الأربعاء، يناير 28، 2009

الصورة العربية كما يطرحها العقل الاسلامي ؟-6


حميد الشاكر
(( اننا في حاجة الى علم اجتماع خاص بنا ))
(( يستمد اطاره من تراثنا الاجتماعي ويستند ))
(( على دراسة واقعنا ....../ د:علي الوردي / منطق ابن خلدون ))......
....................(1)
علم الاجتماع :-
أ:- يتعامل الكثير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة ..، مع المنظومة الاجتماعية الانسانية برؤى فكرية وآليات علمية ، ومنظورات فنية ، مختلفة الاساليب ، ومتنوعة الاتجاهات المدرسية الفكرية والفلسفية والاجتماعية ، مما ينتج وبصورة طبيعية لاختلاف هذه الاساليب والاتجاهات في تناول المنظومة الاجتماعية بالدرس والبحث ومن ثم بالتحليل ، اختلاف النتائج والاستنتاجات والرؤى لهذه المنظومة وماهية تعريفها وكيفية تشكلها ، ونوعية انماطها الفكرية ، ولماذية تناشز سلوكياتها هنا ، وأء تلافها هناك .......الخ ؟.
والحقيقة وبعد التخصصات العلمية للحضارة الحديثة تبلور لدينا علما هو ليس بالقديم كقدم الفلسفة او علم الكلام او الطب ....، وانما هو علم انطلق مع مخاض الحضارة العلمية الصناعية الجديدة في العالم الانساني ، ليطلق عليه اسم ( علم الاجتماع - سوسيولوجي-) ليتخصص بعد هذا بالشؤون المتصله بصورة مباشرة بظواهرالمنظومة الاجتماعية ، وليدرس من ثم الابعاد المادية والفكرية والمعنوية .. للظواهر الاجتماعية ، وليخلق من هذه البحوث والدراسات والرصد ، أسس وركائز وقوانين هذا المعلم العلمي ؟.
وربما كان الحق مع من يرى ان ركائز واسس علم الاجتماع الانساني ، ترتد وترجع باصولها الفكرية والعلمية الى تاريخ ابعد من تاريخ الثورة الصناعية الحديثة وتشكيل العالم المعاصر ، وذالك من خلال ما أسس له واقام اركانه ، ووضع لمساته ورموز شفراته ، المفكر والمؤرخ العربي الاصل البربري المنشأ ابو زيد عبد الرحمن بن خلدون ( 732هجرية / المولد ) .
وهناك من يرى غير ذالك في موضوعة التأسيس لعلم الاجتماع ، ولكن وعلى اي حال ، ظهر لدينا اليوم علما يختص بدراسة الهيئة او المنظومة الاجتماعية كبناء او هيكل له قوانينه وظواهره التي تخضع للعملية العلمية بالدراسة والبحث .
ب:- ان موضوع علم الاجتماع ، ومحاور دراساته وبحوثه بالامكان اختصارها بصورة او اطار ( دراسة الظواهر الاجتماعية ) وهذه الظواهر والتي تنشأ من التفاعل بين نشاط الافراد والجماعات ربما تكون لغوية او تشريعية او أخلاقية او دينية او اقتصادية او سياسية او جمالية ..........الخ ، حسب تنوع الظواهر الاجتماعية بطبيعتها الانسانية ، ومن خلال دراسة هذه الظواهر الاجتماعية نصل الى القوانين التي تتحكم بحركة المجتمع ( ديناميك ) او الى النظم الثابته لهيكلية المجتمع ( استاتيك ) ومن هذا فاننا نستطيع ومن خلال علم الاجتماع وادراك قوانينه واليات تحريكه .... ان نستعجل التقدم الاجتماعي او نهيئ له المقدمات و نلطف ازمات الاجتماع الانساني بتوفير الظروف الملائمة ، كما ويمكنّنا هذا العلم من رصد الظواهر السلبية في المجتمع والعلل المرضية التي تنشأ بالعرض ، لمعالجتها وبحث جذورها واسبابها الاساسية ؟.
.....................................................
