بقلم : حميد الشاكر )
1 :- ياعلي : عليك بالصدق ولاتحرج من فيك كذبة أبدا ، ولاتجترئن على خيانة أبدا / وصية من محمد رسول الله لعلي بن ابي طالب .
2 :- لأنه ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله ، وخسر نفسه / الاصحاح 16/ اية 26/ أنجيل متى / عن السيد المسيح .
****************
عندما كنت في بدايات عمري الثقافية وانا لم أزل بعد شغوفا لمعرفة الاساس الذي ينبغي ان أؤسس عليه مداركي الثقافية والعلمية ، كنت من الذين يسألون عن المصادر التي ينبغي على كل مثقف وسياسي وكاتب قراءتها ، وجعلها الاساس والبنيان والقواعد لمنطلقاتي الفكرية والسياسية والثقافية والعلمية والعقدية ، وكان الكثير من الكتب قد رشحت الى ذهني المتواضع للنهل من مواردها العلمية ، وكل حسب مجاله المختلف عن الاخر بين ماهو عقدي وآخر فلسفي وثالث اقتصادي ورابع سياسي واجتماعي ونفسي ايضا ، واتذكر كان أول كتاب رشح لي لقراءته باعتباره اصل وقاعدة ومنطلق وأساس للفكر السياسي ، هو كتاب (( الامير )) لمكيافلي !.
وبالفعل شرعت في قراءة اجزاء يسيرة من الكتاب ، ولكنّ وفي اثناء القراءة والاطلاع كان هناك هاجس او فطرة او شيئ ما في دواخلي الابتدائية تدفعني للصد عن هذه البداية من تكوين فكري السياسي ، بل وتلح عليّ هذه الفطرة المزعجة حقا في داخلي لاعادة النظر جديا في البداية التي ينبغي ان تكون صحيحة ومدخل جيد للفكر السياسي الذي يؤسس لي شخصيتي الفكرية السياسية القويمة ، ويبني لي البنيان الذي ينسجم مع علم السياسة الصحيح اولا ، والذي يؤسس لمنظومتي الفكرية السياسية ثانيا ؟!.
وشرعت من جديد بالسؤال عن شيئ آخر غير هذا الكتاب وذاك المؤلف (( الامير لمكيافلي )) ، ولكنني اينما توجهت في داخل مجتمعي العراقي لااجد احد يعرف كتابا لفهم وعلم السياسة غير هذا الكتاب ، وكأنما هناك أما اجماع على هذا المصدر ؟.
أو ان هناك عمى فكري او غيبوبة ثقافية او افتقار معرفي في داخل هذا المجتمع الذي لم يقرأ او يدرك او يطلع على شيئ آخرفي الفكر السياسي او المعرفة او العلم بعالم السياسة غير هذا المصدر ؟.
وبعد سنين متطاولة من المعرفة والبحث ، وسنين اخرى بنت النضوج والعقل والتجربة ، رجعت الى تلك اللحظات الاولى من بناء مداركي الفكرية لأتساءل هذه المرة ولكن بشكل مختلف عن حقبة الشباب والمراهقة الفكرية ، وأنا أقف أمام تأريخي الشخصي الغير مهم اجتماعيا او ملفت للنظر على الاطلاق الا لنفسي فحسب لأقول : لماذا كان وربما لم يزل فكر ميكيافلي السياسي هو المسيطر على علم وفهم السياسة في الذهنية الثقافية العربية بالعموم و العراقية لعالم السياسة بالخصوص ؟.
ومن هي الجهة او المؤسسة الفكرية او السياسية او الثقافية التي روجت لهذا الفكر في داخل الاجتماع الثقافي العراقي ؟.
ولماذا كان ينظر الكثير ممن التقيتهم على الاقل باحترام واعجاب لفكر وكتاب هو اصلا منتج من زمن العصور الوسطى المليئة بالوسخ السياسي والدسائس والكذب والمؤامرات الغير انسانية ؟.
هل الحقبة التي ولدت وترعرت انا فيها هي وليدة فكر وسلوك سياسي هي قريبة لما فهمه مكيافلي من فكر السياسة ، فلذالك انتشرت الثقافة هذه لوجود الحاجة والطلب عليها كسلعة فكرية ؟.
أم ان الموضوعة بالعكس وان الفكر المكيافلي هو الذي بنى ثقافتنا السياسية العربية ومن ثم العراقية ، لذالك جاء السلوك السياسي المجتمعي العراقي كنتيجة لمقدمة الايمان بالمكيافليه السياسية ؟.
