما سنصل الى الخزي حسب التعبير القرءاني او الفشل حسب التعبير الاجتماعي الانساني !.ولكنّ ومع ذالك من وضوح هذه الرؤية القرءانية التوحيدية في هذا الاطار الفكري والعقدي ، لماذا ينبغي علينا الالتزام بالتوحيد المطلق للحكم والخطاب القرءاني هذا ؟.وما علاقة صفة الرحمة الاجتماعية ومدى انتشارها سلوكيا في فضاء المجتمع ، وهذه البنية الاساسية في الفكرة القرءانية لاقامة مجتمع السلم هذا ؟.
ان العلاقة وثيقة ان اردنا التأمل الغير منحاز في هذه الفكرة القائلة بربط علاقة الرحمة الاجتماعية ببنية الايمان بالله سبحانه وبكتابه الكريم القرءان العظيم ، فيجب العلم واولا ان علاقة (( الرحمة )) علاقة أسس لها الاسلام - من خصوصيات الرؤية الاجتماعية الاسلامية - في بنيته الاجتماعية باعتبارها صفة اصيلة تمّيز البنيان الاسلامي الاجتماعي عن غيره من البنى الاجتماعية الاخرى سواء كانت مادية او اقتصادية او قومية او غير ذالك ، وعليه وبما ان الاسلام والقرءان رفع من علاقة الرحمة ليضع حجرها في بنيان الاجتماع الاسلامي ، فعلينا ادراك ان هذه العلاقة قائمة اساسا على قواعد واسس ورؤى الاطروحة الاسلامية التي تشكل اساس قيام هذا المجتمع ، وليس من المنطقي توقع حدوث وحركة علاقة الرحمة بين المجتمع مع انتفاء اساسها وقاعدتها الاساسية وهي الايمان بالله العظيم والرجوع والارتكاز والانطلاق من هذه القاعدة الالهية !.
بمعنى اخر : انه وعندما نقول ما الاساس الفكري والقاعدة الروحية والبنيان الاصيل للمجتمع الذي انتج حركة مجتمع متراحم في الاجتماع الاسلامي المطلوب رصده ؟.فعلينا ان ندرك ان هذه العلاقة لم تنزل من السماء على المجتمع الاسلامي الانساني بلا مبرر ، او هبطت مع الملائكة بلا اسباب ، وانما هي علاقة مؤسسة على بنيان وقائمة على ارض صلبة ، بدأت منذ التأسيس بمقولة الله سبحانه وتعالى :(( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم أذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها .../ قرءان عظيم )) فهنا نحن أمام منظومة فكرية متكاملة تبدأ من الانطلاقة الاولية في (( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا )) والاعتصام والالتزام الوجه الاخر من توحيد الرؤية وتوحيد التوجه وتوحيد الايمان وتوحيد البنيان الفكري والتشريعي والاجتماعي ، ولاتفرقوا وجه الجدارية الاخر في المنع من الايمان ببعض الفكرة والكتاب والكفر بالبعض الاخر ، فليس هناك حيز لترقيع المنهج المراد اقامته اجتماعيا لتتفرق الذهنية لتلتقط فكرة من هنا راسمالية واخرى من هناك قومية او ماركسية ، وأنما هناك أعتصام بحبل واحد هو حبل الله سبحانه ، والابتعاد عن الفرقة التي تتعدد فيها الحبال وتتفرق فيها السبل ، وعندئذ وبعد ان نحقق الاساس والبنية والقاعدة والايمان بتوحيد الانطلاقة الاجتماعية ، والاعتصام بوحدة المنطلق ، نصل الى مرحلة (( واذكروا نعمت الله عليكم اذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم )) وهذا الذكر هو عنوان الالتفات الى حفظ الدرس الاول وعدم نسيانه مطلقا ، درس التوحيد لله في عبادته والايمان برسالته ، فهو نعمة - نعمة الذكر - تستحق الحفاظ عليها بالشكر لله دوما ، وهي ذكرى تستحق الالتفات اليها دائما وعدم الارتداد الى الخلف والوقوع في حفرة ونار العداوة والبغضاء بين المجتمع الواحد ؟!