............................................................................................(2)
علم الاجتماع .. اسلاميا :-
الحقيقة ان الاطروحة الاسلامية ليست مدرسة اجتماعية بالمعنى التخصصي لعلم الاجتماع ، فهي لم تستخدم المصطلحات العلمية لعلم الاجتماع كما انها ليست مدرسة فلسفية ، او طبية او طبيعية او فلكية ... ، ولكن وبما ان اي ايدلوجيا مدرسية هي بحاجة ماسة لتعيين وجهة نظرها في الكون وما بعده والعالم وما تحته ، والانسان وما حوله ..... ، وخاصة منه التاريخي او الاجتماعي ، تحتم على المدرسة الاسلامية ان تتناول الاهم فالاهم بالبحث والدرس ، وبما يتصل و بقوة بمشروعها الانساني الاصلاحي على هذه الارض ، وحينئذ طرحت المدرسة الاسلامية وجهة نظرها الاجتماعية والتاريخية والنفسية والفكرية والسياسية والاقتصادية .....، باعتبار انها مدرسة ( او جامعة علمية ) تستهدف انشاء واصلاح وتكامل انسانية ، ومن الضروري في هذا المنعطف من تناول الهيئة ا والمنظمة الاجتماعية وما يتعلق بها من ظواهر وقوانين وعلائق توضح وتعّرف وتفسّر وتشرح ...، هذا الوجود الاجتماعي وتلك الظواهر ، وكيفية ثباتها وتغير عملية الحركة فيها ؟.
ان من اهم ما تناولته الرؤية الاسلامية على الصعيد الاجتماعي وبشيئ من الاختصار هو المحاور والاسئلة التالية : ماهو المجتمع ؟. وهل الانسان اجتماعي بالطبع ؟. وماتلك الطبيعة الاجتماعية ؟. هل هي طبيعة مادية ام نفسية فطرية ؟. هل يصح القول باصالة الفرد وما المجتمع الا امر انتزاعي ؟. أم ان الامر بالعكس وان المجتمع هو الاصل والفرد معنى انتزاعي ؟. ام ان الامر لاهذا ولاذاك بل ان الرؤية الاسلامية تذهب الى الاصالة المزدوجة للفرد والمجتمع ؟.
ماذا يعني القانون للمجتمع ؟. وماهي التقسيمات الاولية للمجتمع طبقيا ؟. وهل للفرد حيز من نوع التحررامام جبرية المجتمع ؟. ام ان للمجتمع سلطة مطلقة على الكيان الفردي ؟.
ماهي القوانين المتحركة او الساكنه للهيكل الاجتماعي ؟. وهل عملية التغير الاجتماعي عملية من ضمن الاطر القانونية المتحركة للمنظومة الاجتماعية ؟. لماذا ومتى ينهار الهيكل الاجتماعي ؟. ...............الخ ؟.
ان كل هذه المحاور الاجتماعية وغيرها قد تناولها الطرح الاسلامي بالبحث والدرس والرصد ، ليكوّن من ثمه رؤية اجتماعية خاصة به وبنظرته الاجتماعية ، والتي تتميز بانها تدرس الظاهرة وتعطي الجذور النفسية او المادية لها ، وتميز ماهو قانون وسنة منها وما هو عرضي وغير ثابت ، بالاضافة الى اعطاء المعالجة لهذه الظاهرة الاجتماعية او تلك حسب رؤيتها الاسلامية ؟.
وعليه كان لنا الحق ان نقول ان لدينا طرحا اجتماعيا اسلاميا له توجهاته الفكرية الخاصة في تفسير وشرح المنظومة الاجتماعية ، وما يتحرك داخل اطارها باسم (الظواهر الاجتماعي ) سواء كانت سلوكية فردية او مركبات اسرية ، او منتوجات اجتماعية ؟.
..................................................
.........................................................................................(3)
علم الاجتماع :- عربيا .