أسألة لم أكن فيما مضى من حياتي الثقافية احمل القدرة على طرحها وانا في بدايات عمري الفكرية والثقافية باحثا عن المرشد الى الطريق القويم لفهم عالم وعلم السياسة هذا ، وأما اليوم فالمسألة مختلفة بينما كنت انا الباحث عن الطريق المبتدأ ، وبينما اكون انا الباحث ايضا عن الطريق ولكن مع قدرة البحث الذاتية والمقارنه الفكرية !.
اليوم اتسأل عن الماضي بأسسه وقواعده ومنطلقاته الفكرية السياسية التي رواسبها لم تزل عالقة في دواخل كل احد منا وربما من حيث لانشعر اصلا ، عن البنى الفكرية لكل الجيل الذي قرأ وفهم واعجب وتبنى وآمن بالفكر السياسي المكيافلي ، ومن ثم ليفهم اللعبة السياسية بهذه الطريقة فحسب لأقول لنفسي ولهم : لماذا نؤمن او نرى عالم السياسة من نافذة الفلسفة الميكيافلية هذه ؟.
واين نحن من علم وفهم وعالم السياسة النظيف الذي يطرح العلم السياسي من جانبه الاخلاقي الاسلامي الاداري الصحيح ؟.
هل لعلي بن ابي طالب عليه السلام - مثلا - رؤية سياسية وفهم واقعي لفن السياسة هذا يرقى بل وربما يتفوق في نظرته على نظرة مكيافلي او غيره من مفكري السياسة في هذا العالم البشري ؟.
وأذا كان للفكر الاسلامي رؤية سياسية أو لأي فكر اخر ينظر للعبة السياسية على اساسها الاخلاقي والاداري والفني ..، بشكل مختلف عن رؤية الدسائس والكذب والمؤامرات والوساخة تلك ، فلماذا لانأخذ بوجهة النظر الاخرى التي تدرك عالم السياسة بشكل مختلف عن عالم المؤامرة وباقي الرديئات ؟.
هل بسبب ان عالم السياسة له قانون واحد فحسب هو الكذب والذكاء والشيطنة والمؤامرة ... وباقي الموبقات ، لذالك فمن المستحيل تركيب الاطار السياسي على صورة الصدق والخدمة والمصالح ... وكل ماهو نافع واخلاقي ؟.
أم ان الاطار السياسي الذي يبنيه هو الانسان وصلاحه ، وكلما كان الانسان صالحا ومؤمنا بفن السياسة الاخلاقي ، تكن الصورة على حسب مايؤمن به الاجتماع ويتبناه الساسة فحسب ، وعندئذ بامكاننا ان نفهم وندرك ونتعلم فن السياسة بعيدا عن الخيانة والكذب أو المؤامرة والانقلابات الدموية ومخادع الامراء وارباب الترف ؟.
اتذكر انه قرأت مرة حديثا او رؤية لمحمد رسول الله ص في كثير من جوانبها الثقافية سياسة تقول : (( كيفما تكونوا يولى عليكم )) ومن هذه الرؤية تبادر الى ذهني هذا السؤال القائل : هل المجتمع هو الذي يبني الاطار السياسي لادارة المجتمع ، وعندما يكون المجتمع اخلاقيا نظيفا فلابد ان يكون رأس الهرم السياسي كذالك ؟.
أم ان الهرم السياسي هو الذي يخلق الرؤية السياسية للمجتمع ، ليكون الناس على اديان ملوكهم ؟.
هي جدلية قائمة الا ان رسول الانسانية والسماء محمد العظيم ص يرى ان العلم السياسي صياغة بشرية وليس قانون كوني او اجتماعي حتمي يفرض على الناس جبرا وكقدر لايمكن تغييره !.
وعليه يبدو ان ليس هناك للعلم السياسي قانون يحتم وجهة نظر واحدة وقانون صارم يضطرنا للاخذ برؤية قانون الرذيلة والكذب لعلم السياسة ، بل بالامكان فهم وممارسة السياسة من خلال جوانبها الاخلاقية وبارقى ربما صورها العبادية لله سبحانه وتعالى !.
هل الصدق عدوا للسياسة ؟.
سؤال راودني كثيرا فيما مضى حتى اليوم ، وربما هو الذي جعلني انظر لكتاب السياسة الاول (( الامير )) بعين الريبة والشك والدوافع من وراء الترويج له على اساس انه المخزن الواقعي لفن السياسة البشرية !.