ان هذا الاساس الفكري الذي وضع قواعده لهذه الامة هو الله سبحانه وتعالى ، كما ان هذه الاسس التي شيدت اركان المجتمع المسلم قد بنيت من خلال هذه النافذة لتزرع بذرة علاقة (( الاخوة )) اولا وقبل علاقة الرحمة تلك ، ليصبح مجتمعنا متآخيا على قاعدة :(( فاصبحتم بنعمته أخوانا )) اي بنعمة الله والايمان بانه ربنا جميعا ، وانه بنيتنا الفكرية وقاعدتنا الاجتماعية ، وان الناس كلهم عيال الله سبحانه ، عندئذ تجذرت فكرة (( الاخوة )) بين المجتمع المسلم ، وعلى من يريد ان يؤمن بالله سبحانه وتعالى ان يؤمن بأوامره وتعاليمه ورسالته العظيمة ، بأن ينظر للاخر الانساني المجاور له في الاجتماع وفي الدين على اساس هذه الاخوة المنعم بها من قبل الله سبحانه على مجتمع الله سبحانه وتعالى ، أما من يريد ان ينظر للمجتمع الذي يعيش بين احضانه على اساس المصالح المشتركة او على اساس المنافع الرأسمالية المتبادلة او على اساس الطبقة المتقاربة او على اساس اللون الواحد او على اساس العنصر او اللغة او القومية ........ فكل هذا من شأنه ، لكنه لايقول بعد ذالك انه مؤمن بالله العظيم الكبير سبحانه !.
نعم الايمان بالله يعني الخضوع لأوامره ونواهيه والالتزام بطرحه وترقب دواعيه ، وان كنا نؤمن بالله فلنتبع الرسول والرسالة لنحقق صدق الايمان والالتزام بالتذكرة ومسايرة الطريق ، ولندرك ان مجتمعنا المسلم هو مؤسس على قاعدة الايمان بالله ورسوله ورسالته ، وقائم على علاقة الاخوة الاسلامية التي رسمها الله كنعمة ثانية بعد نعمة رفع العداوة والبغضاء من هذا المجتمع ، لتحل محلها رابطة (( الاخوة )) !.
في الادب الرسالي المحمدي صلى الله عليه واله وسلم ، أكد الرسول الاعظم محمد على فكرتي (( البنية )) في المجتمع ، و(( العلاقة )) بين هذا المجتمع المسالم ليقول وقوله الصدق :(( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسم بالحمى والسهر / البخاري ومسلم )) اي ان بنية المجتمع المسلم بنية واحدة مؤمنة في الاساس بأن العلاقة القائمة والمفروضة شرعا عليهم فيما بينهم والبين الاخر هي علاقة التواد والتراحم والتعاطف ، فلاريب ان اصيب هذا الجسد المتكامل بأي عارض خارجي فسوف يتداعى له سائر الجسد والاعضاء بالسهر والحمى ايضا ، أما ان كان العكس هو الظاهر في العلاقة الاجتماعية فعلينا عندئذ ان ندرك ان في المعادلة خلل ما يجب الالتفات له وبقوة كي يتسنى ارجاع ما انفقد فعلا من العلائق الاجتماعية الاسلامية الراقية ، ولاسيما علاقة الرحمة والحب والتعاطف الرسالية المحمدية هذه !.