بعد المحاولة التاسيسية لعلم الاجتماع الخلدوني العربي ، لم تكن هناك اي ملاحقة واقعية لتطوير هذا العلم ، ومتابعه اهدافه عربيا ، فبقى علما يتيما يبحث عن اليد التي تزيح التراب من على وجهه ليشغل حيزه المهم ضمن العلوم الانسانية ، وسبب هذه القطيعة والاهمال لعلم الاجتماع الخلدوني واضح ، فابن خلدون اتي في مرحلة الافول الحضاري للحضارة الاسلامية العربية ، وانتقالها تدريجيا للعالم الغربي الاخر ( 1406/ ميلادية ) بالاضافة الى تحول الخلافة العربية من النموذج العربي الى النموذج العثماني من الداخل وغزو تيمور لنك من الخارج (1401/ ميلادية ) مما جعل علم الاجتماع الخلدوني ياتي متاخرا جدا لعصر النهضة العربية الاسلامية والتي كانت ستوفر الكثير من الاهتمام لهذا العلم الاجتماعي الخلدوني ابان نهضتها ، ولكن ومع الاسف كان الحال اسوأ مما يأمله الانسان ؟.
وعلى العموم استطاع ابن خلدون رغم ظروفه الاجتماعية والسياسية والنفسية السيئة ان يضع اللمسات الاولى لعلم اجتماع عربي واقعي يرصد الظاهرة الاجتماعية بشكل علمي ودقيق ويضع لها الاسس والقوانين التي تبلور حركتها وتبوبها من مجرد ظاهرة الى مستوى علم بالامكان وضع الاسس ودراسة المضمون علميا ؟.
ولكن ومع هذه العبقرية الخلدونية في تأسيس علم للاجتماع الانساني (العربي بالخصوص ) ، لايمكننا ان ننظر الى عبقرية هذا الرجل الا على اساسها الواقعي وحيزها الزماني الضيق وما تؤثره الزمانية والجغرافية المكانية والاجتماعية ، على تفكير ابن خلدون واستنتاجاته الاجتماعية ، فابن خلدون مؤسس علم اجتماع لاشك في ذالك ، ولكن ورغم عبقرية التأسيس تلك لايمكننا ان نجزم بانه المفكر الذي استطاع ان يلتزم بمقررات التاسيس العلمية لعلم الاجتماع الخلدوني نفسه ، ولذالك جاءت معظم تحليلاته الاجتماعية ركيكة جدا وخاضعة بشكل كبير للمؤثرات السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها ابن خلدون سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، والتي فرضت عليه نوعا خاصا من الرؤية الاجتماعية القاصرة مرة والمنحازة سياسيا مرة اخرى .......الخ ، وكل ذالك كان على حساب الدرس والبحث الواقعي في علم الاجتماع الذي دعى للالتفات اليه ودراسته بصورة علمية ، فكان تناوله للظواهر الاجتماعية العربية قاصرا من جهة ومتاثرا بالوضع السياسي المنهار للمجتمع العربي من جهة اخرى ، بالاضافة للأنحياز السياسي الملموس للعنصر غير العربي والذي كان في طور التكوين والدفع للحضارة العربية واخذ مواقعها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ...الخ .