في الغرب اليوم ، الغربيون يسوسون بلدانهم بوجهتي نظر مختلفة ، الاولى داخلية ، ويعتبر فيها الصدق والامانة والتفاني بالخدمة الاجتماعية من اقدس المقدسات في فن السياسة الداخلية ، ووجهة نظر خارجية يعتمد فيها الساسة الغربيون على المصالح والمنافع والمؤامرات والدسائس لاضعاف اعدائهم والتقرب من اصدقائهم !.
واي اختلاف في المعادلة السياسية يعتبر اليوم ضرب من الانتحار السياسي في الغرب ، فالكذب ممنوع من قبل الساسة الغربيون على شعوبهم ، وان اضطروا لذالك فخفية وبلا ادنى ارتياح نفسي باعتبار ان الصدق سياسة والكذب سياسة ايضا الا انها مجرمة قانونيا ، وكذا خيانة الامانة او اعتماد المؤامرة او تزوير الصدق او اللعب على ذكاء الشعب ، فكل ذالك يعتبر وعرفا من اخطر الممارسات في العالم الغربي السياسي الداخلي التي ربما تطيح بمستقبل اي سياسي في الغرب يتطلع لما هو اعلى ، بل واخر مايفكر فيه اي سياسي غربي تجاه شعبه هو ان يحتقر من ذكائه او يكذب عليه او يزيف من مصداقية الصدق لديه !.
فهل كان ميكيافلي غربيا عندئذ ؟.
واذا كان مفكرا سياسيا في الغرب وان الانسان الغربي نفسه يؤمن بعبقرية ميكيافلي السياسية ، فلماذا لم نرى اثرا لفكر مكيافلي السياسي ممارسا اليوم في العالم الغربي داخليا ، بل ونرى ادانه سياسية من خلال الممارسة الغربية السياسية الطبيعية ، تجرّم من ممارسة الفكر المكيافلي السياسي الذي يرى فن السياسة على اساس انه كذب ومؤامرة واحقاد وتدافن ؟.
هل لان الفكر السياسي المكيافلي هو وليد قرون وسطى كنسية وسخة لذالك تجاوز العالم الغربي الحديث وساخة الفكر السياسي هذا ؟.
أم انه لم تزل فلسفة مكيافلي السياسية جارية حتى اليوم في العالم الغربي ولكن بشيئ من الخفاء والتقية من الشعب في الداخل فحسب ؟.
الحقيقة حتى لو كان فكر السياسة المكيافلية حاضرا اليوم في العالم الغربي السياسي ، فمجرد كونه بالخفية يدلل على ان هذا الفكر السياسي المكيافلي هو وفي حقيقته عار على فن السياسة الادارية ، ولا يلجأ اليه الا المنحرفون اخلاقيا والعاجزون فكريا سياسيا عن الوصول لتأييد الاجتماع السياسي بالطرق الصحيحة والواضحة مع طلعة الشمس ، وعليه يكون الصدق والاخلاقية السياسية اكثر نفعا في عالم السياسة من فن الخداع والكذب السياسية هنا !.
بمعنى ان هناك واهمون كثر في فهم فن السياسة ، وما اعتباراتهم ان قانون السياسة هو الكذب والخداع والرذيلة والانحراف ...، الا اعتبارات مزيفة ، بدليل ان الصدق في فن السياسة اطول عمرا واكثر تاثيرا واشمل منفعة وارخى حبلا ، وليس هناك في الواقع قانون لعالم السياسة اصلا ليكون الكذب اسطوانه هذا القانون الوهمي على الحقيقة !.
نعم منذ خلقت الخليقة وهناك صراع سياسي بين وجهتي نظر سياسية ترى في فن السياسة علم ادارة الاجتماع والحياة ، على أسس وباساليب مختلفة ومتضاربة وهي :
الاولى : مثلها الصالحون والانبياء والرسل والقياديون والائمة والناس الحالمون ، ينتهجون فيها الصدق والامانة والحب والخدمة والمصارحة والمكاشفة .....، مع الشعب والامة !.
والثانية : مثلها الكذابون والمنافقون والمنتفعون والعاجزون والغير موهوبين والجهلة والحمقى والقاتلون ، ينتهجون فيها فن الكذب وادارة الازمات ، وفلسفة القوة ، ولعبة الرعب ، وتحريك المنافع واغراء المصالح ، واستثمار اللحظة وفلسفة الفرص وانتاج الام الانسان ، واغراء العداوة وحكمة التفرقة ............الخ ، في ادارة المجتمع والدولة !.