وكذا في القرءان الكريم تأكيد متتالي على ان مجتمع الله سبحانه المسلم ، هو المجتمع الذي أسس بنيانه على تقوى من الله :(( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لايهدي القوم الظالمين / 109/ التوبة )) فهذا البنيان هو الاساس الذي شيدت عليه علاقة الاخوة الاجتماعية في قوله سبحانه :(( أنما المؤمنون أخوة ../ قرءان كريم )) والتي تفرعت منها علاقة الرحمة الاجتماعية في قوله سبحانه :(( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم .../ قرءان كريم )) وهي كذالك الاقنوم الذي صهر اتباع محمد رسول الله ص ليكونوا وبالفعل نواة التراحم في داخل هذا الجسد الاسلامي ونواة القوة لمن يراه من الخارج الاسلامي هذا !.
ولذالك فليس من المستغرب ان نقرأ ونرى في السيرة النبوية المحمدية العطرة ، ان اول عملية قام بها رسول الانسانية محمد صلى الله عليه واله الطيبين الطاهرين في مدينته المنورة ابّان التأسيس لاقامة المجتمع المسلم في المدينة هو عملية (( التآخي )) بين المهاجرين والانصار ، وقبل حتى ان يقيم شرعا او يؤسس بيتا او يرفع شأنا ، منطلقا في الاساس من بيت الله الكريم مسجد المدينة العظيم ، ليشير الرسول الاعظم الى ان اول حجرة ينبغي وضعها على اساس البنيان الاسلامي الاجتماعي هو حجر الاخوة في الاسلام!.
تمام : عند رؤية مجتمع تنتشر فيه القسوة بشدة ويتعامل بعضه مع البعض الاخر على اساس المصالح الرأسمالية او الاحقاد الطبقية او التمايزات القومية او العرقية ، وتسود فيه النظرة الذئبية وفكرة الفرصة واللامبالاة الاجتماعية ..... عند هذا يجب ان يكون لدينا يقين كامل وربما مطلق ان عقيدة هذا الشعب او الاجتماع او المجتمع بالله سبحانه وتعالى ولاسيما منها الاسلامية عقيدة فاسدة تماما ، لاختلاف الادعاء بين المقدمة والنتيجة ، فمن يؤمن لابد ان يتراحم ، ومن يكفر لابد ان يتنافر ، كقاعدة قرءانية اصيلة ، أما من يدعي الايمان ويعمل بما لايوافق المقدمة والنتيجة فهذا مدعي فحسب وليس له الا قوله سبحانه :(( يايها الذين آمنوا لم تقولون مالاتفعلون ، كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالاتفعلون / 2، 3 / الصف )) !.
ان العقيدة - من وجهة النظر القرءانية الاسلامية - هي البنيان التي تقيم العلاقة في فضاء المجتمع ، والعلائق الاجتماعية ماهي الا منعكسات طبيعية لعقيدة اي مجتمع ومايؤمن به من مبادئ وقيم يجب ان تسود وتتحرك ، وعندما يقال مجتمع مسلم - اي مؤمن بالله سبحانه كمرجعية وبنيه فكرية - ومع ذالك لاتتحرك فيه علائق الحب والتعاطف والاخوة والرحمة في فضاء سلوكياته الاجتماعية ، فان مثل هذا المجتمع لديه انفصام فكري وشخصي نكد يجب عليه الالتفات الى هذه الكارثة والتذكر لما هو اصدق واصلح واحسن قيلا ، وعلى المفكريين والواعين من هذا المجتمع ان ينبهوا هذا المجتمع على حقيقة ان هناك خلل عقدي في داخل الضمير الجمعي هو الذي انتج هذه الازدواجية بين الاقرار بالايمان بالله سبحانه والاسلام كأطار مجتمعي ، وبين علائق المجتمع التي تنم عن جاهلية سوداء تملي على الاجتماع قيمه ومبادئه واخلاقه وروابطه اللاأسلامية أصلا ، والغير منطلقة بالحتم من أساس الايمان بالله الرحمن الرحيم !.