نعم درس ابن خلدون بعد ان وضع الاسس لعلم اجتماع عربي الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفنية ....، العربية مركزا على البعد القبلي للمجتمع العربي ، وما يحمله هذا البعد من قصور وضيفي في اقامة الحضارة وبناء العمران ، ليعمم من ثم ابن خلدون استنتاجاته الساذجة على النموذج العربي ككل ، وبدون اي تأمل وربما بتأمل مقصود للمغالطات التي اسست نظرته الاجتماعية للمجتمع العربي بظواهره السياسية والاقتصادية والفكرية والفنية .... ، ليخرج بنتائج محدودة بحدود ما كان يعانيه ابن خلدون نفسه من صراع قبلي قائم في زمنه وتكالب على السلطة في المغرب وافريقيا والاندلس بصورة عامة و بصور بربرية وهمجية واعرابية، ومن هذا الواقع أسس - مع الاسف - ابن خلدون نظرته الى العنصر العربي بصورة عامة ولتكون استنتاجاته - وهو المؤرخ الكبير - استنتاجات مفتقرة الى ابسط القواعد والموازين المعتدلة فكريا والغير متحيزا عقائديا او مّليا ، ففي معرض التقييم العام للانسان العربي - مثلا - نجد ابن خلدون وتحت عنوان ( في ان العرب لايتغلبون الا على البسائط / الفصل الخامس والعشرون ) يرجع هذه الظاهرة الاجتماعية العربية ، الى عدم قدرة العرب على ركوب الاخطار والفرار من المزاحفة ،او القدرة على اقتحام المعاقل المستصعبة واستسهال ما كان منها غير محميا ....الخ ، وهذا يمثل اغرب مافي التحليل العلمي للظواهر التاريخية او الاجتماعية ، فالمفروض وحسب مايقدمه ابن خلدون نفسه من الشجاعة والبسالة وتغلب الامم الوحشية على باقي الامم الحضرية ومايضعه من سمات الاقتحام الحربي للامم البدوية ...، ان يكون الانسان العربي هو الاقدر على اخضاع الامم المستصعبة والمجتمعات الحضرية المعقدة - حسب راي ابن خلدون - ولكننا نجد الاستنتاج المنقلب لابن خلدون في هذا المنعطف المعرفي ، وربما كانت نظرة ابن خلدون للمجتمع العربي منحصرة بالقبائل البدوية التي ساهمت بالفتوحات الاسلامية مسبقا والذي استخدمتها الخلافة الاسلامية في المدينة او الكوفة او الشام او بغداد كوقود حرب تتخلص من خلال هذه الحرب من التواجد القبلي وخطرهم على الدولة من جهة ، وتستغل طاقاتهم القتالية المعروفة بهذه الفتوحات الاسلامية الاستعمارية من جهة اخرى كما كان يرى علي بن ابي طالب بشأن العرب :( واستدر الرحى بالعرب واصلهم دونك نار الحرب فانك ان شخصت من هذه الارض _ استشارته لعمر - انتقضت عليك العرب من اطرافها واقطارها ) وهذه هي الحال واقعا والا مامعنى ان يقرر ابن خلدون العجز العربي عن التغلب مع ادراكه ان من غلب واخضع الامم المستصعبة حضاريا والمعقدة جغرافيا هم العرب المسلمون وهم يزحفون على الحضارة الفارسية حتى الوصول الى اطراف الصين شرقا ، والتغلب على الحضارة الرومية غربا ، وهما اقوى حضارتي العالم انذاك ، وكذالك ايصال العرب المسلمون الحضارة الاسلامية حتى الاندلس بعد تجاوزهم فتح مصر ومن ثم الوصول الى افريقيا البربرية آنذاك ؟.
ومن ثمّ كان لابن خلدون هفواته التحليلية والتقيمية لهذه الظاهر او تلك من الظواهر الاجتماعية ، كما ان له نزواته (القبلية ) ايضا في رؤاه الاجتماعية والتاريخية ، والتي اضعفت من اصالته الفكرية الاجتماعية التي دعى لها هذا العالم الاجتماعي ، ومن الحق القول ان ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع العربي نظر الى الصورة العربية من الداخل وهي مقيدة بزمان معين ومحدد طغت بها الرمزية القبلية العربية لتصور له الانسان العربي في آخر مراحل سقوط حضارته الاسلامية وهو بالنزع الاخير لعالم الانسان العربي ، وهو يعالج كل السبل ليبتعد شيئا فشيئا عن تحضره الاسلامي وليرتمي اخيرا الى قواه القبلية في سبيل الصراع من اجل السلطة ؟.
نعم ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع العربي ، والذي هو وبنفس الوقت اسؤأ من طبق علمه الاجتماعي على المجتمع العربي تطبيقا عمليا ، ليصل الى نتائج هي اقرب الى الرؤية السياسية للمجتمع العربي منها الى الرؤية العلمية لظواهر المجتمع العربي بصورة اوسع من زمن محدد كان عنوانه نهاية الدورة الحضارية للعالم العربي والاسلامي ؟.
.......................( المجتمعيه العربيه .. اسلاميا )
1-لاريب ان الحاجة لمدرسة اسلامية متخصصة في علم الاجتماع العربي بالخصوص والانساني بالعموم اضحت حاجة ملحة جدا ، وذالك لما تتعرض له المجتمعية العربية من تحديات فكرية واجتماعية من جهة ، وما للعقل الاسلامي من قواعد ورؤى ونظرات متوازنة للشأن الاجتماعي العربي والانساني من جهة اخرى ؟.