ولكن الغريب العجيب في المعادلة ان الجهة الثانية التي ترى فلسفة الخداع والقوة لعلم السياسة وفهمها ، ومع ان دولتهم الزمنية الدنيوية طويلة وممتدة تاريخيا ، الا انهم مع ذالك من احقر الجهات التي تلاحقها لعنات الشعوب ومنذ فجر التاريخ وحتى اليوم !.
وهذا بعكس من يؤمنون بصدق السياسة ووجوب نظافتها ، فانهم ومع انهم الاقصر عمرا زمنيا في هذه الحياة الا انهم بقوا في ذاكرة البشرية على اساس انهم الاقدس والاشرف والاطهر حقبا سياسية تاريخيا في هذا الوجود ؟.
انها لصورة جدّ غريبة : ان يكون حبل الصدق السياسي اطول بكثير من حبل الكذب السياسي الاخر !.
ولكن لماذا قيل : مشكلة السياسة الكذب ، ومشكلة الكذب ان حبله قصير ؟.
يبدو انه قيل ذالك بسبب ان من يتشدقون بان علم السياسة هو فن الكذب ، يرون انهم يكذبون الكذبة فيصدقها الناس وماهي الا برهة من الوقت حتى تنكشف اللعبة فيضطر الكذابون الى استخدام سياسة القوة فيما بعد لملئ فراغ الصدق الذي انفقد ، لهذا قيل ان حبل الكذب قصير !.
ويبدو هنا ان من يؤمن بان فن السياسة هو الكذب حاله هو اغرب من الكذب نفسه الذي يستخدمه في سياسته الفاشلة !.
نعم اذا ادركنا ان قانون الكذب حبله قصير فلماذا نكذب اصلا ؟.
واذا ادركنا ان قانون وسياسة الصدق حبلها طويل ومريح فلماذا لا نصدق دائما في سياستنا المطلوبة ؟.
هل في الصدق مشكلة مع السياسي الكاذب ؟.
وهل في الكذب مشكلة مع السياسي الصادق ؟.
صحيح هناك منطق في المعادلة ، السياسي الصادق سياسي عاقل مفكر موهوب ، ينظر الى البعيد جدا ويبني على اساس وبنيان صلب ، أما السياسي الكاذب فهو متخلف جاهل احمق مغمور ، لايملك مايؤهله لان يكون شيئا يذكر الا كذبه ونفاقه ، ولذالك هو يسد من عجزه الشخصي والذاتي بكذبه ودسائسه للوصول الى الاهداف السياسية الكبيرة ، ومع ذالك ايضا فان هذا السياسي الكاذب نفسه هو اكبر دليل على ان سياسة الصدق هي السياسة الواقعية الحقيقية لادارة الاوطان والانسان ايضا ؟.
السياسي الكاذب يتظاهر بالصدق ويرفع الشعار ويدعوا للفضيلة ، ويمارس كل مامن شأن السياسي الصادق ، لا لشيئ الا لان هذا الكذاّب السياسي يدرك ان لسياسة الصدق وان كان يتظاهر بها فن جذب القلوب والعقول من قبل الناس جميعا ، فهو لذالك مقتنص فرصة قبول السذج بدجله حتى الوصول الى الغاية لينتهي حبل الكذب ويبدأ حبل سياسة العنف والقوة ، باعتبار ان السياسي الكذاب عدوه الحقيقي الصدق في السياسة ، ولاتعايش يذكر بين كذب وصدق داخل انسان واحد فيكون حبل الود قصيرا بين الكذب والصدق هذا !.
والعكس صحيح ايضا في الصدق السياسي وعدم قبول التعايش مع الكذب السياسي ، فالصدق واحد الوجهة واحد الوجه وواحد الاتجاه ، وله وحدة الظاهر والباطن ، فحبله اطول ومسيرته غير مضطربة ، فسياسة الصدق لامشكلة فيها لا في الممارسة ولا مع حبلها الطويل والممدود الاثر الطيب ، اما السياسة التي ارادنا الفاسدون فهمها على اساس انها السياسة الوحيدة في هذا العالم ،فهي سياسة الكذب والذي حبلها اقصر من عمرها بكثير !.
ان مكيافلي عار اليوم في السياسة الغربية الا انه بطل في السياسة الغير غربية ؟.
ان الكذب ليس سياسة بل فن تدمير الحياة ، بينما الصدق مضافا لكونه سياسة هو دين !.
ان الصدق في السياسة مثمر ، والكذب في السياسة ممحق !.
ان قوة الصدق فيه ، وقوة الكذب من خارجه !.
انتهت الرحلة وبقي الحلم وبقت سياسة الكذب هي الاقوى في الحياة والاضعف داخل الانسان !.
10/04/2008م