وصحيح - في الجانب الاخر - بالامكان تفهم ان تقوم العلاقة النفعية بين المجتمع الراسمالي كرابطة اجتماعية طبيعية بنتها عقيدة الايمان بالراسمالية الاقتصادية في هذا الاجتماع الانساني او ذاك ، ولايحق لنا ان نطلب اكثر من العلاقة المصلحية تلك في مثل هذه المجتمعات الاقتصادية ليأتي القانون وينظم سير حركة الاجتماع على هذه القاعدة ، ولانفاجأ ان واجهنا ضمور ملفت للنظر في علاقة التراحم والتواصل بين هذا المجتمع القائم على المنفعة !.
وكذا بالامكان تفهم ان تقوم العلاقة العنصرية في مجتمع ارتضى لنفسه الفلسفة القومية التي تقوم على تقديس العنصر والرفع من صورته الاجتماعية ، ولانطلب عندئذ اكثر من علاقة تنبني على هذه المبادئ العنصرية الضيقة في مثل هذا الاجتماع المعقد ، ولانفاجأ ان لاحظنا سلوك وظواهر واخلاقيات القسوة والعداء والطرد للاخر الانساني ، باعتبار ان من طبيعة البنية الاجتماعية القومية التي آمن بها هذا المجتمع ان تنتج القسوة والعنف والتقوقع والانغلاق والانكفاء على الذات !.
وكذا الحال عندما نقرر تفهمنا لعلاقة تنشأ من خلال فلسفة الطبقة وبنية الاقتصاد ووسائل الانتاج ، فنحن هنا ليس بحاجة الى مبررات عندما تصادفنا علائق الحقد المتبادلة بين الناهب والمنهوب في المجتمع ، او عندما نلاحظ ظواهر التنافر والحسد والبغي في مجتمع تسوده مثل تلك الفلسفات القائمة عى تقسيم المجتمع الى فئات وطبقات مختلفة تتناحر في جدلية ديالكتيكية لتولد لنا قاتل ومقتول وسارق ومسروق .... في مجتمع العنف والقسوة والثورة ....الخ !.
لا .... لانستغرب كل ماتقدم من ظواهر تنشأ في مجتمعات تنسجم فيها القاعدة والبنية والمقدمة الايمانية الفكرية العقدية ، مع السلوك والنتيجة والظواهر والاخلاق الاجتماعية ، باعتبار ان الانسجام واضح وشفاف !.
لكن ما لانفهمه حقا ويتعسر علينا ادراك مخارجه ومداخله هو مقولة المجتمع المسلم المؤمن ، والذي يقول علنا انه يؤمن بالله وكتبه ورسله ودينه واسلامه وبمحمد عبده وصفيه ص ، ثم تبرز هذه الكتلة الغريبة العجيبة من الظواهر الاجتماعية الاخلاقية السلبية والتي تبدأ من العنف والقسوة والطرد وكره الاخر ........، حتى تصل للبغي فيما بين الحاكم والمحكوم ، والبغض فيما بين الاخ وأخيه ، واللعن فيما بين الجار وجاره !.
فهل عندئذ بالامكان تفهم مثل هذه المعادلة المعقدة ؟.
معادلة تقوم على ان الايمان بالله وبرسوله وبدينه وبطاعة اوامر الله ورسوله ، كبنية للمجتمع ، حتما ستلد علاقات اجتماعية تتحرك فيها الاخوة الاجتماعية والرحمة والحب والعطف ... وباقي عناوين الجسد الواحد !.
وبين معادلة تعكس المعادلة لنجد ان الاعلان يقول بالايمان ، لكن العلائق والسلوك والظواهر الاجتماعية تنفي اي صلة بين ذاك الايمان المقدمة وهذه الظواهر النتيجة ؟!.
عندئذ اين المفارقة تكمن ؟.
واين الخلل ينام ؟.
ولماذا هذا الازدواج والتنافر في المعادلة الواحدة ؟.