كما انه ومن الزاوية الاخرى للمعادلة ، اصبحت مقولة ان نأتي بمدرسة غربية الملامح والاتجاهات الفكرية في علم الاجتماع ، لنطبق استنتاجات ورؤى هذه المدارس الغربية والغريبة على المجتمع العربي او الاسلامي ، اصبحت مثل هذه المقولات بالاضافة لكونها مقولات غير علمية فهي كذالك مقولات لم تدرك اي معنى من معاني وضائف علم الاجتماع وكيفية ان يكون علما منطلقا ومتولدا من واقعه الذي يريد ان يناقش وينظرّ وينتقد ويدعم .... هذه الظاهرة او تلك من ظواهره الاجتماعية ؟.
وربما كان على حق الاستاذ المرحوم الدكتور علي الوردي استاذ علم الاجتماع العراقي والعربي عندما التفت الى كون علم الاجتماع هو وليد بيئته ومجتمعه وتراثه وتاريخه الخاص ، والذي له منتجات ومشاكل وتصورات وتراكيب ..... اجتماعية تختلف حسب اختلاف هوية الامة ومرتكزاتها القومية لهذا الشعب او ذاك ، فهو يقول ومقولته حقيقة بهذا الصدد :( اننا بحاجة الى علم اجتماع خاص بنا يستمد اطاره من تراثنا الاجتماعي ويستند على دراسة واقعنا .
لست بهذا انتقص من قيمة علم الاجتماع الحديث او استهين باهميته في دراسة مجتمعنا ، أنما يجب ان لانكون فيه مقلدين حيث ناخذ بكل ماجاء به من نظريات ومفاهيم ثم نحاول تطبيقها على مجتمعنا ، بغض النظر عن الفروق بينه وبين المجتمع الذي نشأ فيه علم الاجتماع الحديث ...).
وهذا المنظور المعرفي لعلم الاجتماع العربي ، كما انه مفهوم له مصداقه الواقعي والعلمي على ارض الاجتماعية العربية ، كذالك هو منظور له مصداقه النفسي والروحي والفكري والسلوكي ...، في كيانية الفرد العربي ايضا باعتباره النواة لهذا المجتمع العربي والذي يتصاعد ببناء هرمي من الفرد الى الاسرة الى التجمع العربي بصورة خاصة ؟.
هناك من يعتقد - وهو غير محق في اعتقاده هذا - ان مايسمى بعملية التفاعل الحضاري والتعارف والتمازج والتزاوج ....الخ الانساني تفترض ان لايكون هناك خصوصيات لهذا المجتمع على ذاك وان النظام السياسي - مثلا - او الايدلوجي او الاقتصادي .....، بما انه مثمر وناجح في هذه البقعة الاجتماعية الانسانية من هذه الارض ، فهو بالضرورة النظام الاكثر فاعلية ونجاحا على المجتمع الانساني بصورة مطلقة ، وعليه فلا جغرافية ولا خصوصية اجتماعية او نفسية ولا مميزات قومية او تراثية ....الخ ، لها عنصر المدخلية في موضوعة علم الاجتماع او غيره لنقرر اننا بحاجة لعلم اجتماع خاص بنا كما يقرر الاستاذ الوردي في دعوته لعلم اجتماع عربي خاص ؟.
والحق ان مثل هذه الرؤية هي اقرب الى براءة الاطفال من الاعتقاد الذي يسعى لدراسة أمم وشعوب وانسانية هي موجودة بفلسفة الاختلاف الكوني والاجتماعي والفكري والنفسي ....الخ ؟.
نعم الجانب المعرفي وكما تقرره الاطروحة الاسلامية كمدرسة انسانية بامتداد لاهوتي ، هو جانب مفتوح في عملية التعارف ( لتعارفوا / قران كريم ) كما هوايضا الجانب العلمي العالمي والذي لايدرك خصوصية الجغرافية والحد ( أطلبوا العلم ولو في الصين ) ، ولكن المعرفة شيئ وخصوصية المجتمعات واختلاف تراثها النفسي والروحي والفكري والجغرافي وتضارب مصالحها ، وخلفياتها التاريخية وصياغة شخصياتها القومية ........الخ ، شيئ اخر تماما لعملية الانفتاح الحضاري المعرفي والعلمي ؟.
ان اي مجتمع انساني ، وحسب ماتفرضه عليه العوامل الجغرافية والبيئية من جهة ، والعوامل التاريخية والنفسية والتربوية ..... وحتى الوصول للوراثية الاسرية ، هو بنوع او بأخر مجتمعا له مميزات ما فرض عليه من عوامل مذكورة انفا ، والتي شكلت من هنا وهناك اساليب وانماط وسلوكيات وتصورات واذواق ....... هذا المجتمع او ذاك عبر قرون متطاولة ، كما انها العوامل التي نوعت بتراكيب المجتمع الانساني والهمته كل وجوده القومي او الفكري او ...الخ ، من التنوعات الانسانية بكل اطياف تنوعات الظواهر الاجتماعيه لهذه المجتمعات الانسانية ؟.
وعليه كان المجتمع العربي باعتبار انه مكونا مجتمعيا من المجتمعات الانسانية ، له مميزاته المجتمعية فكريا وفنيا ذوقيا وعقائديا سياسيا واقتصاديا اجتماعيا وفرديا ........ ، تعكس بصورة طبيعية كل مشاكلها الانسانية الاجتماعية ، ولتبحث بعد ذاك عن اطار علمي يلملم كل تلك الظواهر ليصيغها بعلم اجتماعي يحمل قوانين وثوابت ومتحركات ومتغيرات .... هذا المجتمع ، ومن ثم يحمل معالجات ووصفات وبرامج لكل الازمات والعقد والامراض التي تقف عائقا امام تطور هذا المجتمع العربي او تساعد على نموه وتقدمه ؟.
ومن هنا كان الحق مع الدكتور الوردي الذي ادرك فلسفة التنوع الانساني الاجتماعي والذي يقضي بحتمية انشاء مدارس اجتماعية متنوعة كل منها يعالج مشاكل هذا المجتمع او ذاك ؟.
ان مجتمعنا العربي وكصورة واقعية لهذا الانسان العربي ، له خصوصيته الاجتماعية التي ركبت هياكل نفسية وروحية واخلاقية واسرية ........ تجعل من هذا النموذج الاجتماعي وحدة قائمة بذاتها ، كما وان لها اشكالياتها وظواهرها الاجتماعية الخاصة ، والتي هي بحاجة لاليات فكرية وادوات علمية ومناحي معرفية اجتماعية قادرة على ادراك المشاكل العربية وحل رموز تعقيداتها المحلية ، باسلوب هو اقرب الى العقلية الاجتماعية العربية منها الى العقلية الاجنبية والغريبة عن واقع هذا الانسان العربي ، وذالك حقا لضمان قيام علم اجتماعي فاعل وحقيقي في الساحة العربية ، اما لو فرضنا غير هذا الاتجاه والمنحى العلمي والاجتماعي ، فان العملية واللوحة ستبدو معقدة وغامضة وغير منسجمة مع نفسها علميا ، لنصل الى حقيقة الوقوع بفخ ( ازدواجية ) التناقض بين اليات وادوات العلم الاجتماعي ، وبين اشكاليات وظواهر المجتمع المجتمع العربي القائمة ؟.
بمعنى اخر : ان علم الاجتماع الحديث وما يحمله هذا العلم من رؤى يقدمها للمجتمع باعتبار انها الاطر او النظم الاجتماعية الاكثر فاعلية وايجابية لتطوره وتحركه وتقدمه ، فهو (علم الاجتماع الحديث ) بالاضافة لكونه عقلا دارسا ومفكرا في الظاهرة الاجتماعية وباحثا عن جذورها واسبابها فهو كذالك عقل مفكر ودارس للنموذج الاجتماعي الامثل وتقديمه للمجتمع باعتبار انه الاكثر قدرة على التحريك والتقدم الاجتماعي ، وهنا يكون علم الاجتماع ليس فقط باحثا في الظاهرة الاجتماعية بل هو كذالك مفكرا في الحل وصائغا للنموذج الاجتماعي ، والذي ربما يكون نموذجا متصلا بالجانب السياسي او الاقتصادي او الفكري او النفسي او الاجتماعي او الفردي .....الخ .