الحقيقة يبدو ان المشكلة تتبلور في كون الذين اوصلوا احكام الايمان بالله ودينه الاسلامي العظيم لهذا المجتمع المسلم من علماء ومفكرين ومثقفين واساتذة ، اوصلو هذه الفكرة والمنهج بشكل مشوه وناقص لهذه الامة المجتمع ، ولم يفلحوا اؤلئك الاباء الفكريون بفهم الاسلام على اساس انه مجتمعي النشأة ، لذالك نرى افراد هذا الاجتماع الاسلامي مع انهم شديدي التمسك ببعض الكتاب واوامره كالصلاة - مثلا - الا انهم غير معيري اي اهتمام للجانب الاجتماعي في الاسلام ، او للبعض الاخر من الكتاب ، فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه ، ولذالك كان من السهل على اي مسلم ان يجمع بين اقامة شعائر الصلاة المقدسة ولكنه وبنفس اللحظة يحمل كرها وبغضا لجميع البشر في هذا العالم الانساني الكبير والاسلامي الصغير!.
او ان الفرد المسلم يحج لبيت الله سبعين سنة ، وبنفس القوة والعزم لديه الامكانية بسفك دماء الف نبي وصالح من هذه الامة ، وبلا ادنى اشكالية او وخز ضمير يذكر لهذا الفرد المسلم ، باعتبار انه لااشكالية واقعية او بنيوية او ايمانية بين الاسلام والايمان الذي يفهمه كمسلم من جهة وبين فصل وقطع هذا الايمان من الحياة الاجتماعية والمجتمعية هذه ؟!.
نعم عندما يدرك اي فرد منا ونحن نعيش بين احضان الاجتماع الاسلامي ، ان الايمان بالله كل لايتجزأ ، وانه هندسة معمارية لبناء المجتمع ، وان هذا المجتمع بنيته الاساسية هي الايمان والطاعة لأوامر الله سبحانه ورسوله ، وان علائقنا الاجتماعية من الاخوة التي ربطها الله سبحانه بعقد العقيدة الاسلامية هي ترتقي الى منزلة الاخوة التي يربطها الدم بلا فرق ، وبأن علاقة التراحم والتواد والتعاطف البينية (( رحماء بينهم )) فيما بين المسلم واخيه وجاره وصديقه وزبونه في السوق وصاحب الشرطة من الامن ......،لاتقل اهمية عن اقامة صلاة او اخراج زكاة او حج لبيت الله الحرام باعتبار ان الامر الالهي واحد بهذا الصدد والفرق هو بين الامر الجماعي والاخر الفردي ، بل وربما ترتقي العلاقة المجتمعية انها الوثيقة الحقيقية لصدق ايمان اي مسلم منا عندما يظهر سلوكه الاجتماعي الايمان او عدم الايمان ....الخ .
عندئذ بالامكان القول ان الفرد المسلم وصل الى رؤية متكاملة عن اسلامه ودينه تبدأ من رؤيته لبنيته الاجتماعية ، ليصل الى فهم الكيفية التي تتشكل فيها علاقته الاجتماعية مع الاخر الاسلامي وغير الاسلامي ، لينتهي عند التفنن المبدع في صياغة ظواهره الاجتماعية الصحية واللائقة بالمجتمع الاسلامي المسالم والمسلم ايضا ، ولانعد بحاجة بعد ذالك ان ندخل في متاهات الايمان بمقدمة تخالفها بالتمام نتيجة مغايرة ، او نذهل لقولنا اننا مؤمنون ولكن ماهو ظاهر من علائق المجتمع غير ذالك !.
نحن بحاجة الى أذن واعية تفهم وتدرك اسلامها ، والى التزام واعتصام بحبل الله ، وتذكير دائم بنعم الله علينا ، لنأمر بالمعروف ونترك الرديئ ونساهم في بناء الايمان من جديد ، وندرك وبالمطلق هذه المرة : ان الرحمة بين المجتمع هي الدليل العملي الاجتماعي على الايمان بالله العلي العظيم ، وان القسوة بين هذا المجتمع هو الدليل على فساد المجتمع وسوء بنيانه والضلال عن طريق الله القويم .!
02/04/2008م