ومن هنا تبرز ملامح خطورة علم الاجتماع ، وما يمثله لهذا المجتمع او ذاك ، فلو فرضنا - مثلا - عقلا اجتماعيا غربيا او مغتربا ثقافيا ، استهدف وضع اسس او اراد تحليل ظاهرة اجتماعية عربية ، فانه حتما سيقع في فخ الازدواجية العلمية لعلم الاجتماع ، باعتبار ان هذا العقل الاجتماعي الغريب او المغترب عن واقع المجتمع واساليب تفكيره وتصوراته للاشياء ، ودوافع عواطفه ....الخ ، بالاضافة لما يحمله ذاك العقل الاجنبي من ممونات عاطفية وتراثية وفكرية وسلوكية ...، مختلفة عن الواقع او الظاهرة الاجتماعية المراد تحليلها وتفسير منشأها ووضع الحلول لها، فعندئذ حتما نحن امام عقل اجتماعي سيخطئ في تشخيص نوعية الظاهرة الاجتماعية العربية ومن ثم تقييمها بشكل خاطئ ، واخيرا وضع الحلول الغير مناسبة لهذه الظاهرة السلبية او تلك في مجتمعنا العربي ، مما يعمق من تعقيد الظاهرة وليس فهمها او تحليلها او وضع الحلول الاجتماعية الواقعية لها ؟.
ان ممن درس المجتمع العربي الحديث على اسس العقل الاجتماعي المعاصر ووقع في مثل هذه الاشكاليات العلمية الكثير ممن انخرطوا بحماس كبير للمنتج الغربي وحاولوا نقل المنتج الغربي الصناعي بكل اشكاله العلمية سواء الفلسفية الفكرية او السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية او النفسية ..... ، بدون اي التفات لموضوعة (الخصوصية ) العربية ، مما انتج وبصورة طبيعية عملية ارباك اجتماعية للمجتمع العربي وعلى كافة الاصعدة العلمية ، وبدلا من ان تساهم تلك الاطر الفكرية او السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية ..، بتطوير المجتمع العربي او معالجة مشاكله الاجتماعية ، بدلا من ذالك شتتت الصورة الاجتماعية العربية وزرعت داخل كيانه (الازدواجية ) الفكرية والنفسية والروحية ، بحيث اصبح الفرد العربي يرى كل شيئ بمنظارين الاول منهما يناقض الاخر تماما ، واما سبب ذالك فمذكور انفا ؟.
والحقيقة ان هذا الوضع المعقد فرض على النموذج العربي فرضا وهو يلاقي حضارة غربية صناعية تستهدف فرض نموذجها الحضاري بالقوة ، سواء كانت قوة استعمارية عسكرية او تكنلوجية علمية او اعلامية او اقتصادية ....، فان مايتبع كل صراع حضاري من هذا النوع دخول قائمة عملاقة ، او منظومة هائلة من القيم الاخلاقية والموازين الفكرية والنفسية والروحية لاي حضارة قوية تريد فرض نموذجها الحضاري ، مما يعني فرض اخر لمنظومة قيم تفرض مع القوى الحضارية المادية الاخرى عسكرية او اقتصادية او تكنلوجية ، وطبيعي ان تكون تلك القيم مختلفة تماما عن القيم الاجتماعية الانسانية الاخرى ، مما يحتم عملية صراع قيم مرادفة لعملية صراع مادية ، وهنا يكون حساب الغالب والمغلوي في اجندة علم الاجتماع العربي ( حسب مايراه ابن خلدون من تشبه الغالب للمغلوب في عوائده وتقاليده واخلاقه اعتقادا منه بان سبب قوته تكمن في هذه المنظومة من القيم ) والذي وقع فيها مفكروا علم الاجتماع العربي الحديث ، وبما فيهم الاستاذ المرحوم علي الوردي ايضا ، من منطلق ان هذه الكوكبة من المفكرين والباحثين الاجتماعيين العرب استهدفوا أقامة علم اجتماع عربي يناقش ويبحث ويدرس ظواهر المجتمع العربي ، ومن ثم يضع ويفسر ويشرح لنا الامتدادات والجذور النفسية والتاريخية لهذه الظواهر ، واخيرا يقدم لنا الحلول العملية والرؤى التي بامكانها ان تزيل العوائق الاجتماعية من امام حركة المجتمع العربي ؟.
ولكن ومع الاسف كان بعض او معظم العقل الاجتماعي العربي الذي حلل الظواهر الاجتماعية العربية خاضعا بشكل وباخر للانبهار الطبيعي لمنظومة القيم الوافدة من الغرب الحضاري المعاصر ، وبدلا من يرى الظواهر الاجتماعية العربية بعين اجتماعية عربية ، وجدناهم ينظرون للظواهر العربية الاجتماعية العربية بكل تفاصيلها بعيون غريبة عن الواقع العربي وبمنظومات فكرية جاءت مع دراساتهم الاوربية التي حملوها للعالم العربي ، مما انتج تشوه في كل علم الاجتماع العربي فكرا وممارسة ؟.
نعم الانسان العربي ليس هو المسؤول بممارسة الازدواجية - مثلا - في سلوكه الاجتماعي كظاهرة قتلت روح الابداع في الانسان العربي وزادت من عزلته الاجتماعية الفاعلة ، باعتبار ان منظومة القيم الاخلاقية التي يطرحها علم الاجتماع العربي باعتبار انها اسباب التحضر اليوم هي منظومة لاتنسجم ولم تنبع ولم تنطلق من واقعه الاخلاقي والنفسي العربي ، فهو غير ملزم كفرد وكمجتمع ان يساير او يخضع لهذه المنظومة القيمية والتي يراد لها ان تكون قدره الحضاري رغما عن انفه ؟.
وكذا يقال بباقي الظواهر الاجتماعية التي درسها العقل الاجتماعي العربي المغترب او الغريب عن هذا الواقع الاجتماعي والذي ساهم بشكل فعال في تزييف ابسط مفردات وضائف علم الاجتماع الحديث ؟.
اخيرا : الواقع ان موضوع السوسيولوجية العربية موضوعة واسعة جدا وبحاجة الى بحوث معمقة تبدأ من البناء الحقيقي لصرح علم الاجتماع العربي والذي ينظر للظاهرة الاجتماعية بنظرة علمية خالصة تاخذ بنظر الاعتبار الممونات الحقيقية للظواهر الاجتماعية العربيه بداية من العوامل الدينية- والتي تعتبر في فكر الانسان العربي الممون الاساس لبناء سلوكه الاجتماعي- والجغرافية والتراثية والتاريخية والتربوية والاقتصادية والنفسية .... وحتى الجينية والعنصرية والقومية ، وذالك للوصول علميا الى تحليل وبحث ومعالجة .... علمية للظواهر الاجتماعية العربية والابتعاد قدر المستطاع عن التاثيرات القيمية الحضارية غير العربية لضمان وضع تقييمات فكرية واخلاقية ونفسية قريبة من واقع الحياة العربية ، فربما كان هذا السلوك - مثلا - غير حضاريا بالنسبة لمنظومة قيمية اجتماعية ، ولكنها حضارية وواقعيا وذوقيه بالنسبة لذاك المجتمع لاعتبار ان القيم الحضارية قيم نسبية وليست مطلقة في علم الاجتماع الانساني ، ففعل الظواهر الفردية والاسرية والاجتماعية مختلف التقييم من هنا ومن هناك ، وربما مثل هذه اللمحات التي نطرحها تشكل المدخل الصغير لما ينبغي ان يؤسس عليه علم اجتماع عربي حقيقي غير منعزل عن العالم الاخر الا انه ملتفت لذاته شاعرا بوجوده قادرا على النظر الى مستقبله بابداع وفكر خلاق .